لقد
شكلت قضية "الانتقال الديمقراطي" أو عملية "الدمقرطة" مبحثا رئيسا في علم السياسة منذ النصف
الثاني من سبعينيات القرن العشرين. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية ظهر عدد كبير
من الكتب والدراسات والتقارير التي تناولت هذه القضية على مستويات مختلفة: نظرية
وتطبيقية، كمية وكيفية، دراسات حالة ودراسات مقارنة. وطرحت أدبيات "الانتقال
الديمقراطي" العديد من المفاهيم والمقولات النظرية والمداخل المنهاجية
والتحليلية لمقاربة هذه الظاهرة. كما اهتمت بفحص ومناقشة طائفة واسعة من القضايا
والمتغيرات ذات الصلة بعملية الانتقال سواء من حيث مدخلاتها (الأسباب)، أو أنماطها
(طرق الانتقال)، أو مخرجاتها (طبيعة النظم السياسية في مرحلة ما بعد الانتقال).
وقد
جاء هذا التراكم الأكاديمي الضخم مقترنا بما سُمي بـ"الموجة الثالثة للتحول
الديمقراطي"، والتي انطلقت منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين من جنوب أوروبا
(البرتغال، إسبانيا، اليونان)، ثم امتدت خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات لتشمل
العديد من بلدان أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وشرق ووسط أوربا، فيما بقي
العالم العربي يُنظر إليه على أنه يمثل "استثناءً" ضمن هذه الموجة.
وعلى
الرغم من وجود طفرة هائلة في الأدبيات المتعلقة بظاهرة الانتقال الديمقراطي على
المستوى العالمي، ووجود مراكز بحثية ودوريات عالمية متخصصة في دراسة قضايا
الديمقراطية والانتقال الديمقراطي في مناطق مختلفة من العالم، إلا أن الكتابات
العربية التي اهتمت بالتأصيل لهذه الظاهرة ودراستها سواء على المستوى النظري، أو
على مستوى الدراسة المقارنة ظلت بصفة عامة قليلة إن لم تكن نادرة ، الأمر الذى بات
يمثل فجوة حقيقية في حقل السياسة المقارنة في الجامعات ومراكز البحوث العربية.
والهدف
من هذه الدراسة هو تسليط الضوء على بعض المفاهيم والأطروحات النظرية التي تؤصل
لعملية الانتقال الديمقراطي، وذلك من خلال التعريف بالمفهوم، ورصد وتحليل الأسباب
التي تؤدي إلى الانتقال، والطرق أو الأساليب التي تتم من خلالها عملية الانتقال،
ومخرجات هذه العملية، لا سيما فيما يتعلق بترسيخ الديمقراطية في مرحلة ما بعد
الانتقال.
مفهوم
الانتقال الديمقراطي
يشير
مفهوم "الانتقال الديمقراطي" في أوسع معانيه إلى العمليات والتفاعلات
المرتبطة بالانتقال أو التحول من صيغة نظام حكم غير ديمقراطي إلى صيغة نظام حكم
ديمقراطي. ومن المعروف أن هناك عدة أشكال أو أنماط لنظم الحكم غير الديمقراطية،
فهي يمكن أن تكون شمولية أو تسلطية مغلقة، مدنية أو عسكرية، حكم فرد أو حكم
قلة...إلخ. كما أن هناك حالات ومستويات متعددة للنظام الديمقراطي الذي يتم
الانتقال إليه. فقد ينتقل نظام تسلطي مغلق إلى نظام شبه ديمقراطي يأخذ شكل
ديمقراطية انتخابية، ويمكن أن يتحول نظام شبه ديمقراطي إلى نظام ديمقراطي ليبرالي
أو يكون قريبا منه. كما أن الانتقال إلى النظام الديمقراطي يمكن أن يتم من أعلى،
أي بمبادرة من النخبة الحاكمة في النظام غير الديمقراطي أو الجناح الإصلاحي فيها،
أو من أسفل بواسطة قوى المعارضة المدعومة بتأييد شعبي واسع، أو من خلال المساومة
والتفاوض بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة لها، أو من خلال تدخل عسكري خ ارجي ، وكل
ذلك يؤكد على مدى التعدد والتنوع في تجارب وخبرات الانتقال الديمقراطي.
وبناءً
عليه، فإن مفهوم "الانتقال الديمقراطي" يشير من الناحية النظرية إلى
مرحلة وسيطة -تشهد في الأغلب الأعم مراحل فرعية- يتم خلالها تفكيك النظام غير
الديمقراطي القديم أو انهياره، وبناء نظام ديمقراطي جديد. وعادة ما تشمل عملية
الانتقال مختلف عناصر النظام السياسي مثل البنية الدستورية والقانونية، والمؤسسات
والعمليات السياسية، وأنماط مشاركة المواطنين في العملية السياسية...إلخ.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية قد تشهد صراعات ومساومات
وعمليات تفاوض بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين
وحسب
كثير من الأدبيات السابقة، فإنه يمكن اعتبار عملية الانتقال الديمقراطي قد اكتملت
متى ما توفرت عدة مؤشرات منها: وضع ترتيبات دستورية ومؤسسية بالتوافق بين الفاعلين
السياسيين الرئيسيين بشأن النظام السياسي الجديد وبخاصة فيما يتعلق بإصدار دستور
جديد، وتشكيل حكومة من خلال انتخابات عامة تكون حرة ونزيهة، على أن تمتلك هذه
الحكومة القدرة والصلاحية على ممارسة السلطة وإقرار سياسات جديدة تعكس حالة
الانتقال إلى الديمقراطية، فضلا عن عدم وجود قوى أخرى تنازع السلطات التنفيذية
والتشريعية والقضائية صلاحياتها واختصاصاتها
ونظرا
لأن عملية "الانتقال الديمقراطي" هي عملية معقدة بطبيعتها، تتداخل في
تشكيل مساراتها ونتائجها عوامل عديدة، داخلية وخارجية، فقد تكون مصحوبة بمرحلة
جديدة تتمثل في ترسيخ النظام الديمقراطي، وقد لا يترتب عليها قيام نظام ديمقراطي
في مرحلة ما بعد الانتقال، وذلك في حال حدوث ردة أو انتكاسة تقود إلى نشوب صراع
داخلي أو حرب أهلية أو ظهور نظام تسلطي جديد . كما أن مرحلة الانتقال قد تفضي إلى
ظهور نظم سياسية هجين، بمعنى أنها نظم لا تُعتبر غير ديمقراطية بالمعنى الكلاسيكي،
شمولية أو تسلطية مغلقة، ولا تكون في الوقت نفسه ديمقراطية كاملة أو راسخة، أي
تجمع بين بعض عناصر النظم غير الديمقراطية وبعض ملامح وعناصر الديمقراطية. وقد حدث
هذا في كثير من الحالات لدرجة أن هذه النظم الهجين باتت تشكل ظاهرة على الصعيد
العالمي على نحو ما سيأتي ذكره.
وبناءً
عليه، يمكن القول: إن النظم التي تمر بمرحلة انتقال إلى الديمقراطية تنتشر على خط
متصل، يقع على طرفه الأول النظام غير الديمقراطي في صورته النموذجية سواء أكان
شموليا أو سلطويا مغلقا، مدنيا أو عسكريا، حكم فرد أو حكم قلة...الخ، ويقع على
طرفه الآخر النظام الديمقراطي في نمطه المثالي، والذي تُعد النظم الديمقراطية الليبرالية
الراسخة في الدول الغربية أقرب النماذج إليه.
في
أسباب الانتقال الديمقراطي
أكدت
الموجة الثالثة للانتقال الديمقراطي على أن هناك مجموعة من الأسباب الداخلية
والخارجية التي أدت إلى الانتقال، وأن هذه الأسباب تختلف من حالة إلى أخرى، بحيث
أن ما يمكن اعتباره أسبابا حاكمة في هذه الحالة أو تلك قد لا يكون كذلك في حالات
أخرى. ومن هنا تأتى أهمية دراسة حالات الانتقال الديمقراطي من منظور مقارن.
وبصفة
عامة، فإنه لا يمكن تفسير الانتقال الديمقراطي بعامل أو بسبب واحد فقط، فعادة ما
يكون ذلك نتاجا لعوامل عديدة ومتداخلة بعضها جوهري والآخر ثانوي، بعضها داخلي
والآخر خارجي، بعضها يتعلق بالعوامل البنيوية الموضوعية (الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية والتاريخية والدينية) التي تشكل بيئة الانتقال، وبعضها الآخر يتصل
بالفاعلين السياسيين من حيث هوياتهم واختياراتهم وإستراتيجياتهم. وفى ضوء ذلك،
فإنه يمكن تصنيف الأسباب الداخلية للانتقال الديمقراطي إلى ثلاث مجموعات:
أولاها،
أسباب تتعلق بتفاقم حدة الأزمات الداخلية وعجز النظام غير الديمقراطي عن مواجهتها
بفاعلية. وهذه الأزمات قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. كما يمكن أن تتأزم
الأوضاع الداخلية نتيجة هزيمة عسكرية خارجية. وعندما يعجز النظام عن مواجهة هذه
الأزمات بفاعلية وكفاءة فإنه يفقد شرعيته، وبالتالي تتصاعد حدة المعارضة ضده. وهنا
قد تلجأ النخبة الحاكمة في هذه الحالة إلى تبني نوع من الانفتاح السياسي أو التحرك
على طريق الديمقراطية لاستيعاب المعارضة. وقد تحدث ثورة أو انتفاضة شعبية واسعة
تطيح بالنظام التسلطي وتدشن لمرحلة الانتقال الديمقراطي. ولكن إذا كانت الأزمات
الداخلية تدفع في اتجاه الانتقال الديمقراطي في بعض الحالات، فإن بعض الانجازات
الاقتصادية والاجتماعية التي يحققها النظام غير الديمقراطي في بعض الفترات قد تعزز
من فرص وإمكانات الانتقال الديمقراطي في فترات تالية، فالتنمية الاقتصادية، وزيادة
متوسط دخل الفرد، وارتفاع معدلات التعليم، كلها عوامل تسهم في خلق بيئة ملائمة
للانتقال الديمقراطي.
وثانيتها،
أسباب تتعلق بطبيعة الفاعلين السياسيين من حيث هوياتهم وميزان القوة النسبي فيما
بينهم. ويتضمن ذلك عناصر عديدة منها: درجة تماسك النخبة الحاكمة، وموقف كل من
الجيش وقوات الأمن منها، وحجم التأييد الشعبي لها، وطبيعة قوى المعارضة السياسية
ومدى فاعليتها في تحدى النخبة الحاكمة. وفي هذا السياق، يمكن القول: إن القيادة
السياسية أو الجناح الإصلاحي في النخبة الحاكمة قام في بعض الحالات بدور حاسم في
عملية الانتقال الديمقراطي. ويحدث ذلك عندما تصل القيادة السياسية إلى قناعة
مفادها أن التحرك على طريق الدمقرطة هو المسلك الآمن لتجنب احتمالات تغيير النظام
بالقوة. كما أن وجود معارضة سياسية قوية وقادرة على التنسيق فيما بينها وتحريك
الشارع ضد النظام الحاكم يعزز من فرص المساومة والتفاوض مع الحكم بشأن الانتقال
الديمقراطي، وربما إطاحته من خلال انتفاضة أو ثورة شعبية، بحيث يصبح الطريق ممهداً
للانتقال بعد ذلك.
وثالثتها،
أسباب تتعلق بطبيعة المجتمع المدني، ومدى فاعلية قواه ومنظماته في ممارسة الضغوط
من أجل الانتقال الديمقراطي. ففي عديد من الحالات قامت قوى ومنظمات المجتمع المدني
بما في ذلك الكنيسة الكاثوليكية (في بعض الدول) بدور هام ومؤثر في عملية الانتقال.
وكل ذلك يقترن بمدى وجود طلب مجتمعي على الديمقراطية، يقوم المجتمع المدني بدور
رئيس في تعزيزه وتوسيع نطاقة
أما
بخصوص العوامل الخارجية التي أسهمت بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة في دفع عمليات
الانتقال الديمقراطي خلال الموجة الثالثة، فإن من أهمها: بروز دور القوى الغربية
والتكتلات الكبرى في دعم عمليات الانتقال الديمقراطي، سواء من خلال تقديم
المساعدات الاقتصادية للدول التي تمر بمراحل انتقال، أو تقديم الدعم المادي والفني
للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، أو ممارسة الضغوط السياسية وفرض
العقوبات على النظم التسلطية...إلخ. ويمكن في هذا المقام الإشارة إلى دور كل من
الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوربي في نشر وتعزيز الديمقراطية في مناطق
مختلفة من العالم وبخاصة في جنوب وشرق ووسط أوروبا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وفى
أميركا اللاتينية بالنسبة للولايات المتحدة، فضلا عن قيام الاتحاد الأفريقي بدور
ما في دعم الانتقال الديمقراطي على مستوى القارة الأفريقية
وثمة
عوامل خارجية أخرى أثرت بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة في عملية الانتقال
الديمقراطي، منها: تنامي دور مؤسسات التمويل الدولية وبخاصة صندوق النقد والبنك
الدوليين في دعم سياسات التحرير الاقتصادي والسياسي والتحول الديمقراطي في بلدان
القارات الثلاث وشرق ووسط أوروبا، وذلك من خلال أدوات ووسائل عديدة لا يتسع المجال
للخوض فيها. كما أن تمدد دور المجتمع المدني العالمي متمثلا في المنظمات الدولية
غير الحكومية المعنية بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان كان له دوره في نشر
الديمقراطية على الصعيد العالمي، حيث تقوم منظماته بتقديم أشكال مختلفة من الدعم
لمنظمات المجتمع المدني ومراقبة الانتخابات في البلدان التي تمر بمراحل الانتقال
الديمقراطي، وفضح ممارسات النظم التسلطية وممارسة الضغوط عليها...إلخ. أضف إلى ذلك
أن انتشار قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان على الصعيد العالمي وبخاصة في ظل موجة
العولمة وثورة المعلومات والاتصالات التي تجتاح العالم قد أسهم في خلق بيئة دولية
ملائمة لدعم الانتقال الديمقراطي في مناطق مختلفة من العالم. كما أن نظرية
الدومينو أو عامل العدوى أو الانتشار شكل عنصرا دافعا لعملية الانتقال الديمقراطي
على الصعيد الإقليمي في بعض الحالات، حيث أن نجاح دولة ما في تأسيس نظام ديمقراطي
مستقر يمكن أن يلقى بتأثيراته على الدول المجاورة لها على النحو الذي يشجع النخب
والقوى السياسية فيها على السير في نفس الاتجاه. كما يمكن أن يحدث الانتقال
الديمقراطي من خلال الحرب والاحتلال الأجنبي على غرار ما حدث في كل من ألمانيا
واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن
هناك نقطتان هامتان تتعين الإشارة إليهما بخصوص دور العوامل الخارجية في دعم
الانتقال الديمقراطي:
أولاهما،
أن درجة تأثير العوامل الخارجية في عملية الانتقال الديمقراطي تختلف من حالة إلى
أخرى حسب اختلاف إستراتيجيات الفاعلين الدوليين، وطبيعة الظروف والعوامل الداخلية
في البلدان المستهدفة. وقد أكدت دراسات عديدة على أن العوامل الخارجية لا تؤتى
تأثيراتها الإيجابية بهذا الخصوص أو تكون تأثيراتها محدودة في حال عدم وجود قوى
وعوامل داخلية محركة للانتقال الديمقراطي، مما يعنى أن الأصل في عملية الانتقال هو
العوامل الداخلية أما العوامل الخارجية فإن دورها يكون مسانداً
وثانيتهما،
أن بعض العوامل الخارجية لعبت دوراً هاماً في دعم وترسيخ النظم التسلطية وليس دعم
الانتقال الديمقراطي. وتتمثل الحالة النموذجية لذلك في دور الولايات المتحدة
الأميركية في دعم ومساندة النظم التسلطية في المنطقة العربية على مدى العقود
الماضية طالما استمرت هذه النظم تتوافق مع مصالحها، أي أن سياسات الإدارات
الأميركية المتعاقبة تجاه المنطقة العربية قامت في جانب هام منها على التضحية
بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان من أجل المصالح، ولذلك فإن جهود واشنطن من أجل
نشر الديمقراطية في المنطقة في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عانت من
معضلة "عدم المصداقية"
طرق
الانتقال إلى الحكم الديمقراطي
إذا
كانت عملية الانتقال إلى الحكم الديمقراطي تحدث نتيجة عوامل عديدة، داخلية
وخارجية، يتفاوت تأثيرها من حالة إلى أخرى، فإن طبيعة الفاعلين السياسيين وميزان
القوة النسبي بينهم هو الذي يحدد في الغالب طريقة أو أسلوب الانتقال. ومع التسليم
بصعوبة تصنيف طرق الانتقال إلى الحكم الديمقراطي نظراً لتعددها وتداخلها، فإنه من
واقع خبرات وتجارب الدول التي شهدت انتقالا ديمقراطيا خلصت بعض الأدبيات إلى بلورة
أربعة طرق رئيسة للانتقال تختلف مسمياتها من باحث إلى آخر، وهي: الانتقال من أعلى،
أي الذي تقوده النخبة الحاكمة أو الجناح الإصلاحي فيها. والانتقال من أسفل، وهو الذي
تقوده قوى المعارضة على أثر انهيار النظام الحاكم أو إطاحته من خلال انتفاضة أو
ثورة شعبية. والانتقال من خلال التفاوض والمساومة بين الحكم وقوى المعارضة.
والانتقال الناجم عن تدخل عسكري خارجي.
الانتقال
من أعلى (Transition
from Above)
هو
انتقال تقوده وتهندسه القيادة السياسية أو الجناح الإصلاحي في النخبة الحاكمة. أي
أنه انتقال يتم من داخل النظام القائم. وعادة ما تبدأ عملية الانتقال عندما تتوفر
عوامل وأسباب موضوعية تؤثر سلبا على شرعية السلطة، وتخلق لدى النخبة الحاكمة قناعة
مفادها أن كلفة الانفتاح والتحول الديمقراطي أقل من كلفة الاستمرار في الممارسات
التسلطية. وفي بعض الحالات كان للجناح الإصلاحي داخل النخبة الحاكمة دور كبير في
عملية الانتقال.
ومع
الأخذ بعين الاعتبار حقيقة وجود تباينات بين تجارب الدول التي شهدت انتقالا
ديمقراطيا من أعلى، فإنه يمكن القول: إن عملية الانتقال طبقا لهذا المسلك غالبا ما
تتم بإحداث تحول تدريجي للنظام السياسي عبر مراحل متعددة ومتداخلة، تبدأ بالتحرك
على طريق الانفتاح السياسي، ويكون ذلك مقدمة للانتقال الديمقراطي. وقد تأتي بعد ذلك
مرحلة أخرى تتمثل في ترسيخ الديمقراطية. وبصفة عامة ، فإنه في ظل حالات الانتقال
الديمقراطي من أعلى غالبا ما يكون ميزان القوى لصالح النخبة الحاكمة، فيما تتسم
قوى المعارضة بالضعف، ومن ثم محدودية القدرة على التأثير في إدارة عملية الانتقال.
ومن بين الدول التي شهدت انتقالا ديمقراطيا من أعلى: إسبانيا والبرازيل
الانتقال
من أسفل (Transition
from Below)
يأخذ
هذا النمط للانتقال شكلين رئيسيين. أولهما، الانتقال نتيجة لتكثيف الضغوط على
النظام الحاكم من خلال التظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي تقودها وتشارك فيها قوى
المعارضة الديمقراطية، بحيث تجبر النظام في نهاية المطاف على تقديم تنازلات تفتح
الطريق للانتقال الديمقراطي على غرار ما حدث في كل من الفلبين وكوريا الجنوبية
والمكسيك (15). وثانيهما، الانتقال الذي تقوده قوى المعارضة على أثر انهيار النظام
غير الديمقراطي أو إطاحته بواسطة انتفاضة أو ثورة شعبية. ففي أعقاب ذلك تبدأ مرحلة
تأسيس نظام ديمقراطي جديد يحل محله.
وبصفة
عامة، يعكس هذا النمط من الانتقال حدوث خلل كبير في ميزان القوى بين الحكم وقوى
المعارضة لصالح الأخيرة، وبخاصة في حالة انهيار شرعية السلطة، وتصدع النخبة
الحاكمة، وتخلى الجيش عن مساندة النظام التسلطي، ووجود تأييد شعبي واسع للمعارضة.
وعادة ما تتوافق قوى وأحزاب المعارضة على خطوات وإجراءات لتأسيس نظام ديمقراطي على
أنقاض النظام التسلطي. وقد حدث الانتقال وفقا لهذا النمط في بلدان عديدة من بينها:
البرتغال واليونان والأرجنتين ورومانيا
الانتقال
من خلال التفاوض بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة
يحدث
الانتقال هنا على أرضية اتفاق أو تعاقد يتم التوصل إليه عبر المفاوضات والمساومات
بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة. وغالبا ما يأتي ذلك كمحصلة لوجود نوع من
التوازن النسبي في ميزان القوى بين الطرفين، فالنخبة الحاكمة تصل إلى قناعة مفادها
أنها غير قادرة على الاستمرار في السياسات المغلقة والممارسات القمعية بسبب الضغوط
الداخلية والخارجية، وأن كلفة الانفتاح السياسي والانتقال إلى صيغة ما لنظام
ديمقراطي ضمن اتفاق مع المعارضة يضمن بعض مصالحها -أي النخبة الحاكمة- هي أقل من
كلفة الاستمرار في السياسات غير الديمقراطية.
وعلى
الطرف المقابل، تبدو قوى المعارضة غير قادرة على إطاحة النظام، وبالتالي تجد أنه
لا بديل أمامها غير التفاوض والمساومة مع النخبة الحاكمة من أجل الانتقال إلى
الديمقراطية. ويُلاحظ أن المفاوضات والمساومات بين الجانبين جرت في كثير من
الحالات على خلفية تظاهرات واحتجاجات شعبية حركتها قوى المعارضة، وممارسات قمعية
من جانب السلطة. وقد حدث هذا النمط من الانتقال في بلدان عديدة منها: بولندا وجنوب
أفريقيا والسلفادور ونيكاراجوا
الانتقال
من خلال التدخل العسكري الخارجي (Foreign Military Intervention )
غالبا
ما ارتبط هذا النمط من الانتقال بحروب وصراعات، تؤثر فيها وتحكمها مصالح وتوازنات
داخلية وإقليمية ودولية. وهو يحدث في حالة رفض النظام الحاكم للتغيير، وعدم بروز
جناح إصلاحي داخله، وعجز قوى المعارضة عن تحديه وإطاحته بسبب ضعفها وهشاشتها نتيجة
لسياساته القمعية. وفى ظل هذا الوضع لا يكون هناك من بديل لإطاحته والانتقال إلى
نظام ديمقراطي سوى التدخل العسكري الخارجي الذي يمكن أن تقوم به دولة واحدة على
نحو ما فعلت الولايات المتحدة الأميركية في كل من جرينادا وبنما في ثمانينيات
القرن الماضي، أو تحالف يضم مجموعة من الدول على غرار الحرب التي قادتها واشنطن
بمشاركة دول أخرى ضد أفغانستان في عام 2001، وضد العراق في عام 2003.
وعادة
ما يحدث التدخل العسكري الخارجي لأسباب وذرائع مختلفة منها إلحاق الهزيمة بنظام
ديكتاتوري، والتدخل لأسباب إنسانية، ووضع حد لحرب أهلية طاحنة...إلخ. ويُلاحظ أنه
في غالبية حالات التدخل العسكري الخارجي لم يكن هدف تأسيس نظام ديمقراطي هو الهدف
الرئيس أو المبدئي، بل كانت هناك أهداف ومصالح أخرى
وإذا
كان الانتقال الديمقراطي من خلال التدخل العسكري الخارجي قد نجح في بعض الحالات
كما هو الحال في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه فشل في حالات
أخرى كثيرة أحدثها أفغانستان والعراق. وقد اهتمت دراسات عديدة بتفسير ظاهرة فشل
التدخل العسكري الأجنبي في تحقيق الانتقال الديمقراطي في عديد من الدول
وبصفة عامة فقد أكدت خبرات وتجارب الانتقال الديمقراطي على أن طريقة الانتقال تؤثر على نوعية أو طبيعة النظام الديمقراطي الوليد، وعلى فرص واحتمالات استمراره وترسخه في مرحلة ما بعد الانتقال، حيث أن الانتقال السلس والسلمي الذي يتم بمبادرة من النخبة الحاكمة، أو من خلال التفاوض بين الحكم والمعارضة، أو بعيد إطاحة النظام بواسطة انتفاضة أو ثورة شعبية سلمية غالبا ما يكون مصحوبا بدرجة أعلى من الديمقراطية، وفرص أفضل لاستمرار وترسخ النظام الديمقراطي الناشئ. وبالمقابل، فإن الانتقال العنيف يكون في الغالب مقرونا بدرجات أدنى من الديمقراطية، وفرص أقل لاستمرارية النظام الديمقراطي واستقراره، بل إنه تزداد في مثل هذه الحالة احتمالات الارتداد إلى شكل من أشكال التسلطية، أو وقوع البلاد في صراع داخلي أو حرب أهلية. أما الانتقال الناجم عن التدخل العسكري الخارجي فقد نجح في حالات قليلة، وفشل في حالات أخرى كثيرة. وقد كان لكل من النجاح والفشل ظروف ومعطيات خاصة
المراجع :
حسنين توفيق إبراهيم، 24.1.2013
، الانتقال
الديمقراطي: إطار نظري ، مركز الجزيرة للدراسات .
(ب ، ن ) ، (ب ، ت) ، الانتقال الديمقراطي واشكالياته ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
.