أصدرت
وزارة الخارجية الروسية في الـ 5 من سبتمبر 2022 وثيقة جديدة تحت عنوان
"مفهوم السياسة الخارجية الإنسانية لروسيا الاتحادية" والتي تحدد إطار
الدبلوماسية الشعبية الروسية، وترسخ أسس ممارساتها في مجال القوة الناعمة من خلال
117 نقطة نصت عليهم الوثيقة.
ولم
يكن إصدار مفهوم متخصص في السياسة الإنسانية في العلاقات الخارجية الروسية
مفاجئاً؛ حيث أعلنت الوزارة في الأول من يناير 2022 استحداث وحدة في وزارة
الخارجية معنية بشؤون استراتيجية موسكو فيما يخص ممارستها لأدوات قوتها الناعمة من
علوم، وفنون، وتعليم.
أصبحت
قضية "القوة الناعمة" واحدة من أهم القضايا في واقع العالم المعاصر
وتزداد أهميتها يوماً بعد يوم. لقد بدأ القرن الجديد العد التنازلي الحقيقي مع
جائحة كورونا في عام 2020، التي يسميها الكثيرون بالوباء المعلوماتي من حيث
تأثيرها على المجتمعات.
إن
انتشار تقنيات المعلومات، والفجوة المتزايدة في تصورات الأجيال عن الوضع الحالي
والمستقبل، وتعزيز عنصر القيم الإنسانية، وتوجه الأعمال التجارية إلى التأقلم مع
ظروف "اقتصاد التجربة".. كل ذلك يعزز أهمية التعاون الإنساني، واستخدام
الأساليب غير العسكرية، لتعزيز السياسة الروسية وتعزيز نهجها.
فالمعارك
الرئيسية اليوم لا تدور في ساحات القتال، ولكن في نشرات الأخبار وشبكات التواصل
الاجتماعي، وفي المجموعات التي توحدها مصلحة خاصة في موضوع ما، وتعطي إحساساً
واضحاً بالتعرف على "الصديق أو العدو"، أي، بمعنى آخر، في وعي وأذهان
الناس، وقد نصت الوثيقة الروسية على جملة من المقومات، أبرزها:
- إعادة إحياء
“العالم الروسي:
ركزت
الوثيقة على مفهوم جديد أطلقت عليه “العالم الروسي” باعتباره أساس القوة الناعمة
الروسية.
فقد
وضع المفكرون والسياسيون الروس، من يطلق عليهم الغرب “التيار المحافظ الروسي”،
المقومات الوطنية لروسيا كأساس لتعامل موسكو مع العالم الخارجي، وبذل كل جهودها
للحفاظ على مقوماتها الاقتصادية والإنسانية والثقافية، مع التركيز على أهمية
الحفاظ على تقاليد “العالم الروسي”، التي توارثتها المجتمعات والدول التي تتشارك
مع روسيا المقومات التاريخية والإنسانية ذاتها.
- حماية الجاليات
الروسية:
تشير
روسيا إلى جالياتها بالخارج بعدة مصطلحات قد تدل ضمنياً على أبعد من المواطنين
الروس بالخارج، منها “الروس الموجودون بالخارج”، والمتحدثون بالروسية”، و” الروس
في جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفييتي.. حيث تؤكد الوثيقة بصورة أو بأخرى ارتباط
“الروس كافة” بوطنهم الأصلي، متضمناً الروس بالعرق “روسكي”، والروس بالميلاد أو
بالتطبيع الثقافي “روسيانين”، وهو المفهوم الأعم الذي تتضمنه المستندات والوثائق
الروسية كافة لتؤكد تفردها الثقافي المتنوع اثنيا، ودينياً، وجغرافياً.
وتعتبر
روسيا دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، من البلطيق إلى آسيا الوسطى، دولا تقع تحت
النفوذ الشرعي لها. بما يمهد لروسيا، القيام بتدخلات في الدول التي تطبق سياسات
غير ودودة للمواطنين من ذوي الأصول الروسية.
- دعم القيم الروسية
وضعت
الوثيقة اللغة الروسية، على رأس تلك القائمة، فاللغة الروسية بجانب كونها اللغة
الأولى أو الثانية لعدد كبير من الدول، إلا إنها لغة رسمية لأهم المنظمات
والتجمعات الدولية والإقليمية.
وتسلط
الوثيقة الضوء على التنوع الثقافي، والديني، والقومي لروسيا الاتحادية، والحفاظ
على تلك المقومات من العولمة “الأحادية” التي تقضي على الاختلاف، ولا ترحب بالتنوع
وتعمل على تنميط نوع معين من الثقافات. بالإضافة إلى الترويج لتقاليد المجتمع
الروسي المتعلقة بقيم الأسرة التقليدية ضد ما أسمته الوثيقة بوجهات النظر النيو
ليبرالية فيما يخص الأسرة النووية.
- جذب الطلاب
الأجانب:
يعد
العمل على جذب عدد أكبر من الطلاب الأجانب للدراسة في روسيا، وجعلها وجهة جاذبة
جدًا للشباب المهتم بالدراسة في كافة المجالات الأكاديمية، أحد أدوات القوة
الناعمة التي ركزت عليها الوثيقة، وأعطت الأولوية لطلاب كومونولث الدول المستقلة،
والبريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، حيث تحاول روسيا الاستفادة من الإرث السوفييتي
فيما يخص التعاون الشبابي، وجعل روسيا مركزاً دولياً للمؤتمرات والتجمعات الشبابية.
- علاقات موسكو
الخارجية:
وركزت
الوثيقة على الاهتمام بتنمية علاقات موسكو بدول منظمة شنجهاي للتعاون، وكومنولث
الدول المستقلة، والدول السلافية، والصين، والهند، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا،
وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، كما ركزت الوثيقة على تنمية العلاقة بإقليمي أبخازيا
وأوسيتيا الجنوبية اللذين أعلنت انفصالهما عن جورجيا قبيل العملية العسكرية
الروسية ضد جورجيا عام 2008، بالإضافة إلى لوجانسك ودونيتسك في الدونباس، بالإضافة
إلى التركيز على التجمعات الروسية في دول البلطيق ومولدوفا لحماية حقهم في التحدث
بلغتهم الأم.
وجدير
بالذكر أن الوثيقة اختلفت كثيراً عن مفهوم السياسة الخارجية لعام 2016 حينما خصت
عدداً من الدول لتركيز الجهود الروسية لتقوية العلاقات الإنسانية الثقافية بها،
وكانت هذه الدول هي الجزائر، ومصر، والأردن، والكيان الصهيوني، والإمارات العربية
المتحدة، والسعودية، وسوريا، وإيران، وأفغانستان، وفلسطين، والأرجنتين، والبرازيل،
وفنزويلا، وكوبا، والمكسيك، ونيكاراجوا، وباراجواي، وأوروجواي، وتشيلي.
وأكدت
الوثيقة أن الاتحاد الأوروبي سيبقي شريكاً تجارياً مهماً جداً لروسيا الاتحادية،
كما أنه يعتبر شريكاً أساسياً في السياسة الخارجية لروسيا، ولكنها أكدت رفض
محاولات توسع الناتو تجاه حدودها.
- عالم متعدد
الأقطاب:
وأكدت
الوثيقة الاهتمام بالمساعدات المالية والفنية التي تقدمها روسيا لدول العالم من
خلال ترسيخ دور روسيا في التعاون الدولي للإنماء والاستدامة، لبناء نظام دولي
متعدد الأقطاب”، وتوظيف العولمة في تكوين مراكز جديدة للقوى الاقتصادية والسياسية،
وتنمية فرص اللامركزية الدولية، والتحول التدريجي نحو منطقة آسيا- المحيط الهادئ،
ما يقلل من جاذبية الأساليب الغربية التقليدية سياسياً واقتصادياً.
وستكثف
روسيا جهودها في محاولات تغيير النظام الدولي الأحادي، من خلال استخدام كل أدوات
سياستها الخارجية، وإعادة رسم علاقاتها الاقتصادية والتجارية، وبناء تحالفات جيوستراتيجيا
جديدة، وتوظيف أدوات قوتها الناعمة من أجل إعادة ترتيب النظام السياسي الدولي كما
تراه مناسباً..
ويبقى
نجاح تلك الخطوات مرهوناً بعوامل كثيرة أهمها قدرة روسيا على بناء تلك التحالفات
الجديدة وقدرة اقتصادها، الذي يعاني بالفعل، تحمل تكلفة التحركات الروسية المأمولة.
لهذا
السبب، وبالنظر إلى العملية العسكرية الخاصة التي تقوم بها روسيا في أوكرانيا، فإن
تطوير أدوات "القوة الناعمة" مسألة في غاية الأهمية. فروسيا، التي تخوض
"معركة الخير ضد الشر" في أوكرانيا وضد الغرب، لا يمكنها ببساطة أن
تتجاهل "مجالات حرب الأدمغة"، حيث لا تزال نجاحاتها في البلدان الأخرى
متواضعة للغاية.
يبدو
أن السياسة "الإنسانية" لروسيا يجب أن تقدم رداً على هذا التحدي، لا
سيما بالنظر إلى طموحاتها كأحد المراكز المؤثرة في العالم متعدد الأقطاب. وحتى إذا
نظرت إلى العلاقات الدولية من منظور المواجهة ثنائية القطب بين الصين والولايات
المتحدة، فيجب أن تصبح "القوة الناعمة" أداة للمناورة ومورداً لزيادة
رأس المال السياسي للاعبين الثانويين.
حيث
إن غياب "توجه الدولة" نحو الاستثمار في "القوة الناعمة" يؤدي
إلى تقليص أموال الميزانية المخصصة لهذا المجال، إلى جانب أن عدم التنسيق بين
مؤسسات الدولة المعنية بالأمر، وغياب الأهداف الواضحة لكل مجال من المجالات الرئيسية
"للقوة الناعمة" سيؤدي بدوره إلى هدر الإمكانيات المالية المتواضعة
أصلاً.
لطالما
كانت روسيا قوية وجادة في تحديد "الخطوط الحمراء" ومقاربة السياسات التي
لا تناسبها كمركز عالمي للقوة. لكن التركيز كان بشكل رئيسي منصب على الحفاظ على
إنجازات الماضي، ومواجهة التقليل من قيمتها، وبناء سلسلة منطقية متينة من تعاقب
العظمة - من الإمبراطورية الروسية إلى الاتحاد السوفياتي وروسيا الحديثة.
حيث
انه بدأت في العامين الماضيين عملية تشكيل مثل هذه الصورة لروسيا، والتي تجلت من
خلال استراتيجية الأمن القومي المحدثة، والتي صاغت لأول مرة بشكل علني 17 قيمة
روحية للشعب متعدد الجنسيات في بلدنا، وكذلك أساسيات سياسة الدولة للحفاظ على
القيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية وتعزيزها، وثبتت مفهوم التوجه
الإنساني لسياسة روسيا الخارجية.
نحن
نتحدث، من بين أمور أخرى، عن دولة ملتزمة "بمبادئ المساواة والعدالة وعدم
التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى"، وعلى استعداد "للتعاون متبادل
المنفعة دون شروط مسبقة"، وتعترف بـ "الهوية الوطنية والثقافية والقيم
الروحية والأخلاقية التقليدية للمجتمعات، كأعظم إنجازات البشرية وتعتبرها أساساً
للتطور الناجح اللاحق للحضارة الإنسانية".
في
كل الأحوال، يبقى العامل الرئيسي لـ "القوة الناعمة" مؤسسة "روس
سوترودنيشيستفا" (التعاون الروسي)، التابعة لوزارة الخارجية، والتي تتميز
بكونها شبكة واسعة من المكاتب التمثيلية في الخارج. وعلى الرغم من العقوبات التي
فرضها الاتحاد الأوروبي والطرد الجماعي للدبلوماسيين، يتم تنفيذ عمل ضخم من قبل
هذه المؤسسة في 74 دولة في 12 مجالاً - من بينها الترويج للثقافة والتعليم
الروسيين، والعمل مع المواطنين والشباب والمنظمات غير الحكومية.
سيزداد
توسيع النفوذ الإنساني الروسي في المستقبل هذا العام بمقدار خروجنا من الأزمة
الجيوسياسية العالمية. لقد استنفدت تقريباً كل فرص تحسين النظام العالمي الحالي،
والقيام بعملية "إصلاح تجميلي" له. في الوقت نفسه، تتمتع "القوة
الناعمة" الروسية بإمكانيات كبيرة، يمكن تحقيقها إذا كان هناك تحديد واضح
للأهداف، وتنسيق داخل القطاع العام، وبين الشركات والمنظمات غير الحكومية، وإدخال
أساليب جديدة للعمل مع الجماهير في البلدان التي تهمنا. يبقى فقط إطلاق هذه
العملية التي تتطلب جهوداً طويلة الأمد ومضنية.
المراجع :
_ سامر الياس، 30.7.2020، القوة
الناعمة الروسية، العربي الجديد.
_ فهيم الصوراني، 26.4.2023، كيف
تفكر روسيا في القوة الناعمة، الميادين.