لم
يتعافَ الاقتصاد العالمي بعد من تبعات جائحة كورونا، ومن عواقب الحرب
الروسية-الأوكرانية حتى فُوجئَ صباح السابع من العام الماضي بحدث رأى فيه كثير من
المحلّلين بداية صفحة جديدة في تاريخ منطقة الشرق الأوسط والعالم، تختلف تماماً
عمّا قبلها.
ومع
عملية "طوفان الأقصى" غير المسبوقة منذ 1948، وبداية العدوان الإسرائيلي
على قطاع غزّة، أدرك العالم أن التفاعلات السياسيّة والاقتصادية مع هذا الحدث لن
تكون مماثلة لسابقاتها
وطرَحت
التطورات المتسارعة كثيراً من التساؤلات فيما يخص آثارها على الأصعدة كافة، وفي
صُلبها الصعيد الاقتصادي، الذي ظل دائماً من الجوانب الأكثر تأثراً بالنزاعات
والتوترات العالمية والإقليمية، سواء أكانت توتّرات في الملف الجيوسياسي أو الصحي
أو غيرهما. تُعد الحروب أحد أكبر المهددات لاقتصاد أي دولة، إن لم تكن هي الأكبر
على الإطلاق، نظرًا لأنها تصيب الأنشطة الاقتصادية بالشلل التام، ولاسيما الأنشطة
ذات الطابع غير العسكري، كالسياحة والسفر والتجارة والخدمات اللوجستية والبناء
والتشييد والطاقة والصناعات المدنية وغيرها. كما أنها تدفع الشركات إما إلى تصفية
أعمالها والهروب من ويلات الحرب، أو وقف النشاط وتأجيل قرارات الاستثمار في أفضل
الظروف. كما تؤدى الحرب إلى تصفية سوق العمل من الأيدي العاملة الشابة، في حال
استدعائها للخدمة العسكرية.
وإذا
كانت هذه الأضرار التي تُصنف على أنها آثار مباشرة للحرب عادةً ما تصيب اقتصادات
الدول المنخرطة فيها، وخاصة تلك التي تقع الحرب على أراضيها، فإن هناك آثارًا أخرى
تكون غير مباشرة وأوسع نطاقًا، بما يشمل الاقتصاد العالمي ككل. وتزداد هذه الآثار
أو تنخفض تبعًا للاتساع الجغرافي للحرب، وتأثيرها في أسواق السلع الاستراتيجية
وسلاسل التوريد الدولية، وكذلك مدى الانقسام الذي ينتج عنها في العلاقات
الاقتصادية بين الدول، وبالتالي مدى استعداد الدول للانخراط في اتفاقات متعددة
الأطراف في مواجهة التحديات الاقتصادية الدولية.
هذا
بالتحديد ما يواجه الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن، بسبب التصعيد في قطاع غزة،
خصوصًا أنه اندلع في وقت مازالت فيه الحرب الروسية- الأوكرانية قائمة، بكل ما
حملته معها من أضرار اقتصادية عديدة. وفى هذا الإطار، فإن آثار هذا التصعيد تأخذ
طريقها إلى الاقتصاد العالمي عبر قنوات عديدة، منها التهديد المباشر لاستقرار
إمدادات الطاقة العالمية، وخاصةً النفط والغاز الطبيعي، نظرًا للقرب الجغرافي من
مكامن النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط، بجانب التهديد الناتج عنها لحركة
الملاحة البحرية والجوية الإقليمية والعالمية، هذا بخلاف ما قد ينتج عنها من
انقسام دولي، يؤثر في الجهود العالمية في مواجهة الأزمات الاقتصادية في المستقبل.
التداعيات
الاقتصادية بشكل عام:
أولاً:
ارتفاع أسعار الطاقة
أدّى
الصراع إلى ارتفاع خطير للبرميل في أسعار النفط مع مخاوف أن الأسواق قد تتجاوز
مستوى 100 دولار للبرميل، ما أثر بشكل كبير على الدول التي تعتمد بشكل كبير على
البترول في الصناعة. وقد أدى ذلك إلى مخاوف من التضخم، حيث تنتشر تكاليف الطاقة
العليا في مختلف قطاعات الاقتصاد.
ثانياً:
تهديد نقص الطاقة
بالإضافة
إلى زيادة الأسعار، هناك تهديد مستقبلي بنقص الطاقة. إذا استمر النزاع وأثر على
إنتاج الطاقة في مناطق رئيسية، أو إذا تم قطع مسارات النقل لموارد الطاقة، فإن
إمدادات النفط والغاز العالمية قد تتأثر بشكل كبير، ما يؤدي إلى مزيد من زيادة
الأسعار ونقص المعروض المحتمل.
ثالثاً:
مخاوف من الركود التضخمي
الوضع
الحالي قد يشعل مخاوف من حدوث حالة من الركود التضخمي، وهي حالة اقتصادية خطيرة
تتميز بالنمو الركودي، وارتفاع التضخم. نقص الأموال الناتج عن البطالة يسبب تباطؤ
النمو الاقتصادي ويمكن أن يزيد من هذا الوضع.
التأثير
على منطقة الشرق الأوسط
في
حين أن ارتفاعَ أسعار النفط والغاز المفترضَ، يعود بالفائدة للدول الشرق أوسطية
المنتجة والمصدرة لهذه الموارد من خلال زيادة إيراداتها وتقليل العجز، إلا أنه
يترافق مع مجموعة من التحديات أثناء الأزمات. الصراعات المستمرة في المنطقة تؤدي
إلى التضخم، خصوصًا في تكاليف النقل، وتخلق بيئة غير مواتية للاستثمارات.
بشكل
عملي، يؤدّي هذا الوضع إلى هروب رؤوس الأموال إلى المناطق الآمنة، بعيدًا عن مناطق
النزاع ومحيطها. علاوةً على ذلك، تنخفض قيم العملات الإقليمية، وتصبح الفرص
الاستثمارية التي تعزز النمو والتنمية نادرة. على الرغم من أنه قد يكون مبكرًا
التنبؤ بتفاصيل دقيقة، فإن المؤشرات الأخيرة تطلق إنذارًا حول المخاطر الاقتصادية
التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط بسبب طبيعة النزاع الطويل الأمد.
لذا
فإنّ حركة الاقتصاد في الشرق الأوسط قد تدفع ثمنًا كبيرًا في حالة تنامي الصراع
واتساع رقعته خارج قطاع غزة، حيث سيسبب ذلك ضررًا في إمدادات الوقود والغاز، قد
يكون له تأثيرات كبيرة على تضخم الأسعار بشكل عام، خاصة أن هناك صدمةً في أسعار
الطاقة منذ حرب روسيا، ومع بدء التعافي دخلنا في الصراع بقطاع غزة، الأمر الذي قد
يؤثر بصورة كبيرة على أسعار الغذاء والمنتجات المرتفعة فعليًا حاليًا، وقد يتأثر
الطلب، ومن ثم تضرر الشركات المنتجة، والوضع لا يتحمل مثل هذه التأثيرات.
التأثير
على الاقتصاد الأوروبي
تظهر
العواقب الناجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة على الاقتصادات الأوروبية بشكل مثير
للقلق. تزيد معدلات التضخم، حيث بقراءة سريعة لما قبل أحداث الصراع الحالي نلاحظ-
وبحسب بيانات اليورو ستات - أن هناك انخفاضًا في معدلات التضخم في منطقة اليورو من
8.6% في عام 2022 إلى 5.5% في العام الحالي، وانخفاضًا من 9.6% إلى 6.4% في
الاتحاد الأوروبي بحلول يونيو 2023
أدنى
معدل تضخم في أوروبا سُجل في لوكسمبورج بنسبة 1%، بينما تليها بلجيكا وإسبانيا من
كثب بنسبة 1.6%. من ناحية أخرى، سُجلت أعلى معدلات التضخم في هنغاريا بنسبة 19.9%،
حيث تلتها سلوفاكيا بنسبة 11.3% وجمهورية التشيك بنسبة 11.2%.
أما
في المملكة المتحدة، فتراجع معدل التضخم بوتيرة أبطأ مقارنة بالبلدان الصناعية
الأخرى، حيث انخفض من 11.1% في عام 2022 إلى 6.7% في الشهر الماضي. هذه الأرقام
جميعها أتوقع أن تعود مع الربع الأول من السنة القادمة؛ أي خلال 4 أشهر فقط من
حدوث النزاع.
لذا
أعتقد أن هذه الحرب سوف تخلق كسادًا تضخميًا في أوروبا، وهو أخطر بكثير من الكساد
المعتاد، الذي عادة ما يؤدي إلى خفض الأسعار، نتيجة نقص الطلب على المواد، الناتج
أساسًا عن شح المال المتولد عن البطالة الناتجة هي الأخرى عن التباطؤ الاقتصادي.
الاستقرار
الاقتصادي العالمي
إنّ
الدول تعاني بالفعل من مستويات مرتفعة بشكل غير عادي من الديون، وزيادة في تكاليف
الاقتراض مع استمرار رفع مستويات الفائدة لأعلى مستويات لها منذ 20 سنة تقريبًا في
الولايات المتحدة، كما أن استثمارات القطاع الخاص تشهد تعثرات مستمرة، وهناك تباطؤ
كبير في حركة التجارة العالمية، ما يجعل الحرب وتكاليفها تأتي في ظروف غاية
الصعوبة، وفي وقت يعاني فيه العالم.
ولكونها
المرة الأولى التي يتعرض فيها الاقتصاد العالمي لصدمتَين للطاقة- في الوقت نفسه في
أوكرانيا وفي الشرق الأوسط – فيما يخصّ أسعار النفط والغاز، ولا تقتصر هذه
الزيادات في الأسعار على تقليص القوة الشرائية للأسر والشركات فحسب، بل تؤدّي
أيضًا إلى ارتفاع تكلفة إنتاج الغذاء، ما يزيد من مستويات انعدام الأمن الغذائي
المرتفعة، لا سيما في البلدان النامية.
لذا
فإن الصراع الحالي يسلط الضوء على طبيعة الاقتصاد العالمي الهشّة، وسوف تعتمد على
مدى تصاعد النزاع. إذا استمر النزاع على نطاق محدود، فستكون تأثيراته محدودة، ولكن
إذا تصاعدت الأمور، يمكن أن تصل أسعار النفط إلى 150 دولارًا للبرميل الواحد أو
أكثر.
اخيراً: في النهاية، فإن آثار الحرب في غزة على الاقتصاد العالمي لا تتوقف عند هذا
الحد، حيث إن هناك توقعات بتراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى الشرق الأوسط،
وتضرر الموازنات الحكومية في بعض دول المنطقة، نظرًا لتزايد نفقات التسلح أو إعادة
الإعمار؛ وهو ما يُقلص فرص نمو اقتصادات هذه المنطقة في وقت كان يعول عليها، بجانب
اقتصادات آسيا، في قيادة نمو الاقتصاد العالمي. كما أن اتساع نطاق الحرب من شأنه
زيادة الاستقطاب بين الدول، خاصة القوى الكبرى في الغرب من ناحية، والقوى الكبرى
المناوئة لها كالصين وروسيا بجانب الدول الداعمة للفلسطينيين، من ناحية أخرى، وهو
ما يزيد الشقاق بين صانعي السياسات الاقتصادية حول العالم، ويعرقل جهود مواجهة
التضخم وتباطؤ النمو، فضلًا عن إبطاء وتيرة العمل على إدراك أهداف التنمية
العالمية كهدف القضاء على الفقر والجوع، ونشر الطاقة والمياه النظيفة، والعمل المناخي،
وغيرها من الأهداف قصيرة أو بعيدة المدى.
حيث
انه سيكون الصراع في الشرق الأوسط نقطة تهديد كبير للاقتصاد العالمي، ليس فقط في
ارتفاع أسعار الطاقة، بل يثير أيضًا شبح نقص الطاقة. يجب أن يكون هناك تعاون دولي
كبير لإيقاف الحرب على غزة، ومنع المزيد من الاضطرابات الاقتصادية؛ لأن النتائج
ستكون كارثية على الجميع. الحاجة إلى الاستقرار والسلام والتعاون العالمي باتت
ضرورة ملحة كي يتّحد العالم لإيجاد حلّ جذري لهذه الأزمة قبل أن ينفجر الوضع
وتتوسع دائرة الصراع.
المراجع
_
نوار السعدي، 24l11l2023، التأثيرات
الاقتصادية العالمية للصراع الحالي في غزة، الجزيرة نت.
_
علي صلاح، 28l10l2023، خسائر ممتدة:
كيف تؤثر حرب غزة فى الطاقة والتجارة الدولية؟، المصري اليوم.