الحمائية
الجديدة هي مجموعة من السياسات التجارية التي تهدف إلى حماية الصناعات المحلية من
المنافسة الخارجية والصدمات الاقتصادية. ظهرت هذه السياسات بشكل أكبر بعد الأزمة
المالية العالمية عام 2008 وانتشرت أكثر خلال جائحة كورونا عام 2020. تشمل
الحمائية الجديدة أشكالا مختلفة مثل توجيه المشتريات الحكومية للسلع المحلية، ودعم
الصادرات والصناعات الاستراتيجية، وفرض معايير صحية وبيئية وجودة عالية على
الواردات، وتطبيق إجراءات بيروقراطية ورسوم جمركية، وتخفيض سعر الصرف لزيادة
التنافسية.
تأثيرات
الحمائية الجديدة على الاقتصاد العالمي متباينة ومتناقضة. من جهة، قد تساعد
الحمائية الجديدة على تحقيق الاكتفاء الذاتي والتنويع الاقتصادي والحد من الاعتماد
على الواردات والتضخم والعجز التجاري والانبعاثات الكربونية. كما قد تحفز الابتكار
والتطوير التكنولوجي والاستثمار في الطاقة النظيفة والصناعات الحديثة.
من
جهة أخرى، قد تؤدي الحمائية الجديدة إلى تقليص حجم التجارة العالمية والتعاون
الدولي والتكامل الاقتصادي والتنمية المشتركة. كما قد تزيد من التوترات والنزاعات
التجارية والسياسية بين الدول وتضر بالمستهلكين والمنتجين الصغار والفقراء.
لجأت عدة دول في العالم إلى اتخاذ إجراءات
احترازية للحفاظ على مخزون السلع الأساسية فى ظل أزمة غذاء عالمية، بسبب تأثر
سلاسل الإمدادات على إثر اندلاع الحرب الروسية ــ الأوكرانية منذ فبراير 2022،
ولعل أبرزها أخيرا قيام الهند فى 20 يوليو 2023 بحظر تصدير الأرز الأبيض «غير البسمتي»
فى مسعى منها للحد من ارتفاع الأسعار المحلية. وقد أعادت مثل هذه الإجراءات الحديث
مرة أخرى عن الحمائية وتأثيرها فى النظام الاقتصادي العالمى.
ظهرت
الحمائية الجديدة من خلال تبنى عدد كبير من السياسات يمكن توضيح أهمها فيما يلي:
أولا:
تقوم الدول بحماية صناعاتها من خلال توجيه المشتريات الحكومية نحو السلع المنتجة
محليا، وكان ذلك سببا فى وضع اتفاقية للمشتريات الحكومية
Government Procurement Agreement (GPA) فى منظمة التجارة العالمية لضمان ألا تكون سياسة المشتريات
الحكومية أداة حمائية.
ب
ــ دعم الصناعات المحلية: تقدم الدول دعما لصناعاتها المحلية، إما بهدف تخفيض سعر
منتجاتها فى مواجهة المنتجات المستوردة للتأثير فى المنافسة فى السوق المحلية، أو
دعم الصادرات للتأثير فى تنافسيتها فى السوق الخارجية خلافا لواقع القدرة
التنافسية للصناعات المحلية.
ج
ــ معايير الصحة والسلامة: قد تفرض الدول معايير متشددة للصحة والسلامة كشرط لدخول
الواردات من بعض السلع، في الوقت الذي قد لا تستوفى فيه السلع المثيلة المصنعة
محليا نفس هذه الشروط، وبالتالى فإن المعايير تستخدم كحماية مستترة للصناعات
المحلية أمام منافستها الأجنبية.
دــ
معايير الجودة والمواصفات والمقاييس: تستخدم هذه المعايير أيضا كحماية مستترة أمام
الواردات، خاصة عندما تكون السلع المحلية لا تستوفى نفس المواصفات.
هـ
ــ تطبيق إجراءات بيروقراطية متعمدة لتعطيل الإفراج عن سلع بعينها.
-
وتطبيق سياسات نقدية تؤدى إلى تخفيض متعمد لسعر
صرف العملة بهدف التأثير فى القدرة التنافسية لمنتجاتها فى الأسواق العالمية أو
الحد من وارداتها.
تشهد
الحياة التجارية الحديثة العديد من السياسات الحمائية التى يمكن تصنيفها كشكل من
أشكال الحمائية الجديدة. ونتناول هنا حالتين؛ وهما: السياسات التجارية أثناء جائحة
«كورونا»، وقانون الحد من التضخم الأمريكي.
أولا:
السياسات التجارية أثناء جائحة «كورونا»: أحدثت جائحة «كورونا» صدمة للاقتصاد
العالمى فى جانبي العرض والطلب، ومعها حدث اضطراب فى سلاسل الإمداد وتعطل النشاط الاقتصادي،
ودفع ذلك الدول المصدرة، وخاصة الصادرات الغذائية والصحية، لتقييد صادراتها؛ خوفا
من شح السلع فى السوق المحلية أو لمواجهة النقص المحتمل فى الواردات، وهو ما يعد
تغييرا جوهريا فى حركة التجارة الخارجية وتقييدا لها.
بصفة
عامة، تعددت أشكال استجابة الحكومات لوباء «كورونا»، وشملت الإجراءات؛ فرض رسوم
جمركية، واتباع سياسات تمييزية وصلت أولا إلى القطاع الصحي الذي كان يمر بأزمة
حرجة فى تلبية الطلب على اللقاحات فظهرت سياسة «قومية اللقاحات»، حيث وضعت
الحكومات تدابير تجارية مؤقتة تهدف إلى تقييد صادرات الإمدادات الطبية الحيوية وتم
تطبيق تقييد فورى على المكونات الأساسية والمكونات الطبية ومعدات الحماية الشخصية
وأجهزة التنفس الصناعي.
ثانيا:
قانون التضخم الأمريكي: أقر الكونجرس الأمريكي قانون خفض التضخم فى أغسطس من العام
الماضي، بحوافز إجمالية تتجاوز 430 مليار دولار، ويهدف القانون إلى الاستثمار فى
إنتاج الطاقة محليا ودعم التصنيع، والحد من الانبعاثات الكربونية بنسبة 40% تقريبا
بحلول عام 2030. ووفقا للقانون الأمريكي، سيتم ضخ 370 مليار دولار فى برامج أمن
الطاقة وتغير المناخ، عبر تقديم إعفاءات ضريبية للشركات التى تستثمر فى الطاقة
النظيفة، ودعم كبير للسيارات الكهربائية والبطاريات ومشروعات الطاقة المتجددة،
طالما كانت المكونات المستخدمة فى هذه المشروعات مصنوعة داخل الولايات المتحدة.
ويمنح
إقرار هذا القانون مزايا ضريبية ضخمة وإعانات أخرى لتوطين سلاسل توريد البطاريات،
ومن ثم تعزيز استخدام المركبات الكهربائية، إذ يهدف القانون إلى كبح التضخم بتقليل
العجز التجاري، وخفض أسعار الأدوية، إلى جانب الاستثمار فى إنتاج الطاقة محليا
وخاصة الطاقة النظيفة.
وتهدف
واشنطن من خلال الحوافز الكبيرة التى طرحها ذلك القانون، إلى خفض اعتمادها على
الواردات الصينية عن طريق تقليل ربط سلاسل الإمداد بالصين، وإن كان هذا الهدف يعد
صعبا حيث تسيطر الشركات الصينية على ما يقدر بـ 80% من سلسلة التوريد العالمية لتصنيع
الطاقة الشمسية، وتنتج ما يقرب من نصف المعدات اللازمة لتصنيع الألواح الشمسية
ومكوناتها، وذلك وفقا لتقديرات وكالة الطاقة الدولية، وتأتى نسبة 97% من السبائك
فى العالم من الصين. وكنتيجة لتلك المزايا التحفيزية الضخمة لتقوية الصناعات
المحلية وزيادة النفوذ الأمريكي على سلاسل الإمداد، فإنها تثير مخاطر زيادة
السياسات الحمائية والحروب التجارية بين الدول وظهور نتائج عكسية على النظام التجاري
العالمى.
تؤدى
حرية التجارة والتكامل الاقتصادي بين دول العالم إلى زيادة المنافع على مستوى دول
العالم نتيجة تدفق السلع والخدمات والتمويل، بينما يؤدى تزايد القيود المفروضة على
التجارة الدولية والتمويل إلى انكماش حجم التجارة ومن ثم الناتج الإجمالي المتولد
عنها وبالتالى تراجع رفاهية المجتمعات. وقد تراجع التأييد العام للانفتاح الاقتصادي
فى العديد من دول العالم، كما أن التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين فى العالم
أخذت تتزايد وسط طفرة عالمية من القيود التجارية الجديدة. علاوة على أن الحرب
الروسية ــ الأوكرانية لم تتسبب فى معاناة إنسانية وحسب، وإنما أفضت كذلك إلى
اضطرابات هائلة فى التدفقات المالية والمتعلقة بالغذاء والطاقة فى أنحاء العالم.
وفى
أكتوبر 2022، حذر صندوق النقد الدولى من خفض توقعات النمو لعام 2023، حيث توقع
نموا فى العام الحالي يبلغ نحو 2.7%، بعد توقعه نموا يصل إلى 2.9%، ويرجع ذلك
بالأساس إلى التطورات التى شهدتها السياسات التجارية فى الآونة الأخيرة، حيث شهدت
عددا من التحولات التى أدت إلى تلاشى التكامل الاقتصادي والدفع نحو النمو البطيء
للتجارة. وتشير بيانات «Global
Trade Alert»
إلى ارتفاع عدد الإجراءات التمييزية الجديدة التى أعلنتها اقتصادات مجموعة العشرين
بشكل متزايد منذ عام 2012، كما تشير البيانات إلى أن التعريفات الجمركية على
الواردات هي الأداة الأكثر استخداما، حيث تمثل نحو 30% من جميع الإجراءات
المفروضة. أيضا، زاد استخدام التدابير غير المباشرة بشكل تدريجي؛ مثل القروض
الحكومية للشركات المصدرة. إلى جانب هذه التدابير الحمائية، انخفض الدعم العام
للانفتاح التجاري، بينما زادت الحمائية على مستوى العالم، حيث يعتقد البعض أن
التجارة الحرة جعلت دول العالم أكثر عرضة للأزمات الدولية والآثار غير المباشرة من
الخارج.
حالات
مختارة:
تشهد
الحياة التجارية الحديثة العديد من السياسات الحمائية التي يمكن تصنيفها كشكل من
أشكال الحمائية الجديدة. ونتناول هنا ثلاث حالات مختارة؛ وهي: السياسات التجارية
أثناء جائحة "كورونا"، والترتيبات الأوروبية الأمريكية بشأن أشباه
الموصلات، وقانون الحد من التضخم الأمريكي.
1-
السياسات التجارية أثناء جائحة "كورونا": أحدثت جائحة
"كورونا" صدمة للاقتصاد العالمي في جانبي العرض والطلب، ومعها حدث
اضطراب في سلاسل الإمداد وتعطل النشاط الاقتصادي، ودفع ذلك الدول المُصدرة، وخاصة
الصادرات الغذائية والصحية، لتقييد صادراتها؛ خوفاً من شح السلع في السوق المحلية
أو لمواجهة النقص المُحتمل في الواردات، وهو ما يُعد تغيراً جوهرياً في حركة التجارة
الخارجية وتقييداً لها، حيث أغلقت عدد من الدول حدودها وبدأت المصالح القُطرية
تسيطر على صياغة السياسات التجارية للدول تحت مسمى السيادة وتحقيق الأمن القومي.
وقد
أحدثت جائحة "كورونا" أزمة مزدوجة على جانبي العرض والطلب؛ فمن جهة تأثر
قطاع الأعمال وانخفض الإنتاج العالمي نتيجة للتوقف الكلي أو الجزئي للنشاط
الاقتصادي، ومن جهة أخرى انخفض الطلب الكلي نتيجة إحجام المستهلكين ومؤسسات
الأعمال عن الإنفاق.
فعلى
جانب العرض، حدث انخفاض مباشر في عرض العمالة بسبب تزايد عدد المصابين والوفيات،
وتفاقم الأثر على النشاط الاقتصادي بسبب عمليات الإغلاق والحجر الصحي التي تمت من
أجل احتواء المرض، والتي أدت إلى تراجع الإنتاجية. وإضافة إلى ذلك، توقف سلاسل
إمداد السلع الوسيطة التي عطّلت الإنتاج. على سبيل المثال، تُعد الصين أحد
الموردين الرئيسيين للسلع الوسيطة لدول العالم، وبصفة خاصة في مجال الإلكترونيات
والسيارات والآلات والمعدات والأدوية، وأدى توقف سلاسل الإمداد في الصين إلى توقف
الكثير من الشركات والمصانع حول العالم التي تعتمد على بكين، ورفع تكاليف ممارسة
الأعمال، مما أدى إلى انخفاض المعروض العالمي من السلع.
2-
التدابير الأوروبية الأمريكية بشأن أشباه الموصلات: ظهرت أفكار جديدة للحماية من
مخاطر تقلبات سلاسل الإمداد، فكان الإعلان المشترك للاتحاد الأوروبي بشأن
المعالجات وتكنولوجيا أشباه الموصلات (Industrial Alliance on Processors and Semiconductors) والذي تم إصداره في يونيو 2021، والذي يهدف
إلى خلق تعاون بين مبادرات البحث والاستثمار لأعضاء الاتحاد الأوروبي. كما أعلن
الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عن الالتزام "ببناء شراكة لإعادة التوازن
إلى سلاسل الإمدادات العالمية لأشباه الموصلات". وتجدر الإشارة إلى أن دولاً
آسيوية تحتكر إنتاج الرقائق الإلكترونية، وتعوق ندرتها الحالية في الأسواق انتعاش
قطاعات إنتاج السيارات والأجهزة الإلكترونية في أوروبا والولايات المتحدة.
3-
قانون التضخم الأمريكي: أقر الكونغرس الأمريكي قانون خفض التضخم في أغسطس من العام
الماضي، بحوافز إجمالية تتجاوز 430 مليار دولار، ويهدف القانون إلى الاستثمار في
إنتاج الطاقة محلياً ودعم التصنيع، والحد من الانبعاثات الكربونية بنسبة 40%
تقريباً بحلول عام 2030. ووفقاً للقانون الأمريكي، سيتم ضخ 370 مليار دولار في
برامج أمن الطاقة وتغير المناخ، عبر تقديم إعفاءات ضريبية للشركات التي تستثمر في
الطاقة النظيفة، ودعم كبير للسيارات الكهربائية والبطاريات ومشروعات الطاقة
المتجددة، طالما كانت المكونات المستخدمة في هذه المشروعات مصنوعة داخل الولايات
المتحدة.
ويمنح
إقرار هذا القانون مزايا ضريبية ضخمة وإعانات أخرى لتوطين سلاسل توريد البطاريات،
ومن ثم تعزيز استخدام المركبات الكهربائية، إذ يهدف القانون إلى كبح التضخم بتقليل
العجز التجاري، وخفض أسعار الأدوية، إلى جانب الاستثمار في إنتاج الطاقة محلياً
وخاصة الطاقة النظيفة.
ختاما، يمكن القول إن الحمائية التقليدية باستخدام تعريفات جمركية مرتفعة على سلع بعينها، يكون لها آثار متساوية وحيادية على جميع دول العالم ويمكن التنبؤ بآثارها مستقبلا. أما الحمائية الجديدة التى ظهرت أواخر القرن الماضي وترتبط بنزعة الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، للحفاظ على هيمنتها، فلها آثار أشد ضراوة على النظام التجاري الدولى؛ إذ تستخدم أدوات تؤثر بشكل غير متماثل فى دول العالم ولا يمكن التيقن مسبقا من نوع الأداة المستخدمة للحمائية أو فترة تطبيقها أو آثارها. كما أن استخدامها تجاه دول تسيطر على حصة ضخمة من الإنتاج والتجارة، مثل الصين، يدفع إلى حروب تجارية بين الطرفين، تؤدى إلى تقلص حجم التجارة العالمية، وتؤثر فى النمو والتنمية فى مختلف دول العالم، وتكون الدول النامية هي الخاسر الأكبر.
المراجع:
ب، ن ,21. 8. 2023 , خصائص «الحمائية
الجديدة».. وتأثيراتها في الاقتصاد العالمي، الشروق
محمود فتح الله، 17،8،2023 , خصائص "الحمائية
الجديدة" وتأثيراتها في الاقتصاد العالمي، مركز المستقبل