هل تتغير مقاربات ومعالجات القضية السكانية
فرع بنغازي

تُعد القضية السكانية أحد التحديات الرئيسية التي تواجه العديد من الدول حول العالم، حيث تتأثر بمجموعة متنوعة من العوامل التي تحتاج إلى مقاربات ومعالجات مستمرة ومتطورة. العوامل المؤثرة على القضية السكانية كثيرة ومتشابكة، تشمل النمو الديموغرافي السريع، التغيرات البيئية والاقتصادية، بالإضافة إلى التقدم التكنولوجي الذي يفتح آفاقًا جديدة لحلول مبتكرة.

تجاوز عدد سكان العالم عتبة الثماني مليارات نسمة، في 15 نوفمبر 2022، مع توقعات سابقة للأمم المتحدة، حددت هذا التاريخ لوصول سكان الكوكب إلى هذا العدد. وبتجاوز الديباجات الاحتفالية التي تحدث عنها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، عندما اعتبر أن "هذه مناسبة للاحتفال بتنوعنا، والاعتراف بإنسانيتنا المشتركة، والإعجاب بالتطورات في مجال الصحة التي أدت إلى إطالة العمر وخفض معدلات وفيات الأمهات والأطفال بشكل كبير"، أو اعتبار ذلك "علامة فارقة بالنسبة للبشرية" على حد تعبير ناتالي كنيم، المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن تجاوز عدد سكان الأرض عتبة الثماني مليارات نسمة مناسبة تعيد طرح القضية السكانية على أجندة الجدل العالمي بشكل بارز، وطرح بعض التساؤلات الخاصة بها، وإعادة اختبار أبرز مقولاتها، والتعرف على حدود التغيير في اتجاهاتها العامة.

اتجاهات عالمية

ثمة عدد من الاتجاهات التي كشفت عنها تقارير ودراسات، خاصة تلك التابعة للأمم المتحدة، حول حالة السكان في العالم بشكل عام، ومنها:

1- تباطؤ النمو السكاني العالمي مع زيادة السكان: يُعد تباطؤ النمو السكاني العالمي الاتجاه والملمح الأبرز في حالة السكان، فبينما تضاعف عدد الأشخاص في العالم ثلاث مرات خلال السبعين عاماً الماضية، ارتفاعاً من 2.5 مليار نسمة عام 1950، إلى 8 مليارات نسمة عام 2022. إلا أن الملاحظ أن معدلات النمو السكاني آخذة في التباطؤ. فينما تسارع النمو السكاني العالمي من 1.73٪ في عام 1950 إلى ذروة 2.3٪ عام 1963. فإنه بدأ في التراجع، حيث انخفض إلى أقل من 1.5٪ في التسعينيات، بينما وصل عام 2022 إلى 0.8%، مع توقعات بانخفاضه إلى حوالي 0.5٪ بحلول عام 2050. وبالتالي فإن معدل النمو السكاني العالمي هو الأبطأ منذ عام 1950.

وبذلك، فبينما احتاجت البشرية 12 عاماً عقب بلوغ المليار السابع في 2010 لدخول حقبة المليار الثامن في 2022، فإن الأمم المتحدة تتوقع أن تحتاج البشرية 15 عاماً لدخول حقبة المليار التاسع، أي أن يكون ذلك خلال عام 2037، بينما تحتاج 21 عاماً آخرين للوصول إلى عشرة مليارات نسمة، وهو مؤشر على تباطؤ النمو السكاني العالمي.[1] ومع استمرار انخفاض معدلات الخصوبة، إلا أن ارتفاع متوسط العمر المتوقع، بالإضافة إلى عدد الأشخاص في سن الإنجاب، دفع الأمم المتحدة إلى توقع استمرار نمو عدد السكان ووصوله إلى حوالي 8.5 مليار في عام 2030 ، و 9.7 مليار في عام 2050، وذروة تبلغ حوالي 10.4 مليار في عام 2080. فيما قدّر معهد القياسات الصحية والتقييم (IHME) أن عدد سكان العالم سيزداد بحد أقصى بحلول عام 2064، دون أن يكسر حاجز 10 مليارات، وسينخفض إلى 8.8 مليار بحلول عام 2100.

2- تأثيرات مستقبلية لانخفاض معدلات الخصوبة على التعداد: يعتبر النمو السكاني حصيلة تفاعل عاملين هما معدلات المواليد ومعدلات الوفيات، وفيما تشهد معدلات الوفيات انخفاضاً بسبب ارتفاع مستويات التوعية والصحة العامة، ما يفسر حدوث زيادات سكانية ووصول العالم إلى المليار الثامن، فإن تراجع المتغير الآخر وهو معدل الخصوبة يترك صداه في معدل النمو السكاني العالمي الذي تتضح تأثيراته على حجم السكان في العالم على المدى الطويل.

إذ يرجع استمرار الزيادة السكانية إلى التأثيرات الممتدة لمعدلات النمو السابقة ووجود أعداد كبيرة من النساء في سن الولادة. وبينما كان معدل الخصوبة العالمي 5 أطفال عام 1950، فقد وصل 2.3 عام 2022، مع توقعات بتراجعه إلى 2.1 عام 2050، وهو معدل الإحلال، أو النمو الصفري. إذ أن استمرار النمو السكاني مدفوع بالزخم السكاني رغم تباطؤ معدل النمو ذاته، الأمر الذي من المفترض أن يتغير وتظهر آثاره مع وفاة الأجيال الأكبر سناً دون إنجاب أعداد مقابلة من الأطفال.[3] ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، يعيش ما يقرب من 60٪ من سكان العالم في دول ذات معدلات خصوبة أقل من مستوى الإحلال.[4] ويعود انخفاض معدلات الخصوبة لعدة عوامل منها تزايد معدلات تعليم وعمل المرأة، ونقص الدعم الاجتماعي للمرأة التي تجمع بين العمل والإنجاب، وتراجع ظاهرة الزواج المبكر في تلك المجتمعات، وتخوّف الوالدين من إنجاب أبناء في عالم يرونه غير آمن في ظل الأوبئة والحروب وتأثيرات التغيرات المناخية. فيما يركن آخرون إلى الاكتفاء بطفل واحد أو اثنين تخوفاً من الأزمات الاقتصادية، ولتربية الأبناء بشكل أفضل. فضلاً عن تزايد إمكانية الوصول إلى وسائل منع الحمل، والقبول المتزايد لأنماط الحياة الخالية من الأطفال، وانخفاض معدلات امتلاك الشباب للمنازل في مقتبل حياتهم. كما يؤخر العديد من الشباب الزواج وإنجاب الأطفال مع ارتفاع تكاليف المعيشة.

وتُعتبر التوقعات المستقبلية لمعدلات الخصوبة محل خلاف، فبينما تتوقع الأمم المتحدة ارتفاعها –ولو ببطء- بين عامي 2022 و2030 في 50 دولة، استناداً إلى الخبرة التاريخية السابقة للدول التي شهدت نمطاً   مماثلاً كدول أوروبا الغربية بعد منتصف التسعينيات. فإن دراسات أخرى تجادل بعكس ذلك استناداً إلى "فرضية مصيدة الخصوبة المنخفضة"، والتي تحذر من أن الدول التي تشهد انخفاض الخصوبة إلى أقل من 1.5 طفل لكل امرأة تواجه صعوبة كبيرة في التعافي، خاصةً مع التطبيع مع "أسرة الطفل الواحد" كمعيار مجتمعي مقبول، أو حتى الوصول إلى التقبُّل المجتمعي لفكرة "الإنجابية" في بعض النطاقات.

3- زيادة متوسط العمر المتوقع العالمي وشيخوخة السكان: يستمر متوسط العمر المتوقع للسكان على مستوى العالم في الارتفاع، حيث وصل عام 2019 إلى 72.8 سنة، بزيادة 9 سنوات عن عام 1990، مع توقعات بارتفاعه إلى 77.2 سنة بحلول عام 2050. وإذا ما أُضيف ذلك الاتجاه إلى ما سبق ذكره عن انخفاض معدلات الخصوبة وتباطؤ النمو، فإن ذلك يدفع باتجاه زيادة نسبة شريحة كبار السن في المجتمعات، حيث تتوقع تقارير الأمم المتحدة ارتفاع نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً من 10% في عام 2022 إلى 16% في عام 2050. وقد سجلت إحصاءات عام 2018، تجاوز عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا لأول مرة عدد الأطفال دون سن الخامسة، حيث ينجب الناس عدداً أقل من الأطفال، من المتوقع أن يعيشون لفترات أطول، فيتفاعل عامل زيادة متوسط العمر مع عامل انخفاض معدلات الخصوبة، لتتسع شرائح كبار السن والشيخوخة في المجتمعات.

4- محدودية تأثير كوفيد-19 على النمو والتعداد السكانيين: تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى محدودية تأثير فيروس كوفيد-19 على حجم سكان العالم. فرغم تسجيل 14.9 مليون حالة وفاة مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بجائحة كورونا خلال عامي 2020 و 2021 -وتسجيل جامعة "جونز هوبكنز" وفاة 6.6 مليون حالة من بين مصابي كورونا بشكل مباشر- فإن تسجيل 269 مليون ولادة خلال نفس الفترة، يحد من تأثيرات هذا الرقم. كما تشير توقعات الأمم المتحدة إلى محدودية تأثير جائحة كوفيد-19 على اتجاهات السكان العالمية خلال القرن الجاري، باعتبار أن عدد وفيات كورونا لن يغير بشكل كبير معدل الوفيات العالمي ومتوسط ​​العمر المتوقع على المدى الطويل. وأن تأثير الفيروس على معدلات الخصوبة مختلط وغير مؤكد .

ورغم أن جائحة كورونا دفعت نحو الخصم عاماً من متوسط العمر الذي قُدر قبلها عام 2019 بـ 72.8 عاماً، فإن التقديرات السكانية للأمم المتحدة تتوقع عودة ارتفاعه ليصل إلى 73.4 سنة في عام 2023.  ورغم محدودية التأثير العالمي على المؤشرات السكانية طويلة المدى، إلا أن الجائحة عمّقت من تحديات السكان في بعض الدول الفقيرة وأضعفت التقدم الذي كانت تحققه تلك الدول في مجالات التعليم والرعاية الصحية ومحاربة الفقر.

تباينات إقليمية

لا تخلو المؤشرات السكانية العالمية العامة من تباينات إقليمية. حيث لا يزال نصف سكان العالم يعيشون في 7 دول فقط هي الصين والهند والولايات المتحدة وإندونيسيا وباكستان ونيجيريا والبرازيل.  وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى تركُّز نمو سكان العالم إلى حد كبير بين أفقر البلدان، حيث كان قرابة 70 ٪ من زيادة المليار الثامن نتاج النمو السكاني في البلدان المنخفضة الدخل وذات الدخل المتوسط ​​الأدنى. وهي الدول المتوقع أن تمثل حتى عام 2037 أكثر من 90٪ من النمو السكاني العالمي، أي من المليار التاسع.

 فلا تزال معدلات الخصوبة مرتفعة في البلدان المنخفضة الدخل بمتوسط ​​4.54 في عام 2022. مع انخفاض معدلات الخصوبة في الاقتصادات المتوسطة الدخل.

ووفقاً لتوقعات الأمم المتحدة، سيصل متوسط عمر سكان أكثر من 30 دولة في أوروبا وأجزاء من آسيا إلى 46 عاماً أو أكثر بحلول عام 2040، ما يؤدي بالتبعية إلى مزيد من الانخفاض في معدلات المواليد. بينما سيتركز النمو السكاني أكثر في الدول ذات معدلات الخصوبة الأعلى والهياكل العمرية الأكثر شبابًا مثل أفريقيا جنوب الصحراء وأجزاء من آسيا بفئاتها السكانية الشابة في عام 2040، حيث ستقل أعمار أكثر من نصف سكانها عن 25 عامًا. وتتوقع الأمم المتحدة أن تتركز غالبية الزيادة السكانية بحلول عام 2050 في ثمانية دول هم: الكونغو ومصر وإثيوبيا والهند ونيجيريا وباكستان والفلبين وتنزانيا.  وأن يرتفع عدد سكان أفريقيا من 1.3 مليار إلى 3.9 مليار بحلول نهاية القرن، حيث ستقود الدول الأفريقية منخفضة الدخل النمو السكاني العالمي.  إذ ينمو عدد السكان في أفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 2.5 ٪ سنويًا، وهو أكثر من ثلاثة أضعاف المتوسط ​​العالمي. ويبلغ متوسط عدد مواليد الأسرة ​​4.6 مولود، أي ضعف المتوسط ​​العالمي البالغ 2.3. فضلاً عن أن معدل حمل المراهقات في القارة هو الأعلى في العالم، فحوالي نصف الأطفال المولودين العام الماضي لأمهات دون سن العشرين كانوا في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث يتزوج 40% من الفتيات الأفريقيات قبل سن 18 عامًا، ما يؤثر على حجم الأسرة وعدد السكان باتجاه التزايد.  ومن المتوقع أن يقفز عدد سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بنسبة 95٪ بحلول منتصف القرن.

وفي حين أن العديد من الدول لديها معدلات مواليد أقل من اللازم للحفاظ على حجم السكان، بما في ذلك معظم أوروبا وروسيا وكندا والولايات المتحدة والبرازيل والصين وأستراليا، فإن ذلك يعني أن وفاة المواطنين الأكبر سناً في هذه البلدان سيكون خلال العقود القادمة بمعدل أسرع مما يتم استبدالهم وسيتقلص عدد السكان [.  وتتوقع إحدى الدراسات المنشورة بمجلة (The Lancet) أن تشهد 23 دولة انخفاضًا في عدد سكانها بنسبة 50% أو أكثر، بحلول عام 2100، وأن تشهد 34 دولة أخرى انخفاضًا في عدد سكانها بنسب تتراوح بين 25 و50%، بما في ذلك الصين التي من المتوقع أن ينخفض عدد سكانها من 1.4 مليار إلى 732 مليون. بينما ستكون أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وشمال أفريقيا والشرق الأوسط المناطق الوحيدة التي يرتفع فيها عدد السكان في عام 2100 عما كانت عليه في عام 2017.  فيما تتوقع الأمم المتحدة أن ينخفض ​​عدد سكان 61 دولة أو منطقة بنسبة 1% أو أكثر بين عامي 2022 و 2050.

ويعتبر التنوع الديموغرافي المتزايد وتباين الاتجاهات الديموغرافية بين الدول والأقاليم المختلفة سمة أساسية للمشهد الديموغرافي العالمي خلال هذا القرن، ففي حين تعاني بعض الدول الفقيرة من تزايد النمو السكاني، وتواجه تحديات تتعلق بكيفية تلبية احتياجات السكان بأعداد كبيرة ومتزايدة، فإن بعض الدول المتقدمة والغنية تشعر بالقلق من تباطؤ النمو السكاني بل وأحياناً تراجع التعداد السكاني، وتفكر في كيفية تعزيز الخصوبة وليس تحديد النسل.

تحديات اقتصادية

ترتبط دوماً المسألة السكانية بالتحديات والفرص الاقتصادية والتنموية، وعادة ما تكون أطروحات الزيادة السكانية أو تحديد النسل مدفوعة بحجج اقتصادية وتنموية. وفي هذا الإطار، فإن زيادة عدد السكان، مع تباطؤ معدلات النمو، وزيادة متوسط العمر وشرائح كبار السن، كل ذلك يطرح تحديات اقتصادية عالمية، مع الأخذ في الاعتبار خصوصية بعض الأقاليم الجغرافية نتاج التباينات الإقليمية سالفة الذكر.

1- مخاوف من التأثيرات السلبية على قوة الدولة: مع تباطؤ النمو السكاني وارتفاع متوسط العمر، ما يسفر عن شيخوخة المجتمعات والتراجع السكاني، فإن ذلك يطرح مخاوف من نقص العمالة وضعف الإنتاجية الاقتصادية وتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، وتزايد الضغوط المالية والاقتصادية على الحكومات ما يؤثر في النهاية على قوة الدولة بالسلب في مختلف القطاعات، ويترك صداه حتى على الجوانب غير الاقتصادية مثل القوة السياسية والعسكرية للدولة.

2- البحث عن حلول لنقص القوى العاملة: مقابل الأطروحات التي تتحدث عن أهمية تحديد النسل للتخفيف من الضغط على الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، فإن ثمة أطروحات أخرى تجادل بأن الزيادة السكانية مفيدة باعتبارها تساهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي، وباعتبار أن الناس هم القوة الأساسية الدافعة للتنمية. لذلك يُنظر إلى تراجع معدلات النمو السكاني، وانخفاض معدلات الخصوبة، وتغير هياكل شرائح المجتمعات، على أنها تطرح تحدياًت اقتصادية ترتبط بمدى قدرة الدول على تعويض التراجع السكاني، وتأثيراته المباشرة على القوة العاملة ومن ثم على التنمية، حيث تلجأ الدول التي تعاني من تراجع النمو السكاني أو تغير هيكل السكان في غير صالح قوة العمل، وبالشكل الذي لا يتناسب مع هيكلها ونظامها الاقتصادي والانتاجي، إلى البحث عن حلول لتعويض نقص العمالة الماهرة المتاحة. وفي هذا الإطار تبرز التجربة الأمريكية بسياسة تحفيز الهجرة الكفئة التي تساعد الاقتصاد الأمريكي مقابل انخفاض معدلات المواليد، رغم ما شاب تلك التجربة من تحديات بسبب السياسة التي انتهجها الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه الهجرة. بينما يشار إلى التجربة اليابانية على أنها تقدم نموذجاً آخر بالاستفادة من الأتمتة والرقمنة.

3- الحاجة إلى مزيد من الإنفاق على الرعاية الاجتماعية: من المرجح أن يؤدي ارتفاع نسب شرائح كبار السن في المجتمعات إلى تداعيات على النظام الاقتصادي وأسواق العمل وأنظمة المعاشات التقاعدية والرعاية الاجتماعية والطبية، حيث سيعني ذلك الحاجة إلى مزيد من الجهود والأموال لرعاية المسنين، الأمر الذي يتعقد أكثر في ظل انخفاض قوة العمل،[27] وهو ما سيزيد من الضغوط المفروضة على الأشخاص في سن العمل الذين سيكونون مطالبين بتحسين إنتاجيتهم وزيادتها وتعزيز النمو الاقتصادي لتلبية الاحتياجات المتزايدة لدعم زيادة عدد المسنين وتلبية احتياجاتهم المادية والاجتماعية والصحية.

4- تعميق التحديات الاقتصادية في الدول الفقيرة: على العكس من التحديات الاقتصادية المتعلقة بتراجع النمو السكاني في الدول المتقدمة والصناعية، فإن الدول الفقيرة التي تشهد نمواً سكانياً سريعاً مثل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ستواجه تحديات كبيرة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة في ضوء تزايد السكان بما يفوق أوضاعها وقدراتها الاقتصادية والخدمية، وفي ضوء ما تعانيه من مشكلات هيكلية، وضغط كبير على مواردها، وتدني مؤشرات التنمية بها، وارتفاع مؤشرات الفقر والجوع.

5- جدل حول الحد المستدام المقبول لتعداد السكان: سبق وحذر توماس مالتوس في أواخر القرن الثامن عشر من عدم قدرة الأرض ومواردها على التعامل مع النمو السكاني المتسارع وتلبية الاحتياجات المتزايدة للبشرية، ما فتح الطريق أمام الدراسات التي حاولت استكشاف الحد المستدام المقبول لسكان العالم، أي التعداد الذي تستطيع الأرض تحمُّله وتحمُّل احتياجاته، والذي تم تقديره على نطاق واسع بـ 7.7 مليار شخص، فيما قدرته بعض الدراسات بـ 9 -10 مليار شخص، مع إجراء بعض التغييرات في السلوك البشري وأنماط الاستهلاك، والاستفادة من فرص التطورات التكنولوجية. ورغم تباطؤ النمو السكاني إلا إنه لم يقف، وكما سبقت الإشارة فإن تعداد سكان العالم من المرجح أن يظل في تزايد خلال العقود القادمة، ما يطرح تساؤلات حول تداعيات تجاوز ما يعرف بـ "الحد المستدام" لأعداد السكان في العالم، وحدود قدرة الكوكب على تلبية احتياجات ثمانية مليارات نسمة في طريقهم للزيادة وكسر حاجز المليار التاسع خلال 15 عاماً وفق ما تشير إليه التقديرات، وحدود القدرة أيضاً على إحداث تغيرات في السلوك البشري وأنماط الاستهلاك لتكييف الموارد المحدودة مع أعداد السكان المتزايدة، وحدود القدرة على توظيف التطورات التقنية للاستفادة منها في هذا السياق. وإذا كانت هناك حاجة إلى الالتزام بحد معين من تعداد السكان العالمي، فكيف يمكن تحقيقه عبر الدول؟ وأي الدول المطالبة بإجراءات للحد من نموها السكاني؟

سياسات تدخلية

تعد المسألة السكانية من أهم المسائل التي تشغل الحكومات وتسعى لصنع سياسات تتوافق مع الحالة الديموغرافية والاقتصادية والتطلعات المتعلقة بهما، وحتى على المستوى الدولي يمثل تسارع النمو السكاني أو تباطؤه ظاهرة محل اهتمام وتنسيق دولي للبحث عن الطرق التي يمكن الحفاظ بها على كوكب مستدام، وربط التعداد السكاني بأهداف التنمية المستدامة. ووفقًا لقاعدة بيانات الأمم المتحدة، فإن 70٪ من الحكومات الوطنية ترغب إما في خفض معدلات الخصوبة أو رفعها. لكن الفجوة بين هذه الأهداف ومعدلات الخصوبة الفعلية تُظهر صعوبة ضبط الخصوبة وضمان تحقيق معدل خصوبة محدد، خاصةً مع الحفاظ على الحقوق الإنجابية.

وتقوم الدول باتخاذ سياسات سكانية مختلفة استجابة للحقائق الديموغرافية المتباينة في تلك الدول. بل وتقوم بعض الدول بتغيير سياستها السكانية تبعاً للتغيرات الديموغرافية بالانتقال من السياسات التي تركز على خفض مستويات الخصوبة إلى سياسات مؤيدة للإنجاب أو العكس.  فعلى سبيل المثال، ومع توقعات الانكماش الصيني الذي لا يتوافق مع نموذجها الاقتصادي، وانخفاض النمو السكاني عام 2021 إلى أدنى معدل له منذ ستة عقود، وتوقعات أكاديمية شنغهاي للعلوم الاجتماعية بانخفاض عدد سكان الصين بأكثر من النصف بحلول عام 2100، بمتوسط انخفاض سنوي قدره 1.1٪، فإن بكين قد ألغت سياسة الطفل الواحد عام 2016 واستبدلتها بطفلين قبل أن ترفع العدد المسموح به عام 2021 إلى 3 أطفال، مع تعهدات حكومية بتعزيز إمكانية الحصول على رعاية الأطفال وإجازة الأمومة. وفيما تستمر بعض دول العالم الفقيرة والمتوسطة الدخل وذات الكثافة السكانية المرتفعة في تحفيز برامج تنظيم النسل، فإن بعض الدول الأخرى تحاول تحفيز الإنجاب لمواجهة تحديات تباطؤ النمو السكاني، وعلى سبيل المثال، وعلى العكس من مقترحات رفع الدعم أو فرض الضرائب في الدول مرتفعة النمو السكاني، برزت مقترحات في المملكة المتحدة بفرض ضرائب على من ليس لديهم أطفال، من أجل معالجة معدلات الخصوبة المتدنية.

ومع ذلك، فإن ثمة خلاف على جدوى السياسات التدخلية لمعالجة المخاوف الديموغرافية، أو على الأقل الجدوى قصيرة ومتوسطة الأجل لتلك السياسات. إذ تشير الأمم المتحدة إلى أن أي جهد لتقليص حجم الأسرة الآن سيأتي متأخراً للغاية من حيث قدرته على إبطاء توقعات النمو في عام 2050، الذي سيكون مدفوعًا بالفعل بزخم النمو السابق، مشيرة إلى أن زيادة أعداد السكان ستستمر حتى لو انخفض الإنجاب في البلدان ذات الخصوبة المرتفعة على الفور إلى ولادتين لكل امرأة.[33] ولكن، إذا كانت الإجراءات الإضافية التي تتخذها الحكومات بهدف الحد من الخصوبة غير مؤثرة إلى حدٍ كبير على وتيرة النمو السكاني والتعداد المتوقع حتى منتصف القرن، بسبب الهيكل العمري الشاب لسكان العالم اليوم. فإن الأثر التراكمي لانخفاض الخصوبة يمكن أن يدفع نحو تباطؤ كبير في النمو السكاني العالمي في النصف الثاني من القرن الحالي.

خاتمة:

 يشير المشهد الديموغرافي العالمي إلى اتجاهات متباينة وواقع مُعقد يترك تأثيراته على المقولات والمعالجات التقليدية للمسألة السكانية، حيث تبرز إشكاليتان رئيسيتان: الأولى تتعلق بكيفية التعامل مع تراجع النمو السكاني في الوقت الذي سيرتفع فيه أعداد السكان بالفعل، فإذا كان القرن الماضي يُعرف على نطاق واسع بأنه قرن النمو السكاني، فإن هذا القرن وفق ما تشير إليه البيانات الدولية هو قرن تباطؤ النمو السكاني، ولكنه أيضاً قرن استمرار الزيادة السكانية حتى ذروتها، ومن ثم فإن المقولات والسياسات التقليدية للمسألة السكانية ستواجه تحدي كيفية التعامل مع تعداد سكاني مستمر في الزيادة، ما يضغط على الموارد والقدرات، لكن تباطؤ النمو السكاني سيضع العديد من القيود على السياسة السكانية، ويطرح تحديات أخرى. أما الإشكالية الثانية فتتعلق بالتباينات الإقليمية والاتجاهات العالمية. فإذا كان القرن الماضي يُعرف على نطاق واسع بأنه قرن النمو السكاني بشكلٍ عام، فإن هذا القرن وفق ما تشير إليه تقارير الأمم المتحدة يتسم بدرجة كبيرة من تباين الاتجاهات الديموغرافية بين الدول والأقاليم المختلفة، ما يعني ضرورة مراعاة الخطاب الدولي حول القضية السكانية اختلاف المشهد الديموغرافي بين مناطق العالم، وأنها ليست قضية واحدة، بل تتخذ أبعاداً وأشكالاً على طرفي النقيض بين إقليم وآخر، أو بين دولة وأخرى. ورغم أن ذلك يعني اختلاف طبيعة التحديات وسياسات المواجهة، إلا إنه قد يفتح الباب أيضاً أمام درجة من التعاون والتنسيق الدولي المشترك في إدارة قضية السكان في العالم بالشكل الذي يحقق مصالح مختلف الدول.

 

 

المراجع:

عبد المجيد أبو العلا ،2022-12-1، هل تتغير متطلبات ومتغيرات القضية السكانية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

أيمان مرعي، 8.6.2024، المشكلة السكانية: السياسات والتحديات وتكامل الأدوار، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

 

المقالات الأخيرة