قراءة في القمة العربية الصينية 2022

عقدت القمة الصينية العربية الأولى في 9 ديسمبر 2022 في مركز الملك عبدالعزيز الدولي للمؤتمرات بالرياض صدر عن القمة "إعلان الرياض ، وتم الإعلان أن الجانبين الصيني والعربي اتفقا على العمل بكل الجهود على بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد. يتفق المراقبون بأن حدث انعقاد القمة في حد ذاته يعد حدثاً تاريخياً مهماً يعكس المستوى الرفيع الذي وصلت إليه العلاقات العربية الصينية، كما يعكس نوعاً من التضامن حتمته طبيعة الأوضاع الدولية الراهنة، إلا أنهم يرون أيضاً أن المسيرة الطويلة نحو قمة الرياض مرت بمحطات عديدة وطويلة مستندة على إرث وتراث طويل وهائل من التبادلات والتعاون الفعال والصبور على طول هذا الطريق فقد مرت العلاقات العربية الصينية بمحطات كثيرة ومهمة كلها أسهمت بطريق أو بآخر في جعل انعقاد هذه القمة حتمياً وممكناً. ففي العصر الحديث بدأ العرب في استئناف علاقاتهما الدبلوماسية مع الصين، حيث كانت جمهورية مصر العربية أول الدول العربية التي اعترفت بالصين الشعبية وذلك في عام 1956. وقد اكتملت علاقات كافة الدول العربية بالصين في عام 1990 عندما أقامت المملكة العربية السعودية علاقات دبلوماسية كاملة مع الصين الشعبية لتبدأ مرحلة جديدة من التعاون بين الأمتين الصديقتين

العلاقات العربية الصينية

تشير وثائق العلاقات العربية- الصينية إلى أن الصين، ومنذ عام 1956، أسهمت في تعزيز البنية التحتية للدولة الحديثة في معظم الدول العربية (سكك حديدية، موانئ، طرق، منشآت رياضية وصحية )، فيما دعمت قضايا العرب الجوهرية في المحافل الدولية وفي مقدمتها قضية العرب المركزية؛ القضية الفلسطينية، وسيظل أهم تطور في تاريخ العلاقات هو توقيع وثيقة المنتدى العربي- الصيني في عام 2004. لقد أُعتبر توقيع هذه الوثيقة بأنه أهم تطور في العلاقات العربية الصينية في ذلك الوقت. ونلاحظ أنه قد تم أيضاً في يوليو 2004 توقيع اتفاقية أخرى ضمت الصين ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الست، وهي الاتفاقية الإطارية للتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني، والتي فتحت الطريق أمام بدء مفاوضات إقامة منطقة التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون. وبعد مرور ما يقرب من الست سنوات على توقيع وثيقة المنتدى، وقع العرب والصينيون في مايو 2010 وثيقة مهمة أخرى وهو بيان إقامة علاقات التعاون الاستراتيجي المبنية على التعاون الشامل والتنمية المشتركة، في وقت وقعت أيضاً دول مجلس التعاون الخليجي مع الصين في العام نفسه مذكرة الحوار الاستراتيجي. لقد استمر الزخم في العلاقات العربية- الصينية، حيث وقعت معظم الدول العربية منفردة أيضاً على اتفاقيات تعاون استراتيجي ثنائية، كما كانت كافة الدول العربية قد وقعت بحلول 2005 اتفاقيات تعاون ثقافي وتربوي، فيما وقعت الجامعة العربية اتفاقيات تعاون وحوار استراتيجي في عدة مجالات

هذا الزخم الجديد في العلاقات بين الأمتين، ومستوى الثقة السياسية المتبادلة بينهما، سهل انضمام وتأييد الدول العربية لمعظم مبادرات الصين الإقليمية والدولية. على سبيل المثال، انضمت الدول العربية إلى مبادرة الحزام والطريق، كما دعمت مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمية التي تدعوا إلى استبدال المواجهة بالحوار، والإكراه بالتشاور، والتحالفات بالشراكات، كما انضم عدد من الدول العربية إلى مبادرة الوساطة العالمية، بل إن عدداً من الدول العربية انضم إلى مؤسسات إقليمية ودولية مثل "مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا" CICA، ومنظمة شنغهاي للتعاون. كما قد تنضم دول عربية، في مقدمتها مصر والمملكة العربية السعودية، إلى مجموعة BRICS التي تحظى بثقل صيني مهم. هذا العدد المهم من الاتفاقيات والآليات والأطر العربية- الصينية، عمق هذه الشراكة الجديدة والمتنامية والمستقرة بين الجانبين، كما عكست حجم الثقة السياسية الاستراتيجية التي بات من الصعب التأثير عليها


على الصعيد الاقتصادي والتجاري نلاحظ التزامن بين تنامي الثقة الاستراتيجية السياسية والتعاون في المجال الاقتصادي والتجاري. فقد قفز الميزان التجاري بين الجانبين من 36.7 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2004 إلى 330 مليار دولار أمريكي بنهاية عام 2021 . علماً بأن العرب ظلوا شركاء رئيسيين للصين في مجال الطاقة (نفط وغاز)، حيث يمدون الصين بـأكثر من 50% من حاجتها من النفط والغاز المستورد من الخارج. وفي حقيقة الأمر ظلت الدول العربية ملتزمة بالشراكة في هذا القطاع الحيوي بالرغم من الضغوط الغربية التي تظهر من وقت لآخر. وعلى سبيل المثال الأزمة في أوكرانيا التي أظهرت حيوية الشراكات في هذا المجال تؤكد من جديد القيمة الاستراتيجية الحالية والمستقبلية للشراكة العربية الصينية في قطاع الطاقة. الصين من جهتها واصلت عبر شركاتها وآلياتها الاقتصادية الاسهام في تعزيز بناء الدولة العربية الحديثة؛ إذ تشهد مشاريع البنية التحتية العديدة التي تقوم بها الشركات الصينية في الدول العربية، والتي تحظى بالأولوية في إطار مبادرة الحزام والطريق، تشهد تقدما ملحوظاً، ومن بينها على سبيل المثال التحضيرات الخاصة بمشروع "ميناء الوسط بالجزائر، المزمع انجازه بشراكة جزائرية- صينية؛ ومشروع السكك الحديدية بمدينة العاشر من رمضان في مصر، بجانب خطوط شبكات الكهرباء الوطنية وخطوط إنتاج الألياف الزجاجية، ومشروع مركز تجميع وتكامل واختبار الأقمار الصناعية، والعاصمة الإدارية الجديدة، كذلك، المرحلة الثانية لمحطة الحاويات في ميناء خليفة بالإمارات؛ ومشروع توسيع ميناء الصداقة بموريتانيا؛ و"جسر محمد السادس"، وإنجازات تعاونية أخرى بين الصين والمغرب في إطار بناء الحزام والطريق عبر مشاريع استراتيجية من جيل جديد بما في ذلك بشمال المملكة بالمغرب؛ واستاد لوسيل بدولة قطر، ومحطة العطارات لتوليد الكهرباء بالصخر الزيتي بالأردن؛ ومشروع محطة الكهرباء المستقلة بولاية صحار بسلطنة عمان، ومشروع محطة توليد الكهرباء بأعالي نهر عطبرة بالسودان

وكان الرئيس الصيني شيء جين بينغ قد أعلن في كلمته أمام الجامعة العربية في يناير 2016 بأن الصين ستقدم 10 مليار دولار أمريكي قروض خاصة بدفع عملية التصنيع في الشرق الأوسط، كما ستقدم 15 مليار دولار أمريكي لتعزيز الإنتاج الصناعي في المنطقة، بالإضافة إلى قروض ميسرة بقيمة 10 مليارات دولار


معلناً أيضاً عن إنشا صندوقين للاستثمار المشترك بقيمة 20 مليار دولار أمريكي مع كل من دولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة للاستثمار في الطاقة التقليدية. كما أقامت الصين مركزين لمقاصة العملة الصينية في قطر والإمارات. وكان الرئيس الصيني شيء جين بينغ قد أعلن في وقت لاحق بأن الصين ستقدم 20 مليار دولار لإعادة الإعمار في الدول العربية التي تأثرت بالحروب والنزاعات. كما يتقدم باستمرار مشروع منطقة السويس للتعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين ومصر؛ والمنطقة الصناعية الصينية- العمانية في منطقة الدقم بسلطنة عمان، ومنطقة جازان-الصين للتجمعات الصناعية بالسعودية؛ والحديقة النموذجية للتعاون الصيني الإماراتي في الطاقة الإنتاجية. وكان السودان قد اقترح في عام 2021 عددا من المشروعات التنموية المهمة التي وافقت عليها الصين مبدئياً مثل الاسهام في إنشاء حدائق صناعية للمنتجات الزراعية والحيوانية، وإنشا أكبر مسلخ في افريقيا والعالم العربي في غرب أم درمان، ومد خط سكك حديدية من سنار وحتى الحدود السودانية التشادية، وخط يربط السودان وجنوب السودان عبر مدينة بابنوسة وغيرها من المشروعات. وهكذا، خلال 66 عاماً من العمل السياسي والدبلوماسي والاقتصادي الجاد والمسئول، تكاملت خطط واستراتيجيات التنمية إلى حد كبير بين الطرفين العربي والصيني. لاشك إن انعقاد القمة العربية الصينية هو نتيجة حتمية لكل هذا الزخم

وكما أشرنا أعلاه فإن هذه القمة ينظر إليها كلحظة تاريخية وفرصة استراتيجية للدفع نحو نمط جديد للعلاقات العربية- الصينية، خاصة أنها تنعقد في ظروف دولية شديدة التعقيد. على الصعيد السياسي، يعمل الجانب العربي على تجديد الموقف الصيني تجاه قضية العرب المركزية؛ القضية الفلسطينية، حيث سيعيد العرب طرح موقفهم المتفق عليه في قمة الجزائر الأخيرة (نوفمبر 2022) المبني على قيام دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة على خطوط 4 يونيو1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة والتعويض للاجئين، والتمسك بمبادرة السلام العربية لعام 2002. وجددت الصين في هذا الشأن دعمها للموقف العربي الصادر عن قمة الجزائر. وقد أكدت القمة أيضاً على رفض كافة التدخلات في الشئون الداخلية للدول العربية، وأكد الطرفان على ضرورة زيادة التنسيق في المحافل والمنظمات الدولية

وجدد العرب في بيان القمة الختامي مواقفهم الثابتة حول القضايا والمشاغل الجوهرية للصين وفي مقدمتها تايوان، حيث أكد العرب مرة أخرى أن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة التي تمثل الصين بأسرها، وأن تايوان جزء لا يتجزأ من جمهورية الصين الشعبية، ومعارضة "استقلال تايوان" بكافة أشكاله، وعدم إقامة علاقات رسمية مع تايوان أو القيام بأي تواصل رسمي معها، واعتبار المسائل المتعلقة بمنطقة التبت وهونغ كونغ وشينجيانغ شأناً صينياً داخلياً، ورفض قيام قوى التطرف الديني والقوى الانفصالية القومية والقوى الإرهابية بالنشاطات الانفصالية والمعادية للصين


كما أعلن العرب دعمهم لعدد من المبادرات الصينية مثل مبادرة الحزام والطريق، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمية، وكان هناك توافق عربي صيني تجاه هذه المشاغل والقضايا والمبادرات. أيضا تم الأتفاق أن تدعم الصين خلال هذه القمة التوجهات العربية الأخرى، ومنها على سبيل المثال دعم الصين مبادرة الشرق الأوسط الأخضر التي أطلقتها المملكة العربية السعودية، كما ستدعم استضافة السعودية لمعرض اكسبو 2030، كما ثمنت الصين السياسة المتوازنة التي انتهجها تحالف "أوبك+" من أجل ضمان استقرار الأسواق العالمية للطاقة ضمن مقاربة اقتصادية تحمي مصالح الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء. الصين سوف تدعم الدول العربية في سعيها لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. كما دعمت دولة الإمارات العربية المتحدة في التحضير لاحتضان الدورة (28) لمؤتمر الدول الأطراف في الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة حول تغير المناخ، وأتفق الطرفان العربي والصيني على موقف موحد من الحرب في أوكرانيا يقوم على دعم جميع الجهود التي تفضي إلى التسوية السلمية للأزمة ونبذ استخدام القوة والسعي لتغليب الحلول السلمية لإنهاء الحرب هناك. ومن الممكن أن يلعب العرب والصينيون دوراً في جهود الوساطة ومفاوضات السلام


على الصعيد الاقتصادي، دعت الصين إلى ضرورة تنفيذ المشروعات المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق، وزيادة التعاون في مجالات ومشروعات البنية التحتية، وربط الدول العربية بشبكات طرق سريعة، وسكك حديدية، كما دفعت بأهمية تطوير موانئ جديدة، وزيادة التعاون في مجال التكنولوجيا الفائقة، وشبكات الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، والفضاء، والتكنولوجيا النووية للاستخدام السلمي مثل تحلية مياه البحر وغيرها، والتعاون في مجال الطاقة المتجددة، والتجارة الالكترونية. ألقت القمة الضوء على مبادرة التنمية العالمية التي طرحها الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال مشاركته في المناقشة العامة للدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 سبتمبر 2021 وأهميتها للدول النامية وللتعاون العربي الصيني، وكيفية الاستفادة منها، وإمكانية تقديم الصين الدعم الاقتصادي والفني للدول العربية من خلال هذه المبادرة. سيأخذ التعاون في مجال الطاقة جانباً مهماً وأساسياً في هذه القمة، كما بحثت القمة في كيفية تعزيز التعاون في هذا المجال والدفع بشراكة جديدة شاملة في هذا القطاع. ودفعت الصين بشراكات جديدة في مجال الاستثمار، كما تقدمت برؤية اقتصادية جديدة تتضمن تقديم مساعدات اقتصادية وزيادة الاستثمارات الصينية في الدول العربية


ختاما" أكد شيء جينبينغ أنه في الوقت الراهن، دخل العالم مرحلة جديدة من الاضطراب والتحول، وتشهد منطقة الشرق الأوسط تغيرات جديدة وعميقة. باتت رغبة الشعوب العربية في السلام والتنمية أكثر إلحاحا، واشتدت نداءاتها الداعية إلى الإنصاف والعدالة. في هذا السياق، على الجانبين الصيني والعربي، باعتبارهما شريكين استراتيجيين، توارث وتطوير روح الصداقة الصينية العربية، وتعزيز التضامن والتعاون، وبناء مجتمع مستقبل مشترك أوثق بين الصين والدول العربية، بما يعود بمزيد من الفوائد على شعوب الجانبين ويساهم في قضية التقدم للبشرية

علينا التمسك بالاستقلالية وصيانة المصالح المشتركة ، فالجانب الصينى يدعم جهود الدول العربية لاستكشاف الطرق التنموية التي تتماشى مع ظروفها الوطنية والتحكم في مستقبلها ومصيرها في أيديها. ويحرص الجانب الصيني على تعميق الثقة الاستراتيجية المتبادلة مع الجانب العربي، وتبادل الدعم الثابت في مساعي الجانب الآخر إلى الحفاظ على سيادة البلاد وسلامة الأراضي والكرامة الوطنية. وعلى الجانبين التمسك بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وتطبيق تعددية الأطراف الحقيقية والدفاع عن الحقوق والمصالح المشروعة للدول النامية




المراجع

(د. جعفر كرار أحمد, 6.12.2022,القمة العربية الصينية نحو بناء مجتمع عربي صيني ذي مصير مشترك, مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية).

(ب.ن,10.12.2022, شي جينبينغ يحضر القمة الصينية العربية الأولى ويلقي كلمة رئيسية -- تأكيدا على تكريس روح الصداقة الصينية العربية المتمثلة في التضامن والتآزر والمساواة, موقع CGTN

د. محمد فايز فرحات 7 k.12.2022,العرب والصين, مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية

المقالات الأخيرة