كيف تعمل بريطانيا على توسيع حضورها في أفريقيا جنوب الصحراء

تمهد بريطانيا لنفسها كقوة لها اعتبارها على الخريطة الدولية، بعد حسم أمرها في الخروج من الاتحاد الأوروبي، فكانت أفريقيا أول مراسم هذا التموضع الجديد، حيث عقدت قمة الاستثمار الأفريقية البريطانية في 20يناير/ 2020، بالعاصمة لندن، وبحضور ممثلين لنحو خمسين دولة أفريقية.

ومنذ مطلع الألفية الثالثة، وقمم الشراكة الاقتصادية تتواصل بين أفريقيا والدول الكبرى والصاعدة، مع أميركا والصين والاتحاد الأوروبي وتركيا، وكانت هناك قمة عربية أفريقية، ولكنها لم تحظ بما ظفرت بها الفاعليات مع الكيانات الأخرى.


وكان مقررا أن تُعقد القمة العربية الأفريقية الخامسة بالرياض في نوفمبر/ 2019، إلا أن السعودية رأت تأجيلها، لتعقد في الربع الأول من 2020.

وتأتي أهمية تركيز بريطانيا وغيرها من الدول الكبرى والصاعدة لعلاقات اقتصادية وتجارية جيدة مع أفريقيا لعدة أسباب، أهمها أن الأخيرة ما زالت قارة بكرا، ومصدرا مهما للمواد الأولية، فضلا عن أن العديد من البلدان الأفريقية نجحت مؤخرا في الخروج من النزاعات العسكرية واتجهت لبناء تجارب ديمقراطية تساعد على الاستقرار الاقتصادي، لذلك تشهد أفريقيا أعلى معدلات النمو على مستوى العالم خلال الفترة الماضية.

ولا ينبغي أن ننسى أن معظم الدول الأفريقية كانت مستعمرات بريطانية حتى منتصف القرن العشرين، وبلا شك فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف يجعلها تعيد النظر في خريطة علاقاتها الاقتصادية والتجارية على مستوى العالم.


وتعد أفريقيا بالنسبة لبريطانيا سوقا يستحق الاهتمام والتركيز، خاصة وأن هذه القارة تفتقد لوجود كيان واحد يمثلها في تعاملاتها الاقتصادية مع الآخر.

وعلى الرغم من وجود الاتحاد الأفريقي ككيان يضم غالبية دول القارة لكن في النهاية تتعامل كل دولة بمفردها في علاقاتها الخارجية على الصعيد الاقتصادي، وهو ما يعطي بريطانيا ميزة أفضل، ويمثل نقطة قوة بالنسبة لها أمام كل الدول الأفريقية.

حيث انه أشارت لوسي نيفيل رولف وزيرة الدولة في مجلس الوزراء البريطاني، خلال زيارتها إلى نيجيريا في 17 فبراير 2024 إلى إنفاق الحكومة البريطانية أكثر من 300 مليون جنيه إسترليني على تنفيذ برامج حفظ السلام في أفريقيا خلال عام 2023 بهدف تعزيز الأمن وضمان الاستقرار الإقليمي هناك.

ويعكس ذلك حجم تحركات بريطانيا تجاه القارة الأفريقية خلال الفترة الماضية، التي تستهدف في الأساس توسيع دائرة تحالفاتها الدولية، وكسب مناطق نفوذ جديدة؛ وذلك بهدف تعظيم النفوذ وحماية المصالح الحيوية البريطانية هناك، باعتبار ذلك جزءاً من رؤيتها العالمية حول مد النفوذ البريطاني إلى مناطق استراتيجية أخرى مثل أفريقيا عقب الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست" في يناير 2020، بجانب مساعي الحكومة البريطانية لإظهار التزامها بأمن القارة التي تشهد سياقاً أمنياً مضطرباً في العديد من المناطق، مثل الساحل وغرب وشرق أفريقيا، في محاولة لجذب الرأي العام الأفريقي لتحسين صورتها في ظل تصاعد مشاعر العداء تجاه الغرب، وخاصة فرنسا خلال السنوات الأخيرة هناك.

علاقات كثيفة


تكشف التحركات البريطانية عن ملامح عامة للسياسة البريطانية الرامية إلى تعزيز التوجه نحو أفريقيا بهدف تحقيق أهداف ومصالح حيوية واستراتيجية متنوعة. ويمكن الإشارة إلى أبرز ملامح تلك السياسة على النحو التالي:

- توظيف بريطانيا المدخل الأمني في سياستها تجاه أفريقيا: أكد جيمس كليفرلي وزير الخارجية البريطاني، خلال جولته الأفريقية إلى دول غانا ونيجيريا وزامبيا في يوليو 2023، أنه يتعين على بلاده تكثيف تعاملاتها مع الدول الأفريقية بشأن إجراءات أمنية مستدامة؛ وذلك من أجل فتح قنوات اتصال مع الدول الأفريقية لبناء علاقات قوية تمثل مدخلاً لنفوذ بريطاني قوي في القارة من خلال بوابة التعاون الأمني والعسكري. وقد أبدت بريطانيا استعدادها لمساعدة الدول الأفريقية في بناء قدراتها العسكرية وتدريبها، بما يعني إمكانية تصدير الكفاءة المهنية للجيش البريطاني للقارة الأفريقية، في إطار السعي لتوطيد العلاقات البريطانية الأفريقية على المستوى الأمني الذي يشكل محدداً حاكماً في علاقات الأفارقة مع المجتمع الدولي لاعتبارات السياق الأمني الأفريقي المضطرب بفعل الصراعات وانتشار الإرهاب على نطاق واسع.

- توطيد العلاقات الأمنية بين كينيا وبريطانيا: هناك عدد من الدول الأفريقية تمثل نقاط ارتكاز استراتيجية مهمة بالنسبة إلى المقاربة الأمنية البريطانية تجاه أفريقيا الرامية إلى تعزيز النفوذ البريطاني الذي يرتكز بدوره على محورين أساسيين؛ هما محاربة الإرهاب ودعم الجيوش الأفريقية لوجستيّاً وماديّاً؛ ففي شرق أفريقيا، تعتبر كينيا حليفاً مهماً بالنسبة إلى بريطانيا، وتعد هي الشريك الرئيسي لبريطانيا في الأمن والسلام في شرق أفريقيا، بما في ذلك الأزمات في السودان ومعالجة مخاطر حركة الشباب المجاهدين الصومالية.


فقد أقامت بريطانيا شراكة مع كينيا بشأن الأمن الإقليمي والسلام والاستقرار لحماية المصالح البريطانية في البلاد والمنطقة؛ حيث وقع البلدان اتفاقاً أمنيّاً في مايو 2023 يمثل معلماً مهماً في مسار العلاقات الأمنية بينهما. ويشمل الاتفاق الأمني تمويلاً بريطانياً بقيمة 10 ملايين دولار سنويّاً لدعم برامج مكافحة الإرهاب، فضلاً عن التزامات بشأن الدفاع والتعاون الدولي وأمن المجتمع وإنفاذ القانون والعدالة الجنائية والأمن السيبراني والتنسيق الثنائي والمتعدد الأطراف.

وفي يوليو 2023 عززت بريطانيا شراكتها الأمنية مع كينيا، وأسهمت في تطوير وحدة كوماندوز بحرية كينية، وتعهدت بمواصلة التعاون مع السلطات الكينية لضمان بقاء المنطقة الساحلية آمنة للمواطنين والأجانب، كما أسست لندن وحدة شرطة لمكافحة الإرهاب في مومباسا الكينية بقيمة 81 مليون شلن كيني، وشاركت في تمويل شراء قارب غوص بجانب تسليم وحدة للتحكم في الأضرار إلى البحرية الكينية ووحدة الحرائق التي تم التبرع بها في عام 2022.

وقد وقع وزير الدفاع البريطاني السابق اتفاقاً أمنيّاً مع كينيا في يناير 2021 بهدف تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي بينهما، فيما أجرت لندن تدريبات عسكرية مشتركة مع الجيش الكيني في عامي 2020 و2021، كما وقع الطرفان اتفاقية تعاون دفاعي في يوليو 2021لمدة خمس سنوات، وهي الوثيقة التي يتم تجديدها بشكل روتيني منذ توقيعها في أغسطس 2015، وتمكن الطرفين من تبادل المعرفة والخبرة العسكرية وتسمح بالتعاون في الصناعات الدفاعية بين الجانبين. وإن كان دافعها الأساسي هو تقنين الأنشطة العسكرية البريطانية في كينيا.

كما تقدم بريطانيا دعماً عسكريّاً واسعاً لكينيا من خلال دعم البنية التحتية لقواعد قوات الدفاع الكينية، وتدريب أكثر من 1100جندي كيني سنويّاً، وهي التدريبات التي تركز على تدريب الجنود قبل انتشارهم في الصومال، بينما يحظر على القوات البريطانية المشاركة في الأعمال العدائية أو العمليات العسكرية على الأراضي الكينية، كما يحظر القيام بأي عمليات تدعم قوات الدفاع الكينية أو الشرطة أو قوات الأمن الأخرى من أجل الحفاظ على السلام والأمن الداخلي.


- التزام بريطانيا بأمن واستقرار الصومال: تؤكد بريطانيا التزامها بأمن واستقرار الصومال لمواجهة التهديدات الأمنية هناك؛ فقد دعمت القوات الصومالية المشاركة في بعثة أتميس خلال السنوات الماضية بنحو 4.5 مليون دولار، كما أجرت القوات البريطانية تدريبات عسكرية منذ عام 2019 لنحو 500 جندي صومالي لرفع كفاءتهم القتالية والتدريبية لمواجهة الإرهاب في البلاد، وزودت الجيش الصومالي في سبتمبر 2020 ببعض المعدات العسكرية اللازمة لمحاربة الإرهاب.

فيما تدعم الحكومة البريطانية استراتيجية مكافحة الإرهاب في الصومال، وتعمل مع الشركاء الدوليين الرئيسيين لإضعاف حركة الشباب والقضاء عليها. ويشمل ذلك تقديم الدعم لإصلاح قطاع الأمن، وتطوير قوات الشرطة ومساعدة قوات الأمن؛ إذ موَّلت بريطانيا الصندوق الاستئمانى لمكتب الأمم المتحدة للدعم في الصومال – وهو المكتب الذي تعد بريطانيا مانحه الرئيسي – بقيمة 5 ملايين دولار في سبتمبر 2023، فيما بلغ حجم الصادرات العسكرية من بريطانيا للصومال خلال الفترة بين عامي 2012 و2022 بقيمة 8.1 مليون دولار، كما أطلقت لندن برنامجاً جديداً رئيسيّاً لمدة ثلاث سنوات بقيمة 10 ملايين دولار بهدف تحقيق الاستقرار من خلال دعم المجتمعات المحلية في المناطق الحدودية للصومال وبخاصة كينيا وإثيوبيا.


- تعميق الحضور البريطاني في الساحل وغرب أفريقيا: أما في الساحل وغرب أفريقيا، فيبرز الاهتمام البريطاني بتعميق العلاقات مع كل من نيجيريا وغانا باعتبارهما نقطتي ارتكاز رئيسيتين في المنطقة؛ وذلك في إطار التخوف البريطاني من انتشار انعدام الأمن هناك؛ ما يؤثر على شمال بنين وتوجو بما يهدد الأسواق التجارية والاستثمارية المستهدفة في أبوجا وأكرا. وتتفق بريطانيا وغانا على أن الأمن الإقليمي لا يزال يمثل أولوية، وأن حلول الأمن الإقليمي يجب أن تقودها دول المنطقة. ولا يزال البلدان ملتزمين بالعمل من خلال مبادرة أكرا كمبادرة إقليمية للتصدي للإرهاب، وملتزمين بالعمل بشكل تعاوني من أجل تحقيق هذه الرؤية. وهناك اتفاق بين البلدين على توسيع التعاون والشراكة الدفاعية لتعزيز دور غانا القيادي الإقليمي، خاصة أن هناك حواراً أمنيّاً انعقد بينهما في عام 2022، كما يلتزم البلدان بمواصلة تعزيز التعاون في التصدي للجريمة المنظمة والبناء على العلاقات الفعالة بينهما لمنع الجريمة المنظمة.


وتعد بريطانيا ونيجيريا شريكين أمنيين واقتصاديين في غرب أفريقيا؛ حيث دعمت بريطانيا نيجيريا في الحرب ضد بوكو حرام خلال السنوات الماضية. وبعد اتفاق أُبرم في عام 2018 تبلورت الشراكة الأمنية والدفاعية بين البلدين في فبراير 2022؛ إذ تسعى لندن إلى لعب دور في تعزيز أمن نيجيريا من أجل معالجة بعض التحديات المهمة؛ من تهريب المخدرات إلى الجرائم الإلكترونية والنزوح البشري.

ويسهم التمويل البريطاني في مساعدة قطاعات كبيرة من المتضررين من العمليات الإرهابية لإعادة الاستقرار في مجتمعاتهم، ودعمهم على المستويين النفسي والاجتماعي، كما يشمل المساهمة في الجهود الرامية لتحقيق الاستقرار في المجتمعات المحلية في حوض بحيرة تشاد بعد أكثر من عقد من العنف من قبل الجماعات المتطرفة، فيما تشارك القوات البريطانية في تدريبات مشتركة مع بعض دول غرب أفريقيا مثل غانا وكوت ديفوار والسنغال؛ حيث شاركت في تدريب دولي يطلق عليه اسم نيمو الأفريقي الكبير مع 29 قوة بحرية أفريقية وأوروبية وأمريكية.


- التوسع في تطوير القواعد العسكرية بأفريقيا: طورت بريطانيا البنية التحتية في قاعدتي لايكيبيا الجوية وكاهاوا الكينيتيْن؛ بحيث تدفع لندن رسوم استخدام للحكومة الكينية بشكل سنوي بقيمة 71 ألف دولار للأولى، و197 ألف دولار للثانية، كما تحتفظ بريطانيا بقاعدة عسكرية تضم نحو 230 عسكرياً في كينيا بمعسكر نياتي في منطقة نانيوكي، بينما يتمركز نحو 50 عسكرياً بريطانياً في مطار مقديشو الدولي بالصومال، بجانب مركز التدريب الأمني في منطقة بيدوا. ولدى بريطانيا وجود عسكري صغير نسبيّاً في معسكر ليمونييه (القاعدة الأمريكية) بجيبوتي، وهو ما يعزز إيجاد بريطانيا موطئ قدم استراتيجي في عدد من المناطق الاستراتيجية في شرق القارة، كما أن لديها بعض الوجود العسكري في غرب أفريقيا والساحل.


- دعم البعثات الأممية والدولية لحفظ السلام: يمثل الدعم اللوجستي والمادي الذي تقدمه بريطانيا للبعثات الأممية لحفظ السلام جزءاً من سياسة بريطانية تستهدف تعزيز نفوذها في الساحة الأفريقية؛ فقد حظيت عملية برخان الفرنسية بدعم برنامج "الساحل: الدفاع والأمن" البريطاني، الذي يهدف إلى إبراز النفوذ البريطاني من خلال التعاون المتعدد الأطراف وزيادة تعزيز القيم الأساسية العالمية لبريطانيا. وقد التزمت لندن بتقديم الدعم السياسي لفرقة عمل تاكوبا الأوروبية. وتمول بريطانيا بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال "أتميس" بأموال طائلة، وهي الأموال التي تلعب دوراً حاسماً في توفير الأمن بالصومال، في ظل مساعٍ بريطانية لضمان انتقال المسؤولية الأمنية للجيش الصومالي بشكل آمن وفعال.


كما تنشر لندن أعداداً من جنودها في عدد من البعثات الأممية التابعة للأمم المتحدة مثل نشر نحو 250 جندياً ضمن بعثة الأمم المتحدة في مالي في ديسمبر 2020 لمدة ثلاث سنوات، إلا أنها انسحبت في نوفمبر 2022 قبل الموعد المقرر لها بسبب التطورات السياسية هناك، كما يشارك نحو 300جندي بريطاني ضمن بعثة حفظ السلام الأممية لحفظ السلام في جنوب السودان، وهو ما يعكس الحرص البريطاني على لعب دور مهم في تعزيز السلام والأمن الدوليين.


- تمويل مبادرات الأمن الإقليمي في أفريقيا: تقوم بريطانيا بتمويل بعض المبادرات الأمنية في أفريقيا لتكثيف الجهود لمواجهة التهديدات الأمنية في القارة، حيث مولت بريطانيا في عام 2023 العمليات الأفريقية المشتركة ضد الجرائم الإلكترونية التي تعزز قدرة وكالات إنفاذ القانون الأفريقية على مكافحة الجرائم الإلكترونية. وتعهدت في أكتوبر 2023بمبلغ 33 مليون دولار لصندوق الساحل الإقليمي لمدة ثلاث سنوات، من أجل مساعدة المنطقة في التغلب على الآثار الناجمة عن النزاعات والصراعات المسلحة في المنطقة. كما التزمت بإنفاق 19 مليون دولار بحلول نهاية 2025 من أجل منع النزاعات والتكيف مع المناخ في الساحل، بما في ذلك النيجر من خلال توسيع برنامج العدالة والاستقرار في منطقة الساحل ليشمل النيجر.



محفزات رئيسية

يرتبط هذا التوسع في السياسة الأمنية البريطانية تجاه الدول الأفريقية بعدد من المحفزات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

- حماية المصالح الاقتصادية البريطانية في أفريقيا: تعزز الحكومة البريطانية انخراطها في شراكات أمنية مع الدول الأفريقية من أجل نقل خبراتها في مجال مكافحة الإرهاب والتهديدات الأمنية، وفي الوقت نفسه ضمان حماية المصالح البريطانية الاقتصادية في أفريقيا، لا سيما أنها تسعى لتأمين شركاء تجاريين جدد عقب بريكست لكي تكون الشريك التجاري المفضل للأفارقة؛ وذلك من خلال بوابة الشراكة الأمنية التي تضمن لها وجوداً عسكريّاً في القارة، خاصة أنها تستهدف تأمين بعض المشروعات الحيوية في مجال الغاز والنفط في غرب أفريقيا، مثل مشروع تورتو-أحميم للغاز الطبيعي المسال على الحدود البحرية الموريتانية السنغالية، الذي تديره شركة بريتيش بتروليوم، وخط أنابيب النفط الخام بين النيجر وبنين بطول 1980 كيلومتراً الذي يربط حوض أغاديم ريفت في النيجر بمحطة بورت سيم على ساحل بنين.


- تأمين الممرات الملاحية المهمة لمصالح لندن: تستهدف بريطانيا تفعيل مشاركتها ونفوذها في البحر الأحمر لحماية مصالحها الحيوية هناك، وفي مقدمتها تأمين الحصول على النفط؛ فهي تحصل على 90% من إيراداتها النفطية من الشرق الأوسط وأفريقيا، إضافة إلى ضمان قربها من بعض المناطق الاستراتيجية مثل الشرق الأوسط، بما في ذلك الخليج العربي والمحيط الهندي، وهو ما يبرر مشاركتها في الغارات الجوية الأمريكية ضد جماعة الحوثي في اليمن خلال الفترة الأخيرة، على خلفية تعطيلها الملاحة البحرية عند مضيق باب المندب في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.


وفي إطار تصاعد التهديدات الأمنية في منطقة خليج غينيا الذي يمر عبره نحو 6 مليارات دولار من التجارة البريطانية سنويّاً، تضطلع البحرية البريطانية بأدوار مهمة في مساعدة دول غرب أفريقيا من أجل مواجهة القراصنة؛ حيث عززت جهودها لحماية طرق التجارة الحيوية؛ فقد تم نشر الدورية البحرية في البحر المتوسط والمياه الأفريقية وبخاصة في خليج غينيا.


كما تعاونت البحرية البريطانية مع دول غرب أفريقيا الساحلية من أجل مواجهة النشاط غير القانوني وتعزيز الأمن البحري في ممرات الشحن المزدحمة، بينما تم نشر فريق متخصص من مشاة البحرية البريطانية وطائرة بدون طيار للمراقبة، بهدف تطوير المهارات والتقنيات اللازمة لمواجهة الأنشطة غير المشروعة التي تهدد أمن الدول الأفريقية المطلة على خليج غينيا، وتعطل عمليات الشحن بما يضر التجارة الدولية، لا سيما التجارة البريطانية، كما قامت الحكومة البريطانية بتمويل العديد من المبادرات لمواجهة عمليات القرصنة في خليج غينيا التي ينظر إليها البريطانيون باعتبارها تهديداً يمكن أن يهدد تدفق إمدادات النفط؛ ما يدفعهم إلى المضي قدماً نحو محاولة القضاء عليها نهائياً.


- تأكيد الوجود في منطقة القرن الأفريقي الاستراتيجية: ففي شرق أفريقيا، تستضيف كل من كينيا والصومال أكبر عدد من عمليات الانتشار العسكرية البريطانية في المنطقة؛ حيث تنظر بريطانيا إلى القرن الأفريقي باعتبارها بوابة استراتيجية للعمق الأفريقي، في ضوء المساعي لإعادة صياغة علاقاتها الاستراتيجية مع الدول الأفريقية، كما أنها تمثل منصة انطلاق لها نحو مناطق استراتيجية أخرى في الجوار الجغرافي، مثل البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي التي ترتبط بتوجهات بريطانية مستقبلية لتعزيز النفوذ والدور فيها.


- موازنة النفوذ الروسي في الدول الأفريقية: يعد مواجهة النفوذ الروسي على الساحة الدولية واحداً من محددات السياسة البريطانية في اللحظة الراهنة، ويتضح ذلك من الدعم المكثف لأوكرانيا. وينطبق هذا الأمر أيضاً على حالة أفريقيا؛ إذ تراهن لندن على أن تطوير العلاقات مع الدول الأفريقية


- إعادة بناء النفوذ البريطاني على الساحة الدولية: يمكن فهم التحركات البريطانية المكثفة في أفريقيا من زاوية بناء النفوذ والمكانة على الساحة الدولية؛ فمن الأهداف الواردة في وثيقة "بريطانيا العالمية في عصر تنافسي: المراجعة المتكاملة" التي أصدرتها حكومة بوريس جونسون في 2021، أنه بحلول عام 2030 ستعمل لندن بنشاط في أفريقيا، وخاصة في شرق أفريقيا ومع شركاء مهمين مثل نيجيريا. وتعيد الوثيقة تأكيد المكانة العالمية للمملكة المتحدة؛ حيث تشير إلى أن "المملكة المتحدة دولة أوروبية ذات مصالح عالمية، بصفتها اقتصاداً مفتوحاً ودولة تجارية بحرية تضم جالية كبيرة من المغتربين. وسوف يتعزز ازدهارنا المستقبلي من خلال علاقاتنا الاقتصادية مع أجزاء ديناميكية من العالم مثل منطقة المحيط الهادئ الهندية وأفريقيا والخليج، فضلاً عن التجارة مع أوروبا".


- مواجهة التحركات الصينية في أفريقيا: بخلاف تقويض الحضور الروسي هناك، تعمل لندن على مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في معظم الدول الأفريقية، لا سيما أن بريطانيا تبدو قلقة من سيطرة الصين على بعض جزر المحيط الهندي، بما قد يؤثر على الوجود البريطاني العسكري في موريشيوس؛ ما يهدد مصالحها الاستراتيجية.

مستقبل غامض


يبدو أن السياسة البريطانية في أفريقيا ترتكز بشكل واسع على المقاربة الأمنية، وهو ما يجعلها بمنزلة تكرار للسياسة الفرنسية التي أثبتت فشلها في الحفاظ على نفوذها في بعض المناطق الاستراتيجية الأفريقية على مدار العقد الماضي، لا سيما في ظل ارتكازها بشكل رئيسي على الأمن بغض النظر عن الجهود التنموية لتعزيز الاقتصادات الأفريقية التي تعاني المزيد من الأزمات خلال السنوات الماضية؛ وذلك بالرغم من محدودية الانخراط العسكري البريطاني في مناطق الصراع والاقتتال بالقارة مقارنة بفرنسا، إلا أن استمرار بريطانيا وتوسعها في الاعتماد على نهج الأمن أولاً دون الاهتمام بالمقاربات التنموية التي تمثل محدداً رئيسيّاً للتنمية في الدول الأفريقية وأحد الحلول

المطروحة لمعالجة التهديدات الأمنية في القارة، ربما يدفعها إلى المصير الفرنسي المتراجع في غرب أفريقيا والساحل خلال السنوات الثلاثة الماضية، وهو ما قد يمثل فرصة جيدة أمام أطراف دولية أخرى لتوسيع نفوذها وحضورها على الساحة الأفريقية، وفي مقدمتها روسيا.



المراجع

_ احمد عسكر،22/2/2024، كيف تعمل لندن على توسيع حضورها في أفريقيا جنوب الصحراء؟، انترريجونال.

_ عبد الحافظ الصاوي، 27/1/2020، بينها بريطانيا.. لهذه الأسباب تعزز الدول الكبرى استثماراتها بأفريقيا، الجزيرة.

المقالات الأخيرة