الدراسات الإقليمية في مراحل التحول
فرع بنغازي

     إن تحليل النظم الاقليمية قد تطور بشكل ملحوظ بعد الحرب الباردة خاصة مع تطور ظاهرة التكتلات الإقليمية، الأمر الذي ساهم في بلورة العديد من الأطر النظرية المتعلقة بجميع القضايا من نزاع وأمن وتعاون وتكامل وتفاعلها جميعا على المستوى الإقليمي، حيث سعى العديد من الباحثين في حقل العلاقات الدولية وكذا حقل الدراسات الإقليمية في محاولة لبناء أطر نظرية تكون لها القدرة على فهم مختلف التفاعلات الإقليمية.

يعد النظام الإقليمي (Regional System) جزءا من المنظومة السياسية الدولية والتي تعرف بصفتها " شبكة او مجموعة متراكبة من المنظومات الفرعية المترابطة والمعتمدة بعضها على بعض سواء كانت منظمات عالمية أو إقليمية أو قومية أو محلية “، لذا فان العلاقات الدولية تعمل على مستويات متعددة والمستوى الأول لها هو النظام الدولي. فالنظام الدولي   International Order)) هو " شكل تلتقي فيه وحدات سياسية عدة تتفاعل فيما بينها تفاعلا متباينا في درجاته من حيث القوة والضعف ويسوده التعاون أحيانا والصراع أحيانا أخرى، حيث تسعى كل وحدة إلى تحقيق مصالحها القومية من خلال ما تملكه من مقومات القوة المادية والمعنوية للضغط على النظام الدولي او التأثير فيه “.

يشير مفهوم "النظام الإقليمي" إلى وجود تفاعلات وثيقة بين الدول المتجاورة جغرافيا. ويتفق أغلب الدارسين، في هذا المجال، على أن مفهوم "النظام الإقليمى" يتعلق بمنطقة جغرافية معينة، ويشمل ثلاث دول على الأقل، وألا يكون من بين وحداته دولة عظمى، وأن توجد شبكة معقدة من التفاعلات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تربط بين أعضائه. ويضيف بعض الدارسين إلى ذلك، ضرورة وجود تماثل اجتماعي وثقافي، أو وجود هوية إقليمية، والشعور بالتضامن والتكامل بين أعضاء النظام، أو السعي لذلك. ويميز دارسو النظام الإقليمي بين: دول القلب أو مركز النظام، ودول الأطراف، ودول الهامش.

و"دول القلب" هي تلك التي تمثل محور التفاعلات السياسية في النظام الإقليمي، وتشارك في الجزء الأكثر كثافة من تلك التفاعلات، وتحدد، من خلال ذلك، طبيعة المناخ السياسي السائد في النظام. أما دول الأطراف فهي أعضاء في النظام، ولكنها لا تدخل في تفاعلات مكثفة مع بقية وحداته، لاعتبارات جغرافية أو سياسية. وأخيرًا فإن دول الهامش، توجد على هامش النظام، وتُجاوره جغرافيا، ولكنها ليست منه، فدول الهامش هي بمثابة الجوار الجغرافي للنظام الإقليمي.

وإذا كان ما تقدم يُركز على عنصر الجوار الجغرافي، أو التماثل السياسي والاجتماعي، أو وجود هوية مشتركة كمعيار لتعريف الإقليم، فقد اقترح الأستاذان فرديركبريسون ووليام تومسون معيارًا آخر وهو كثافة التفاعلات بين الأطراف بغض النظر عن الجوار الجغرافي، وذلك على أساس أن الدول المتجاورة جغرافيا لا يُشترط بالضرورة أن تدخل في تفاعلات كثيفة مع بعضها البعض، وأنه من المُتصور أن تكون جزءًا من شبكة تفاعلات كثيفة مع دولة أو دول بعيدة جغرافيًا، وأن العامل الحيوي في تعريف النظام الإقليمي هو وجود قوة وكثافة التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين وحدات النظام.

وتتناول الدراسات المتعلقة بالنظم الإقليمية قضايا شتى مثل: السمات البنيوية للنظام، بمعنى الأوضاع والنظم السياسية والاقتصادية والاتصالية والاجتماعية...إلخ، ومستوى القوة وتوزيع عناصرها بين وحدات النظام، وكثافة التفاعلات بين أعضاء النظام وطبيعتها من تعاون ومُنافسة وصراع. ويتم التميز في هذا الصدد بين نوعين من العلاقات بين أعضاء النظام: علاقات القوة داخل النظام والتي تستند الى شكل توزيع (تركز أو تشتت) مصادر القوة، ويؤثر ذلك على نمط توازن القوى في الإقليم وإدراك أطرافه لمصادر التهديد، وعلاقات التعاون والصراع والتي تستند إلى عوامل كاللغة والتاريخ والاقتصاد والجغرافيا، وينتج عن هذين النوعين من العلاقات أنماط متنوعة للتحالفات والتكتلات والصراعات الإقليمية. كما تركز الدراسات الإقليمية على علاقة النظام ببيئته الخارجية التي تأخذ شكل نظم اقليمية أخرى والنظام الدولي.

عناصر التغير في مكونات النظم الإقليمية وقضاياها

النظم الإقليمية ليست ثابتة أو جامدة، لكنها تتطور وتتغير بفعل عناصر ذاتية داخلية أو عناصر خارجية. العناصر الداخلية يمكن أن تتمثل في التغير في أشكال النظم السياسية والسياسات الاقتصادية المتبعة، وحدوث تغيرات جوهرية في نمط الإمكانات وتوزيع القوة بين وحدات النظام مثلما حدث في النظام الإقليمي العربي مع ظهور الثروة النفطية، أو الأزمات التي أصابت دولاً لعبت أدوارًا أساسية في مراحل سابقة مثل سوريا والعراق وليبيا.

أما العوامل الخارجية، فيمكن أن تتمثل في تغير أنماط العلاقة بين القوى المهيمنة في النظام العالمي ومجمل النظام الإقليمي أو بعض أعضائه، أو في تغير العلاقة بين النظام الإقليمى والدول المُجاورة له، مثلما حدث في حالة تغير نمط علاقات أعضاء النظام العربي بدول جواره الأساسية: تركيا وإيران والكيان الصهيوني، والتي كان من شأنها تغير توازن القوى بين النظام العربي ككل وتلك الدول لصالحها. مما أوجد الظرف الموضوعي لبحث إمكانية إعادة تعريف النظام الإقليمي في ضوء العلاقات الجديدة بين وحداته وتلك الدول.

إن استمرار أو تغير النظم الإقليمية يرتبط أساسا بالممارسات العملية لأعضائه تجاه بعضهم البعض، وتجاه الأطراف خارج النظام، والافتراض الرئيسي لاستمرار أي نظام إقليمي هو قوة التفاعلات بين أعضاء النظام وكثافتها مقارنة بتلك التي تحدث مع دول أخرى، فإذا حدث تغير في هذه التفاعلات فإن النظام الإقليمي يصبح عرضة للتغير في ضوء الحقائق الجديدة.

في هذا السياق، شهدت المنطقة العربية والنظام الإقليمي العربي على مدى العقود الأربعة الأخيرة (1978 - 2018) أحداثًا وخطوبًا أثرت على حدود النظام، وبنيته، وهويته، وتوازن القوة فيه، وتفاعلات أعضائه مع دول الجوار والعالم. ويطول البحث في تلك التحولات، ولذلك سوف أركز على التحولات المرتبطة بالعلاقة مع دول الجوار التي تقع خارج النظام، أي تلك المؤثرة على تعريف النظام وتحديد من يقع بداخله ومن في خارجه.

1- التغير في أعضاء النظام

شهدت هذه الفترة تحولات أثرت على بعض الدول التي مارست أدوارًا قيادية أو مؤثرة من قبل. ومن نماذج ذلك، العراق، التي دخلت في أزمة عميقة بعد محاولة الغزو لدولة الكويت، والتي أدت إلى فرض حصار اقتصادي عليها لعدة سنوات وانتهي بالغزو الأمريكي لأراضيها في 2003، وازدياد التوجهات الطائفية والمذهبية، ثم ظهور تنظيم "داعش" وسيطرته على مساحات كبيرة، ثم انكساره في 2018. فقد أدت هذه التطورات إلى غلبة حالة عدم الاستقرار الداخلي في العراق، والتغلغل الواسع لإيران في مختلف مناحي الحياة فيه، وتوقف دوره في النظام الإقليمي.

ووقعت سوريا في براثن حرب ضروس جمعت بين سمات الحرب الأهلية، والحرب بالوكالة. وأصبحت الجغرافيا السورية مسرحًا للتدخلات السياسية والعسكرية من عديد من الأطراف العربية وإيران وروسيا والولايات المتحدة. ، وهي الدولة الأكبر والأكثر تأثيرًا على مدى سنوات طويلة، إلى أزمة اقتصادية جعلتها تعطي الاهتمام الأكبر بمشاكلها الداخلية، وجاءت مرحلة الاضطراب السياسي بعد 2011 لتعمق هذا التطور.

وهكذا، سقطت دول لعبت أدوارًا إقليمية مؤثرة، وتراجعت أدوار دول أخرى، وانعزلت دول ثالثة مفضلة عدم الانغماس في تفاعلات النظام الإقليمي العربي، بينما زادت من دورها على المستوى الأفريقي والمتوسطي. وأدى ذلك إلى تغير في نمط توازن القوى الإقليمي فازداد دور دول مجلس التعاون الخليجي، ونشأ الظرف الموضوعي لازدياد أدوار تركيا وإيران والكيان الصهيوني.

2- التغير في هوية النظام

ارتبط النظام الإقليمي العربي منذ نشأته بمفهوم "العروبة"، والتي تتضمن عناصر اللغة الواحدة والثقافة العامة المشتركة وتماثل التطور التاريخي والانتساب الإسمي للدولة العثمانية. ومثل هذا الانتماء العربي عنصر قوة وتماسك للنظام، فهو النظام الإقليمي الوحيد في العالم الذي تتحدث فيه شعوب كل دوله بلغة واحدة، وسمح ذلك بالتفاعلات الفكرية والثقافية والأدبية والإعلامية بكثافة. وتظل هذه الرابطة من أهم أركان النظام الإقليمي العربي.

لكن هذه الرابطة تهددت بسبب عدة عوامل، منها التأكيد على الوطنية المرتبطة بالدولة، وظهور شعارات مثل "مصر أولاً" و"الأردن أولاً"، وسعي دول مجلس التعاون الخليجي إلى بلورة هويات وطنية خاصة بها، ولا يوجد على هذا التوجه أي غبار في حد ذاته إلا عندما يرتبط بالانعزال أو الابتعاد عن "العروبة". من هذه العوامل أيضا تقلبات الحياة السياسية؛ فعندما وقعت مصر اتفاقية كامب ديفيد في 1978، وتم تجميد عضويتها في جامعة الدول العربية، رافقها ملاسنات إعلامية قام كل طرف فيها بإهانة الآخر والتقليل من شأنه. وتكرر ذلك، فقد أدت المظاهرات التي قامت في عدد من الدول العربية، تأييدًا للغزو العراقي للكويت وقيام بعض المثقفين بتبريره، إلى ردود فعل غاضبة ومتطرفة أحيانًا عليه.

من هذه العوامل أيضا تحدي فكر الإسلام السياسي الذي طرح دائرة أوسع للانتماء، وأوجد تناقضا مصطنعا بين الإسلام والعروبة، وأدى ببعض الدول الى أن تُدخل في دساتيرها أن شعوبها جزء من الأمة العربية والأمة الإسلامية. وأخيرا، يمكن الإشارة أيضا إلى انبعاث الانتماءات الإثنية (الطائفية والمذهبية والقومية) والتي مثلت تهديدًا لكيان الدول العربية الراهنة، وسعت لنفي صفة العروبة عن الدولة. وبالفعل خلا الدستور العراقي مثلا من وصف العراق بأنها دولة عربية.

وهكذا، أدت هذه التطورات إلى اهتزاز أو تراجع مفهوم العروبة، وأوجد الظرف الموضوعي لدول الجوار الجغرافي غير العربية ليزداد دورها في تفاعلات النظام الإقليمي العربي.

3- التغير في إدراك مصادر التهديد

أحد أركان أي نظام إقليمي هو إدراك أعضائه بوجود مصادر تهديد مشتركة، وهو ما يدفعها إلى التعاون الأمني فيما بينها وبناء نظام أمنى يقوم على مبدأ الدفاع المشترك. وفي هذا المجال، أخفقت الدول أعضاء النظام العربي إخفاقًا واضحًا، ومع أنها وقعت في مطلع الخمسينات اتفاقية التعاون الاقتصادي والدفاع المشترك إلا أنها فشلت في تحويل ذلك إلى واقع ملموس بسبب الاختلافات فيما بينها وعدم الثقة المتبادلة. ليس هذا وحسب، بل إن القضية الفلسطينية التي اعتبرت لفترة طويلة قضية العرب الأولى تراجع شأنها في العقد الأخير لصالح هدف مكافحة الإرهاب أو الخصومة مع إيران.

لقد أدى التغير في إدراك مصادر التهديد إلى تغير أوضاع بعض دول الجوار، فعلى سبيل المثال لم يعد الكيان الصهيوني لأغلب الدول العربية هو المصدر الرئيسي للتهديد، بل إن بعض الدول العربية تجد نفسها في خندق واحد مع الكيان الصهيوني ضد إيران. كما أدى إلى نمط من التحالفات العربية مع دول الجوار الجغرافي.

هناك تطورات أخرى معروفة للباحثين والمتابعين للأوضاع في المنطقة، وكلها تدعو إلى إعادة التفكير في صلاحية المفاهيم التي اعتدنا عليها للتأكد من قدرتها على تفسير ما يحدث ومواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.

قضايا وأولويات بحثية

قادت العوامل السابقة إلى إثارة النقاش حول مستقبل النظام الإقليمي العربي، وخصوصا علاقته بدول الجوار الجغرافي تركيا وإيران والكيان الصهيوني، وحول ما إذا كان من الممكن أن يتوسع هذا النظام ليشملها في سياق أوسع وذلك بعد حل الصراعات والخلافات القائمة معها. ويطرح ذلك عددًا من القضايا والأسئلة البحثية، من أهمها:

_ تعريف النظام

عندما تُثار قضية تعريف النظام يأتي إلى الذهن عادة الصراع بين مفهومي النظام العربي والنظام الشرق أوسطي، على أنه من الضروري بحث ثلاثة عناصر أخرى.

_ الأول: يتعلق بالعلاقة بين النظامين، وهل من الضروري أن يكون من شأن إقامة ترتيبات وأبنية اقتصادية أو أمنية على مستوى الشرق الأوسط إضعاف مؤسسات النظام العربي؟ أم أنه يمكن تصور أن تنخرط الدول العربية في النظامين دون تعارض جوهري بينهما بنفس المنطق الذي تنخرط في الاتحاد الأفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي؟

_ الثاني: عن أي شرق أوسط نتحدث؟ فهناك مفهومان للشرق الأوسط: المفهوم الشائع الذي تتداوله الدراسات الغربية والذي يركز على تركيا والكيان الصهيوني ثم إيران في وقت لاحق، ومفهوم الشرق الأوسط الإسلامي الذي تتبناه إيران، والذي يدخل دولًا إسلامية أخرى كباكستان وأفغانستان. الثالث هو أن هناك دول جوار أخرى للوطن العربي مثل تشاد ومالي وغيرها. 

_ إشكالية عضوية أكثر من نظام إقليمي

يثير تطوير العلاقة مع تركيا أو إيران قضية أن هاتين الدولتين تنتميان إلى نظم إقليمية أخرى، ومن ثم لابد من بحث تأثير تطوير العلاقة معهما على النظام الإقليمي العربي.فتركيا، تنظر إلى مجموعة من النظم الإقليمية كمناطق جوار لها كالنظام العربي، والاتحاد الأوروبي، وجمهوريات آسيا الوسطى المتحدثة باللغة التركية، وهو ما يسمى "العالم التركي"، الذي يمتد من بحر الأدرياتيك حتى الصين، وتضم: أذربيجان، وأوزبكستان، وكازاخستان، وتركمانستان، وقرقيزيا.

ويتمثل ذلك في عضوية تركيا في منظمة التعاون الاقتصادي (إيكو)، والتي تضم: تركيا، وإيران، وباكستان، وأفغانستان، وبعض جمهوريات آسيا الوسطى، ومنظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود، والتي تشمل: تركيا، وروسيا، وأوكرانيا، وجورجيا، ومولدافيا، وبلغاريا، ورومانيا، واذربيجان، وارمينيا، واليونان، فضلا عن عضويتها في حلف الاطلنطي والمجلس الاوروبي، وكذا في منظمة المؤتمر الإسلامي.

أما بالنسبة لإيران فتتعدد أيضا مناطق جوارها؛ فهي تجاور النظام الإقليمي العربي، ودول آسيا الوسطى الإسلامية، وكل من باكستان وأفغانستان. ثم إنها بحكم طبيعة نظامها تعتبر العالم الإسلامي مجالا لحركتها.

_ مراحل ما بعد الصراعات

سواء استمرت عضوية النظام الإقليمي العربي على ما هي عليه، أو توسعت حدوده لتشمل دولاً أخرى، فإن على الدراسات المهتمة بهذا الإقليم أن تضع على قائمة أولوياتها الموضوعات التي تتعلق بأوضاع وسياسات ما بعد الصراع، والتي يختزنها في تعبير"إعادة الإعمار". والحقيقة، أن مرحلة ما بعد الصراعات وهدفها إعادة الأمن والسلم الاجتماعي لها أبعاد عمرانية واقتصادية ونفسية واجتماعية، فهي لا تكتفي بإعادة البناء المادي والاقتصادي، وإنما تسعى لتضميد الجراح وإعادة التأهيل النفسي للأطفال الذين ولدوا تحت قصف المدافع وأزيز الطائرات. وإلى جانب سوريا وليبيا واليمن والصومال، فإن هناك دولاً عربية تواجه أزمات اقتصادية طاحنة تؤثر على أداء الدولة وتجعلها عاجزة على الوفاء بمهامها الأساسية، والقضايا المتعلقة ببناء الدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على مبادئ المواطنة، وإقامة المؤسسات الدستورية التي تحقق الفصل بين السلطات ومساءلة الحكام، وسياسات التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية.

أما إذا توسعت حدود النظام لتشمل دولًا أخرى أيًا كان شكل هذا التوسع وتسميته، فإنه يصطدم أيضا بآثار ما بعد الصراع. فالصراع التاريخي بشأن القضية الفلسطينية والحقوق التاريخية لشعب فلسطين أوجد جروحًا غائرة في النفس العربية، ولا يمكن تصور انتهاءها أو تجاوزها في وقت قصير، والدليل على ذلك مشاعر قطاعات واسعة من الرأي العام في مصر بعد أربعين عاما من اتفاقية السلام، وفي الأردن بعد ربع قرن من اتفاقية وادي عربة، ونفس الشيء ينطبق على العلاقات مع تركيا وإيران وإن كان بشكل مختلف نوعيا.

وأًيا كان الأمر، فإن المطلوب هو إقامة نسق للتفاعلات يقوم على احترام الحقوق الوطنية المشروعة والمنافع المتبادلة، وإشاعة مناخ التسامح ورفض التطرف، وعدم الانخراط في مباريات صفرية.

تحولات إقليمية جذرية

لا شيء يظهر آفاق التحول في النظام العربي أكثر من تطور علاقات دوله بقوى محيطها الإقليمي، التي تحددت أساسًا بالكيان الصهيوني وتركيا وإيران؛ حيث يُلاحظ حدوث تغيرات جذرية في علاقات الدول العربية بهذه القوى. وإذا بدأنا بالكيان الصهيوني فإن التحول في العلاقات العربية معها بدأ بعملية السلام المصرية-الصهيونية التي أفضت إلى معاهدة للسلام في عام 1979، وتلا ذلك اتفاقية أوسلو بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1993، التي وإن لم تفض إلى حل للصراع الفلسطيني- الصهيوني، إلا إنها أقامت علاقات فلسطينية –صهيونية رسمية. وفي السنة التالية (عام 1994) تم توقيع معاهدة السلام الأردنية- الصهيونية، فضلًا عن قبول النظام العربي مبدأ التسوية مع الكيان الصهيوني من حيث المبدأ، وفقًا لمبادرة فاس في عام 1982.

ويُضاف إلى ذلك الاتفاق الصهيوني - اللبناني في عام 1983 الذي سرعان ما تم إجهاضه، والعلاقات الدبلوماسية الكاملة بين موريتانيا والكيان الصهيوني في عام 1999، والتي أُعلن عن تجميدها في عام 2009 عقب قمة الدوحة التي عُقدت لاتخاذ إجراءات مضادة للعدوان الصهيوني على غزة آنذاك، ثم قُطِعت نهائيًا في عام 2010. غير أن طفرة حدثت في مسار تطبيع العلاقات العربية مع الكيان الصهيوني بتوقيع ما سُمي بـ «اتفاقات أبراهام» بين كل من: الإمارات والبحرين والمغرب والسودان في عام 2020. وقد أعقب هذه الاتفاقات مظاهر لا يمكن أن تخطئها العين على اندفاعة في مسار العلاقات الطبيعية اقتصاديًا، بل وأمنيًا، بين هذه الدول والكيان الصهيوني ويُلاحظ أن سلطنة عمان وإن اشتركت في مبادرات لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني إلا إنها لم تنضم لهذه الاتفاقيات. كما أن لكل من الكويت والسعودية وقطر مواقفها المعارضة حتى الآن للتطبيع.

وبطبيعة الحال فقد أضعفت «اتفاقات أبراهام» من وضع القضية الفلسطينية، والتي تُعد مخالفة أصلًا للمبادرة التي أقرتها قمة بيروت العربية في عام 2002، التي تنظر للتطبيع مع الكيان الصهيوني باعتباره ورقة بيد الدول العربية تستخدمها وفقًا لنص المبادرة كتنازل يقدمه العرب في مقابل تسليم الكيان الصهيوني بالمطالب العربية. كذلك، رأينا الآثار السلبية لهذه الاتفاقات على العلاقات المغربية- الجزائرية التي تزخر بما يكفي من مصادر للصراع. ومن المهم التنويه إلى أن قطار التطبيع لم يواصل اندفاعه بعد هذه الاتفاقات كما كان البعض يتصور، بل إن ثمة معارضة داخلية واضحة للتطبيع داخل بعض أطراف هذه الاتفاقات. كذلك فقد كان تنظيم كأس العالم لكرة القدم 2022 في الدوحة مناسبة لإظهار مدى رفض الجماهير العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني كما ظهر من مواقفها الرافضة للإدلاء بأي تصريحات لممثلي وسائل الإعلام الصهيونية ، أو المتضمنة لعبارات الرفض للكيان الصهيوني والتأييد لفلسطين.

أما فيما يخص العلاقات العربية مع إيران فلا يخفى المسار الصراعي الذي شهدته أحيانًا كثيرة عقب نجاح الثورة الإيرانية في عام 1979، التي كانت قد بلغت ذروتها في عام 2016 بقطع العلاقات السعودية- الإيرانية بعد أعمال التخريب التي طالت مقار دبلوماسية سعودية في إيران في أعقاب إعدام السعودية لـ27 شخصًا على رأسهم رجل الدين الشيعي الشيخ النمر، وفي هذا السياق تم تبادل تصريحات واتهامات حادة من الجانبين.

غير أن السنتين الأخيرتين (2022، 2023) شهدتا تطورات بالغة الإيجابية في علاقة دولتين خليجيتين مهمتين بإيران؛ حيث حدثت انعطافة واضحة في السياسة الإماراتية تجاه إيران أوضحت أن التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني ليس مجرد استجابة لضغوط أمريكية، ولكنه تعبير عن سياسة إماراتية جديدة تنحو إلى التهدئة مع القوى الإقليمية كافة تصفيرًا للمشاكل معها، وبحثًا عن مناخ للتهدئة يساعد على تحقيق الأهداف الوطنية. وقد بدأت هذه الانعطافة بزيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد لإيران في ديسمبر 2021، والتقائه عددًا من المسئولين على رأسهم الرئيس الإيراني. وتأكد هذا التحول بموقف الإمارات الواضح ضد الدخول في أي ترتيبات تحالفية ضد إيران، أو غيرها الذي عبرت عنه صراحة قبيل قمة جدة للأمن والتنمية في يوليو 2022.

وقد عزز هذا التطور ما كان يتردد آنذاك عن حوار سعودي- إيراني، وقد قام العراق بدور الوسيط فيه، وأفضى في النهاية لتوقيع اتفاق إعادة العلاقات السعودية- الإيرانية برعاية صينية في مارس الماضي (2023) ليكون تعزيزًا للآمال في مناخ جديد يسود المنطقة، ويساعد على تسوية الصراعات التي يعاني منها بعض بلدانها، ناهيك عن ما يوفره من إمكانات أفضل لنجاح جهود التنمية.

أضف إلى كل ما سبق، فقد تعددت التقارير عن حوارات مصرية- إيرانية تجري بهدف استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في نفس الاتجاه، وإن لم تصل لغايتها المأمولة بعد، فضلًا عن العلاقات الإيرانية مع عدد من الدول العربية التي تُعد ممتازة أو طبيعية كما هو الحال في العلاقة مع كل من: سوريا ولبنان والعراق وقطر وعُمان والجزائر.

أما بالنسبة للعلاقات العربية مع تركيا، فقد حدثت بشأنها تطورات مشابهة مع دول عربية وازنة كمصر والسعودية والإمارات بعد سنوات التوتر الشديد الذي شاب العلاقات معها بسبب رعايتها لمشروع ما يُسمى بالإسلام السياسي ورأس حربته جماعة «الإخوان المسلمين»، فضلًا عن التداعيات السلبية للمسألة الكردية على علاقة تركيا بكل من سوريا والعراق.

ويُلاحظ في الحالة التركية أنه يمكن القول بأن جانبًا مهمًا من المبادرة بتحسين العلاقات جاء من الجانب التركي بعد أن كانت سياسة «صفر مشاكل»، التي وضع وزير الخارجية الأسبق أحمد داوود أوغلو أسسها قد تحولت إلى الحد الأقصى من المشاكل بعد أن أفضت السياسة الخارجية التركية إلى صدامات مع الجميع تقريبًا كحلف الأطلنطي بسبب التقارب التركي-الروسي، والاتحاد الأوروبي بسبب السياسة الاستفزازية التركية تجاه اثنين من أعضائه (اليونان وقبرص) في قضايا الخلاف على الحدود البحرية والتنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط.  ناهيك عن استمرار مشكلة الجمهورية القبرصية التركية، بالإضافة إلى الخلاف مع مصر حول الملف الليبي، والاحتلال التركي لجزء من سوريا، والعمليات العسكرية التركية في شمال العراق ضد حزب العمال الكردستاني، التي اعتبرتها السلطات العراقية انتهاكًا للسيادة. وهكذا بدت تركيا في حالة صدام مع الجميع تقريبًا.

وفي هذا السياق، قام الرئيس التركي بانعطافة رشيدة لقيت استجابات إيجابية من الدول العربية، التي توترت علاقاتها مع تركيا. وفي هذا الإطار، بدأت العلاقات تتخذ طابعًا تعاونيًا كان آخر مؤشراته إعلان مصر وتركيا رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بينهما إلى مستوى السفارة في يوليو 2023، علمًا بأن العلاقات لم تكن قد قُطِعت بين البلدين رغم احتدام الأزمة بينهما، كما أن العلاقات الاقتصادية بينهما لم تتأثر بالتأزم السياسي، وهو ما يُعَد ملمحًا إيجابيًا. ويُلاحظ أن العلاقات بين تركيا وعدد من الدول العربية كانت دائمًا ممتازة أو طبيعية، كما هو الحال مع قطر والسودان والصومال والجزائر على سبيل المثال.

غير أن ثمة أربع ملاحظات مهمة في هذا الصدد:

_ الملاحظة الأولى: تتعلق بالقضية الفلسطينية، وهي مستبعدة تمامًا من نطاق هذه الآمال طالما بقيت حكومة نتنياهو السادسة الحالية غير المسبوقة في تطرفها، بل طالما بقيت أية حكومة صهيونية تنكر أبسط الحقوق على الفلسطينيين. ومن الواضح أن المنطق السائد الآن لدى قادة الحكم في الكيان الصهيوني هو «السلام مقابل السلام»، ومن ثم، فإن القول بأن التطبيع مع الكيان الصهيوني يخدم القضية الفلسطينية هو قول بلا أساس، ولن يحدث أي تطور إيجابي في هذه القضية من منظور فلسطيني إلا بفعل فلسطيني.

_ الملاحظة الثانية: أن الانفراجات الإقليمية لا تكفي وحدها لحل التناقضات الداخلية في صراعٍ ما؛ بمعنى أن الاتفاق السعودي- الإيراني مثلًا لن يحل الصراع الدائر في اليمن أو الانقسام السياسي الفادح في لبنان؛ لأن ثمة أطرافًا محلية لهذه الصراعات، مع العلم بأن الانقسامات لا تُحل التناقضات بينها بمجرد اتفاق الأطراف الإقليمية، وقد سبق وفشلت اتفاقية جدة في عام 1965 مثلًا بين عبدالناصر وفيصل في حل الصراع بين الأطراف اليمنية آنذاك؛ لأن كلًا من الجمهوريين والملكيين لم يجدوا فيها ما يلبي مطالبهم، ولم تتم تسوية الصراع في اليمن إلا بعد خمس سنوات كاملة اتضح فيها ميزان القوى الحقيقي بين الأطراف المحلية.

ومن الملاحظ أنه بعد مرور قرابة الشهور الخمسة من الاتفاق السعودي- الإيراني، لا نلمس أي تقدم في الملفين اليمني واللبناني، وهما أكثر الملفات تأثرًا بكل من السعودية وإيران. كذلك، فإن الانفراجة في العلاقات المصرية - التركية لم تفض حتى الآن إلى تقدم حقيقي في مسار تسوية الصراع في ليبيا، ناهيك بأن الانفراجة لم تمتد بعد إلى العلاقات التركية- السورية. أي إن انفراجة العلاقات العربية- الإقليمية لن تمتد تداعياتها الإيجابية بالضرورة على نحو تلقائي إلى الصراعات الدائرة في عدد من البلدان العربية، وإنما يحتاج الأمر للقيام بجهود حقيقية لحل التناقضات بين أطراف الصراعات المحليين.

_ الملاحظة الثالثة: تتعلق بمحاولة استشراف مستقبل هذه التحولات، وهل يمكن أن يكون طابعها تكتيكيًا مؤقتًا، أم أنها نجمت عن تغيرات بنيوية يصعب الانفكاك من نتائجها. وعلى الرغم من أن كافة الاحتمالات ممكنة، إلا إنه من المرجح أن التراجع عن هذه التحولات سيكون صعبًا لأسباب عدة: تأتي في مقدمتها إن تلك التحولات تمت بعد تجارب حقيقية لصدامات واقعية بين أطرافها تبين منها استحالة انتصار طرف على الآخر اللهم إلا بتكلفة باهظة قد تفرغ هذا الانتصار من مضمونه، ومن ثم يُعْتَقَد أن صانعي القرار في الدول المعنية بهذه التحولات قد أدركوا هذا المعنى تمامًا. كما أن مردود هذه التحولات سيكون بالتأكيد إيجابيًا على أطرافها من المنظور التنموي. بالإضافة إلى أن ثمة قوى عالمية تدعم هذه التحولات وتعززها، كما هو الحال في الموقف الأمريكي من التطبيع مع الكيان الصهيوني، والموقف الصيني من التطبيع بين الدول العربية وإيران.

_ الملاحظة الرابعة: تشير إلى أن ثمة سيناريو يمكن أن يكون مطروحًا لتداعيات هذه التحولات الإقليمية على مستقبل النظام العربي؛ فلكي يستفيد النظام العربي ككل من هذه التحولات يجب أن تكون أوضاعه طبيعية أما حالته الراهنة فإنها تنطوي على تهديدات محتملة، منها تحلله إلى نظم فرعية، ولولا أن قوى المحيط الإقليمية الأساسية الثلاث (الكيان الصهيوني - تركيا- إيران) بينها ما بينها من تناقضات رئيسية وثانوية، لأُضيف إلى هذا السيناريو احتمال ذوبان النظام العربي ككل في إطار شرق أوسطي أوسع.

لقد سعت هذه الدراسة إلى طرح إطلالة عامة لقضية النظام الإقليمي العربي واحتمالات تطوره، وبحكم هدفها فقد اتسمت بالإيجاز ربما المخل أحيانا- وربما أغفلت أيضًا موضوعات مهمة. وهي دعوة للتفكير في جدول أعمال الدراسات الإقليمية في مصر والبلاد العربية. إن الواقع المحيط بنا يتسم بالالتباس والتعقيد والاضطراب وسرعة التغير، وهو ما يتطلب مزيدًا من الفكر والتدبر.




المراجع

_ علي الدين هلال، 14/4/2019، الدراسات الاقليمية في مراحل التطور، مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

_ احمد يوسف احمد، 11/9/2023، خريطة التفاعلات الإقليمية ومستقبل النظام العربي، مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

 

 

المقالات الأخيرة