كيف يدير الذكاء الاصطناعي دفة الحروب الحديثة
فرع بنغازي

لطالما كان التطور التكنولوجي ركيزة أساسية في تحول مسار الحروب وتطورها عبر العصور. في العصر الحالي، برز الذكاء الاصطناعي كعامل محوري يدير دفة الحروب الحديثة، محدثاً ثورة في المجال العسكري. استخدام الذكاء الاصطناعي يتخطى الأساليب التقليدية في الحرب ليفتح أفاقاً جديدة لتطبيقات متقدمة تتراوح بين التحليل الاستراتيجي وصولاً إلى العمليات القتالية المباشرة.

يعد الذكاء الاصطناعي مصطلحا واسعا يشير إلى قدرة الآلات أو البرامج على أداء المهام التي تتطلب عادة الذكاء البشرى مثل الإدراك والاستدلال والتعلم واتخاذ القرار وحل المشكلات، ويمتلك الذكاء الاصطناعي العديد من التطبيقات والآثار المترتبة على الحرب الحديثة، سواء داخل ساحة المعركة أو خارجها.

يؤثر استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب أيضا على العلاقات الدولية والدبلوماسية، من حيث إنه يضيف موضوعات جديدة على جدول أعمال الأجندة الدولية مثل الآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية للذكاء الاصطناعي، وتطوير معايير وقواعد الذكاء الاصطناعي، وحوكمة وتنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي في الحرب والصراعات الدولية بشكل عام. وتتطلب هذه المواضيع تعاونا وحوارا متعدد الأطراف بين مختلف أصحاب المصلحة مثل الحكومات، والمنظمات الدولية، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص.

كما تعد منظومات الذكاء الاصطناعي بمنزلة أداة جديدة للدبلوماسيين والمفاوضين؛ حيث يمكن أن يساعد على جمع البيانات وتحليلها، وتوفير دعم القرار، وصياغة الوثائق وترجمتها، وتسهيل التواصل والتعاون. كما يمكنها أيضًا المشاركة في عمليات مراقبة التنفيذ والالتزام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وتقييم التقدم المحرز.

ويتجلى تدخل الذكاء الاصطناعي في الحروب بشكل واضح من خلال ما يحدث من تطورات على جبهات القتال في غزة وأوكرانيا، حيث يتم استخدام الذكاء الاصطناعي بهدف الحصول على فاعلية أكبر في ضرب المواقع ومن أجل مساعدة القيادات الميدانية على اتخاذ القرار، كما يمنح الذكاء الاصطناعي إمكانيات لا تستطيع القدرات البشرية توفيرها، وعلى الرغم من ذلك فإن القيادات العسكرية ما زالت تتعامل بحذر مع ما يوفّره هذا الذكاء من خيارات متعددة تحتاج -حتى الآن- إلى تدخل مستمر من قِبل الذكاء البشري.

ويشير نيكولاس باروت إلى أن التقدم الحاصل حالياً في مجال الذكاء الاصطناعي العسكري لا سيما في ميدان المعارك البحرية بدأ يقلق بشكل جدي قادة الغواصات الذين كانت معداتهم تتمتع بقدر كبير من الحماية في أعماق البحار، نتيجة لتعقيدات الوسط البحري التي تجعل غواصاتهم عصية على التعقب والمراقبة، الأمر الذي كان يسمح لها بتوفير الردع الملائم في مواجهة تهديدات العدو. أما الآن ومع التطورات الهائلة التي يشهدها الذكاء الاصطناعي في الميدان العسكري، فإن قدرة الغواصات على التخفي والاستفادة من عنصر المفاجأة في الحروب بدأت في التقلص، بسبب التقدم الحاصل في مجال الذكاء الاصطناعي المتعلق بتحديد مصدر الأصوات التي تطلقها الغواصات.

كما يذهب المتابعون لمسار تطور التكنولوجيات الحديثة إلى أن الشركات الغربية وخاصة الأمريكية منها توظف الحرب الروسية الأوكرانية الحالية لصالحها، وتحاول أن تقدم حلولاً مبتكرة لكييف من أجل إحداث نوع من التوازن بين القوة العسكرية للجيشين الروسي والأوكراني، ويتذكر الجميع أن إيلون ماسك قام بتقديم مساعدات تقنية حاسمة لنظام الرئيس زيلينسكي من أجل التصدي للهجوم الروسي. وهناك أيضاً شركات غربية تقدم مساعدات كبيرة للجيش الأوكراني للحصول على دقة أكبر في عمليات القصف التي تستهدف المواقع الروسية، وإضافة إلى ذلك فإن الاستخبارات الأمريكية ما زالت تقدم للجيش الأوكراني كل المعلومات الضرورية المتعلقة بمواقع تمركز الجيش الروسي.

وتعمل روسيا من جانبها على إدخال الذكاء الاصطناعي في طائراتها المسيرة وفي مدافعها الجديدة التي صنعتها مؤخراً من خلال تطوير إمكانيات مختلف الأسلحة الروسية على التوافق بشكل أفضل مع أنظمة التحكم الذاتي، بغرض تقليص حجم الخسائر البشرية في صفوف الجيش الروسي في خطوط المواجهة التي تقوم فيها موسكو بتجريب أسلحة ثقيلة ذاتية القيادة.

ويمكن القول إنه وبموازاة التقريض المبالغ فيه لكفاءة الذكاء الاصطناعي في مجال الحروب، نلاحظ أن هناك خبراء يحذرون من التفاؤل المفرط في قدرات هذا الذكاء في الحروب المصيرية مثل الحرب في غزة وأوكرانيا، لأن العامل البشري ما زال يمثل العنصر الأساسي القادر على حسم المعارك؛ لذلك فقد صرّح حاخام الطائفة اليهودية في فرنسا، غداة أحداث7 /أكتوبر، بأن الترسانة التكنولوجية التي كان يقال إنها ستحمي إسرائيل فشلت في توقّع الهجوم على غلاف غزة الذي بات يرمز إلى أكبر هزيمة استخباراتية في تاريخ إسرائيل. وقد فشل في السياق نفسه، كل الدعم التكنولوجي الذي قدمته الدول الغربية لكييف في تغيير موازين القوة في الحرب الروسية الأوكرانية.

مجالات استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب

ويتم يستخدم الذكاء الاصطناعي في تحليل المخاطر، وتقدير الأضرار المحتملة للقرارات العسكرية؛ مما يساعد على اتخاذ القرارات الاستراتيجية بناءً على معرفة أكبر بالتأثيرات المحتملة لأي من هذه القرارات.

ويتم استخدام الذكاء الاصطناعي أيضا في تطوير وتحسين أنظمة الأسلحة الموجهة مثل: الطائرات من دون طيار والصواريخ الذكية؛ مما يزيد من دقتها وفاعليتها ويقلل من الخسائر البشرية والمدنية، ويستخدم أيضا في عمليات تحديد الأهداف وتصنيف المقاتلين، كما يُسهم في تحسين عمليات التواصل والتنسيق بين القوات المختلفة؛ مما يزيد من فعالية العمليات العسكرية ويقلل من الفوضى والارتباك، وكذلك هناك تطوير للروبوتات القاتلة والأسلحة ذاتية التشغيل التي قد تُشارك في العمليات القتالية الميدانية، بالإضافة إلى توظيف الذخائر ذاتية التحكم في العمليات العسكرية الدقيقة.

ويمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً مهما في جهود تحقيق الاستقرار بعد الحرب؛ إذ يسهم في تقييم الأضرار وتحديد الأولويات في عمليات إعادة الإعمار من خلال تحليل صور وفيديوهات الأضرار الناجمة عن الحرب، وكذلك تعزيز جهود تنسيق العمليات الإنسانية عبر تحليل البيانات المتعلقة بالنازحين واللاجئين، وتحديد احتياجاتهم، وتعزيز الإصلاحات والمصالحة، وذلك من خلال تحليل البيانات السياسية والاجتماعية لتقديم التوجيهات والمقترحات لعمليات المصالحة بين الأطراف المتنازعة. ويمكن الإشارة إلى تطبيق لأنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل عملي في الحروب التي اندلعت في الفترة الأخيرة.

وتعتمد أوكرانيا، بشكل مُتزايد على الذكاء الاصطناعي لتحقيق قدر من التفوق الميداني؛ إذ تسعى للتفوق في مجال الاستخبارات الجغرافية المكانية؛ إذ تستخدم أوكرانيا برنامج شركة “Palantir

لتحليل صور الأقمار الاصطناعية، والبيانات مفتوحة المصدر، ولقطات الطائرات من دون طيار، والتقارير من الأرض لتزويد القادة بالخيارات العسكرية، وهو يُعد البرنامج “المسؤول عن معظم الاستهدافات في أوكرانيا”.

وفي الوقت ذاته؛ استخدمت أوكرانيا بيانات الشركة في مشروعات تتجاوز بكثير الاستخبارات في ساحة المعركة، بما في ذلك جمع الأدلة على جرائم الحرب، وإزالة الألغام الأرضية، وإعادة توطين اللاجئين النازحين، كما أسهمت شركات التكنولوجيا الرئيسية مثل “مايكروسوفت”، وأمازون”، وغوغل”، و”ستارلينك” في حماية أوكرانيا من الهجمات الإلكترونية الروسية، وترحيل البيانات الحكومية المهمة إلى الخوادم السحابية للحفاظ عليها، وإبقاء البلاد على اتصال، وفي المقابل؛ زُعم أن موسكو نشرت ذخيرة من نوع كلاشينكوف “ZALA Aero KUB-BLA” التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، في حين استخدمت كييف طائرات من دون طيار من طراز”Bayraktar TB2″ تركية الصنع، والتي تتمتع ببعض القدرات المستقلة.

وأشارت تقديرات متعددة إلى أن الكيان الصهيوني سعى إلى أتمته حربها الدائرة على غزة؛ إذ تستخدم نظام ذكاء اصطناعي يطلق عليه اسم “لافندر” في عملياتها العسكرية داخل غزة؛ وهو نظام يقوم على تحديد الأهداف المحتملة، فقد شارك “لافندر” في تحديد 37 ألف هدف خلال الأسابيع الأولى من الحرب، ويستكمل برنامج “لافندر” برنامجين آخرين هما: “أين هو أبي؟” والذي يستخدم لتعقب الأفراد الذين تم تحديدهم كأهداف وقصفهم عندما يكونون في المنزل، وبرنامج الإنجيل، الذي يهدف إلى تحديد المباني والهياكل.

مخاطر متزايدة

رغم التطورات الهائلة في مجال الذكاء الاصطناعي، والتوسع في استخدامه أثناء الحروب المعاصرة، فإنه ما زالت هناك بعض المخاطر والتبعات الناجمة عن هذا التوظيف في وقت الحرب.

-       الضرر العرضي: قد يتسبب الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي في وقوع أخطاء فنية أو ضرر عرضي، خاصة في حالة استخدام الأسلحة المتحكمة بشكل آلي دون وجود رقابة بشرية كافية، وهو ما قد ينتج عنه قتل للمدنيين والأبرياء، ولاسيما في حالة الأخطاء المتكررة في تحديد الأهداف العسكرية والمسلحة، أو تدمير بنية تحتية وخدمية حيوية لا ترتبط بنشاط عسكري.

-       الخروج عن السيطرة: نتيجة ضعف التفاعل البشري الآلي، ففي بعض الحالات، قد يكون التفاعل بين أنظمة الذكاء الاصطناعي والقادة البشريين غير فعّال؛ مما يمكن أن يؤدي إلى سوء التفاهم أو اتخاذ قرارات غير فعّالة، وقد ينتج عنه تطبيق قرارات آلية دون تدخل بشري؛ مما يثير مخاوف بشأن فقدان السيطرة الإنسانية على الآلة، وما قد ينتج عنه من سلوكيات ضارة بالمجتمعات.

-       انتهاكات حقوقية: قد يواجه استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب تحديات أخلاقية وقانونية، خاصة فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بالقتل الآلي وحقوق الإنسان؛ إذ قد يتسبب الاعتماد المفرط على التكنولوجيا في ارتكاب أخطاء قاتلة أو في مسائل تتعارض مع القوانين الدولية الإنسانية.

-       عدم الاعتمادية والثقة الكافية: قد تواجه التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي تحديات فيما يتعلق بالاعتمادية والثقة؛ إذ قد تواجه مشكلات تقنية تؤدي إلى عطل في الأنظمة أو تحول دون أداء مهامها المخططة.

-       تعزيز الاضطرابات الدولية والصراعات: قد يزيد استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب من الفجوة بين الدول المتقدمة تقنيا، وتلك التي تفتقر إلى القدرات التكنولوجية المتطورة؛ مما يزيد من عدم المساواة ويعزز الاضطرابات الدولية.

وتُشير تجربة الحرب الإسرائيلية في غزة إلى أن توظيف الذكاء الاصطناعي في الحروب ينطوي على مخاطر شديدة الخطورة ومدمرة منها:

_ الإخفاق في توقع هجوم 7 أكتوبر: رغم تعزيز الكيان الصهيوني قدراته الذكية، ولاسيما في مجال الاستخبارات فقد فشل في توقع أو رصد مخططات كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، لتنفيذ هجومها على غلاف غزة.

_ الإضرار بعمال الإغاثة والصحفيين: فقد أثار مقتل سبعة عمال إغاثة أجانب في غزة القلق المتزايد من توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحديد الأهداف المسلحة؛ إذ كشف ارتفاع مخاطر استهداف المدنيين، في ضوء تراجع قدرة برامج التعرف على التمييز بين عمال الإغاثة والمسلحين.

_ تضاعف عدد القتلى من المدنيين: أشارت العديد من التقديرات إلى أن توظيف الكيان الصهيوني لتقنيات وأسلحة الذكاء الاصطناعي أدى إلى وقوع عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، ولاسيما بين الأطفال والنساء، إذ أن استهداف شخص ما يحتمل أنه عسكري بناءً على توصية من برامج التحقق الذكية؛ قد يترتب عنه مقتل العشرات من المحيطين به دون تمييز؛ وهو ما يثير العديد من التبعات القانونية والأخلاقية بشكل عام إزاء العمليات العسكرية الصهيونية في غزة.

_ تدمير الآلاف من المنازل والبنية التحتية الحيوية: إذ أن تحديد أماكن اختباء الأشخاص المستهدفين قد ينتج عنه تدمير منازل وأبنية بكاملها، نتيجة سوء تقدير الأهداف والتحقق من وجود عناصر أو قيادات محتملة.

_ عدم إنجاز مهمة تحديد شبكة الأنفاق العسكرية: بالرغم من نجاح الكيان الصهيوني في تدمير عدد من الأنفاق الرئيسية داخل غزة، فإنه وفقاً للتقارير الصهيونية ذاتها، مازالت معظم أنفاق حماس قائمة ويتم اكتشافها، وفي هذا الشأن يشار إلى أن الذي أسهم في اكتشاف تلك الأنفاق هو السيطرة الميدانية للقوات الصهيونية، وليست أدوات الذكاء الاصطناعي، كما تظهر فيديوهات كتائب القسام أن عناصرها تقوم بتفخيخ أنفاق وكمائن معدة لم تكتشفها أدوات البحث والاستشعار الإسرائيلية رغم هيمنتها العسكرية في العديد من مناطق القطاع.

_ عدم قدرة الذكاء الاصطناعي على حسم المعركة بل تفاقمها: رغم توظيف كافة القدرات الممكنة مثل؛ الأسلحة والذخائر الموجهة والطائرات من دون طيار وأدوات الاستشعار، لم يستطع الكيان الصهيوني  بعد مرور 200 يوم على حربها في غزة، تحقيق أي من الأهداف المتمثلة في القضاء على قادة حماس داخل غزة أو تدمير كافة الأنفاق واكتشافها أو تحديد أماكن الأسرى، بل زاد توظيف تلك التقنيات من تحقيق ما قد يكون “إبادة جماعية” ضد المواطنين في غزة، وزيادة أعداد القتلى وتدمير البنية التحتية؛ وهو ما يعزز وجود دوافع لاستمرار تصلب موقف حركة حماس من المفاوضات الجارية بشأن الإفراج عن الرهائن. وهو الأمر المماثل في أوكرانيا؛ إذ أن استخدام أوكرانيا تقنيات الذكاء الاصطناعي لضرب بعض المنشآت الروسية الحيوية أدى إلى تصعيد روسي مقابل، وإغلاق العديد من مساحات التفاوض، ولم يحقق أي تقدم في اتجاه حسم المعركة.

_ الإخفاق في توجيه الرأي العام العالمي إزاء الحرب: على الرغم من استغلال حكومة الكيان الصهيوني صفقاتها مع الشركات العملاقة بهدف حذف وتحجيم المحتوى الافتراضي المناهض للكيان الصهيوني، فإنه مع مرور أكثر من 200 يوم على الحرب الصهيونية في غزة ما زال المحتوى المناهض للتحركات الصهيونية في تزايد، كما أن رهان إسرائيل على كسب الرأي العام العالمي لم يتحقق، إذ تتزايد معدلات الاعتصامات والتحركات الشعبية ضد الكيان الصهيوني في العديد من عواصم الدول الغربية.

وفي التقدير، يمكن القول إن التعامل مع هذه المخاطر يتطلب تطوير إطار تنظيمي دولي يضمن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الحروب بشكل مسؤول وأخلاقي، بالإضافة إلى التركيز على تطوير آليات للمراقبة والرقابة البشرية على عمليات القرار الآلي في الميدان العسكري، كما يتطلب ذلك من المجتمع الدولي العمل وضع قوانين دولية تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب، بما يضمن احترام حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، كما أن هناك ضرورة لتعزيز الشفافية والمساءلة بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب، من خلال إجراء تقارير دورية وتقييمات مستقلة لتقييم تأثير هذه التقنيات في الحرب والسلام.

 

 

اتجاهات التوظيف الذكاء الاصطناعي في الحروب

تتعدد مجالات توظيف الذكاء الاصطناعي في الحروب الحديثة؛ حيث يساعد الذكاء الاصطناعي في تحسين جمع المعلومات الاستخبارية والعمليات المستقلة ودعم اتخاذ القرار، وربما يقلل التكلفة البشرية الناجمة عن انخراط الدول في صراعات مسلحة. وبوجه عام، يتجلى توظيف الذكاء الاصطناعي في الحروب العسكرية في جملة من النقاط التي يمكن الوقوف عليها على النحو التالي:

- زيادة استخدام الأسلحة الذاتية التشغيل: لقد شهدت بعض الحروب، في السنوات القليلة الماضية، تزايد استخدام أنظمة الأسلحة الفتاكة الذاتية التشغيل التي يمكنها اختيار أهدافها وقتلهم دون مراقبة بشرية، ومن ذلك – على سبيل المثال – الطائرات بدون طيار الذاتية القيادة، التي تختلف استخداماتها عسكرياً حسب ما تحمله من معدات تقنية (لأغراض استطلاعية كالرصد والتعقب والتجسس أو لأغراض وعملياتية كالقصف وإطلاق الصواريخ وإلقاء المتفجرات). وعلى عكس أسلحة الدمار الشامل، لا توجد معاهدات أو أنظمة محددة تحظر هذه الأسلحة دولياً. ولذا عقدت لجنة الأمم المتحدة لنزع السلاح مؤخراً اجتماعاً لتقييد أو حظر استخدام الأسلحة المستقلة عن التحكم البشري، التي تعمل بواسطة الذكاء الاصطناعي دون أن تتمكن من اتخاذ أي قرارات مشتركة؛ ما يفتح الباب أمام استخدام تلك الأسلحة في الحروب العسكرية على نطاق واسع مستقبلاً.

- توثيق جرائم الحروب العسكرية والصراعات المسلحة: أمكن توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة لتوثيق جرائم الحرب التي تُرتكَب في بعض الصراعات المسلحة والحروب العسكرية؛ فمن خلال صور الأقمار الاصطناعية وعدد من التقنيات، أمكن الكشف عن وجود مقابر جماعية في بعض المناطق في كل من أوكرانيا وسوريا على سبيل المثال.

- توظيف الخداع (التزييف) العميق: إن تأثير التضليل البصري الذي يتجلى عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي وغير ذلك من منصات إعلامية ورقمية، يتم تطويره عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ إذ يُستخدم الأخير في عمليات التزييف العميق التي تعتمد بدورها على تعلم الآلة كوسيلة لفهم الأشياء والتمييز بين أنماط البيانات المختلفة كي تنتج مقاطع الفيديو والصور لتبدو حقيقيةً تماماً على نحو يصعب معه التمييز بين الواقع والخيال. وعلى سبيل المثال، خُدع رؤساء بلديات 3 عواصم أوروبية بإجراء مكالمات فيديو مع شخص ادعى أنه عمدة العاصمة الأوكرانية كييف “فيتالي كليتشكو” على خلفية الحرب الروسية–الأوكرانية، وهو ما يعني استخدام الإنترنت لتقويض الثقة بالوسائل الرقمية، وتشويه سمعة شركاء أوكرانيا وحلفائها.

- تزايد إمكانية توظيف الروبوتات المقاتلة: من شأن استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب أن يقلل من عدد المقاتلين في المهام المختلفة؛ ما يقلل بالتبعية حجم الإصابات التي يتعرضون لها، وهو ما يتجلى بصورة خاصة في حالة الروبوتات المقاتلة التي تزايد معها الحديث عن قدرتها على تقليل عدد مصابي الحرب بين المدنيين، وإن تسببت في المقابل في اتساع ميادين المعارك على نحوٍ يُمكِّن من استهداف المناطق التي يتعذر الوصول إليها عادةً بسبب طابعها الوعر أو الجبلي.

كما تتلاءم الروبوتات المقاتلة مع بعض المهام “القذرة” (كالتي تُعرِّض البشر لمواد إشعاعية) أو الخطيرة (للتخلص من الذخائر المتفجرة)؛ حيث يتطلب الضغط البدني للمناورات العسكرية دقة ووعياً يصيب الجيوش المقاتلة بالإرهاق، وهي القيود الفسيولوجية التي لا تخضع لها تلك الروبوتات.

- تحسين مهام الاستطلاع الميداني: إذ يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في عمليات جمع المعلومات من خلال مراقبة اتصالات الخصم والاستماع إلى إرساله وتسجيل محتواه. وبعبارة ثانية، فإنه يمكن الاعتماد على الأتمتة (التشغيل الآلي) والذكاء الاصطناعي لتحسين الوصول إلى المعلومات، ومعالجة وتحليل صور الأقمار الصناعية، وتحويل بيانات الاستشعار التي تجمعها أجهزة الاستخبارات ومختلف الكيانات الحكومية والعسكرية إلى منتجات استخباراتية قابلة للاستخدام. ولا شك أن كمية البيانات التي يجمعها الذكاء الاصطناعي تتعذر على المحللين البشريين معالجتها بمفردهم؛ لذا تتزايد أهمية استخدام التعلم الآلي حتى يتمكن المحللون العسكريون من التركيز على التحديات الأكثر خطورةً.

- دعم القوات البحرية باستخدام الخرائط الذكية: يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً فيدعم القوات البحرية وتعزيز الأمن البحري من خلال تعزيز الردع والوعي بالمجال البحري باستخدام الخرائط الذكية والأقمار الصناعية وشاشات المراقبة التفاعلية، وهو ما تلعب فيه المسيرات البحرية دوراً مهماً بجانب المركبات المسيرة الغائصة تحت سطح البحر والمركبات غير المأهولة بهدف تنفيذ عدد من دوريات الحراسة، وتعزيز قوة الردع، ورصد أي نشاط مزعزع لاستقرار الممرات المائية الحيوية؛ إذ يمكن لتلك المسيرات، إلى جانب الطائرات من دون طيار، أن تقدم رؤية أفضل للمياه لأغراض الاستطلاع في إطار شبكة دفاع إقليمية محتملة.

- توظيف الطباعة الثلاثية الأبعاد في الصناعات العسكرية: بشكل مباشر، يمكن توظيف الطباعة الثلاثية الأبعاد لإنتاج بزات وجلد اصطناعي لمعالجة جرحى الحروب، وهو الأمر الذي يفسر كثافة الاستثمارات الأمريكية في هذا المجال. وعلى صعيد متصل، اخترع باحثون في جامعة “ماساتشوستس إنستيتيوت أوف تكنولوجي” طباعة رباعية الأبعاد مع مواد تتحول عند الاحتكاك بعناصر أخرى؛ ما قد يفضي إلى تصنيع بزات متحولة يتغير لونها بحسب الأوضاع المحيطة. أما بشكل غير مباشر، فيمكن القول إن الطابعات الثلاثية الأبعاد تستخدم وبكثرة في مجال الصناعات العسكرية ذات الصلة المباشرة بالحروب؛ ومن ذلك على سبيل المثال شركة “بي إيه إي” البريطانية العملاقة التي أدخلت قطعة معدنية مطبوعة على طائرة مقاتلة من نوع “تورنادو”، وتخطط لتنويع استخداماتها في المستقبل.

- القيام بمهام التجسس والمراقبة: يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في عميات التجسس على نطاق واسع؛ ذلك أن استخدام التكنولوجيات الرقمية الحديثة المتصلة بالشبكات حولتها إلى أدوات هائلة للمراقبة والسيطرة، وهو ما يتجلى – على سبيل المثال – في أدوات الاختراق الحاسوبي، كبرامج التجسس مثلاً، وهو الأمر الذي تتزايد أهميته في تتبع معلومات الخصم العسكرية والكشف عن خططه الميدانية.

- توقع اندلاع الحروب المستقبلية: تتزايد الأبحاث العلمية الرامية إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالحروب المستقبلية، من خلال إنشاء قواعد بيانات ضخمة تضم بيانات تفصيلية عن الدول وتاريخها ودرجة تسليحها؛ وذلك من بين بيانات أخرى. وبعبارة ثانية، يتم استخدام الذكاء الصناعي حالياً في المجال العسكري لوضع سيناريوهات محددة في زمن محدد وجغرافيا محددة، وبناءً على توافر معطيات محددة يتم ضبط حدودها للخوارزمية للوقوف على نتيجة تثبت فرضية محددة أو تنفيها؛ ما يعني إمكانية التنبؤ بالحروب قبل وقوعها.

- إدارة عمليات الهجرة واللجوء: تتزايد أهمية توظيف الذكاء الاصطناعي في توقع موجات الهجرة واللجوء ذات الصلة بتداعيات الحروب العسكرية؛ وذلك من خلال جمع البيانات وتحليلها بهدف توقُّع الدول المصدِّرة للمهاجرين، والطرق التي سيسلكونها، بجانب إدارة عمليات استقبال واندماج اللاجئين على نحو أفضل، وتخصيص الموارد على الحدود على نحو أفضل، والاستعانة بخبرات اللاجئين في الوظائف المتاحة على نحو أمثل.

الحروب الجديدة

ختاماً، شهدت تقنيات الذكاء الاصطناعي تطوراً سريعاً في السنوات القليلة الماضية، حتى تعددت استخداماتها على المستوى العملي، حتى باتت أنظمة الأسلحة الفتاكة المستقلة تُوصَف بالثورة الثالثة في الحرب بعد البارود والأسلحة النووية؛ لما لها من قدرة على تحديد وتدمير أهداف مستقلة دون التدخل البشري المباشر على نحو يؤكد أهميتها في مجال الحروب، لا سيما في ظل التغيرات المتوقعة في طبيعة المعارك المستقبلية، ومع تعدد التهديدات التي يجب مواجهتها من خلال دفاعات عالية التقنية، وأهمية استخدامها في عمليات الاستهداف التلقائي، والتحليل الآلي للبيانات الاستخباراتية، وتحسين اللوجستيات، وغير ذلك..





المراجع

_ ب، ن، 3/6/2024، كيف يدير الذكاء الاصطناعي دفة الحروب الحديثة، موقع العرب.

_ ب، ن، 31/5/2024، الاتجاهات العشر لتوظيف الذكاء الاصطناعي في الحروب، الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين.

المقالات الأخيرة