إن
تحديد المسائل التي تنظم بتشريع عادي ، وتلك التي تنظمها لائحة ، يعد من أهم
الضوابط التي تحكم النشاط التشريعي ، إذ ينبغي أن يكون معلوماً لأدوات التشريع
"بمفهومه الواسع" ما يجب أن ينظم بقانون ، وما يكتفى في تنظيمه باللائحة
، ولاشك في أننا هنا لا نثير المسألة من زاوية عدم المشروعية الإدارية التي يوصم
بها نشاط السلطة التنفيذية حينما تنحرف في مسلكها عن الحدود التي رسمها لها
القانون ، فتمارس نشاطاً لا يقر لها القانون ممارسته ، إذ أن عدم المشروعية
الإدارية يفترض أن المشرع لم يمنح لجهة الإدارة اختصاصاً معينا فيكون نشاطها
خلافاً لذلك باطلاً أو منعدماً حسب الأحوال ، ليس هذا ما نود إثارته في هذا المقام
، فالذي نعنيه بالضوابط هنا تلك التي تحد من السلطة المشرع نفسه في منح السلطة
التنفيذية اختصاصاً بطبيعته لا ينبغي أن يمارس إلا من قبل السلطة التشريعية ، فإذا
كان في الإمكان القول بأن الضابط يتعلق بطبيعة الموضوعات من حيث ثباتـها النسبي ،
أو تغيرها المطرد والذي يقتضي التدخل التشريعي من حين لآخر بالتعديل بما يتلاءم
وهذا التغير ، فتكون الطائفة الأولي مما ينظم بقانون ، والثانية مما ينظم بلائحة ،
فإن في جملة ما يعانيه نظامنا التشريعي " الليبي" من اضطراب تبرز مثل
هذه الإشكالية ، فنلاحظ ما ينبئ عن أن سلطة التشريع لم تحط بجوانب هذه المسألة أو
ربما لم تعرها اهتماما ًفجاءت الكثير من التشريعات ـ سواء العادية أو الفرعية ـ
لتنظم أوضاعاً ـ في شتى فروع القانون ـ لا تنسجم و الضابط الذي أسلفنا الإشارة
إليه ، وهي مشكلة تبرز في شتي فروع القانون ، و يهمنا هنا بحثها من الجانب الجنائي
بحيث نتساءل ، إذا كانت السلطة التنفيذية تختص بتنظيم وضع من الأوضاع ، فهل
تملك أن تتبع أسلوب التجريم والعقاب لتنظيم جانب من جوانب هذا الوضع ؟
إن
الإجابة عن هذا التساؤل تحتاج بداية بحث موقف المشرع الليبي من الصيغ المختلفة
لمبدأ الشرعية الجنائية، ومن ثمَّ نرى ما إذا كان نهج المشرع في هذا الشأن يتفق وضوابط
التشريع. ولذا فإننا سنتناول المسألة في نقطتين:
- النقطة الأولى: موقف المشرع الليبي من اللائحة كمصدر للتجريم
والعقاب.
-
النقطة الثانية: تقييم موقف المشرع الليبي.
_
النقطة الأولى:
موفق
المشرع الليبي من اللائحة كمصدر للتجريم والعقاب:
إن
مدى الاعتراف للائحة بصفة المصدر للتجريم والعقاب في أي نظام قانوني، يتوقف علي
الصياغة التي يتبناها ذلك النظام لمبدأ الشرعية الجنائية ، ذلك المبدأ الذي بموجبه
تحدد المصادر المباشرة ـ وغير المباشرة ـ للتجريم ، إذ لهذا المبدأ صياغات عدة
تختلف في مضمونها وآثرها ، فإذا نص المشرع علي أن لا جريمة و لا عقوبة إلا بقانون
، فإن ذلك يعني أن التجريم و العقاب لا يكون إلا بموجب نص قانوني بالمعني الضيق ،
أي التشريع العادي الذي يصدر عن السلطة التشريعية ، ومن ثم فإنه وفقاً لهذه
الصياغة ليس للائحة شأن بالتجريم والعقاب ، فلا يعتد بها كمصدر في هذا الشأن ، إن
مثل هذه الصياغة تبناها المشرع في قانون الجرائم والعقوبات حيث نص علي ألا جريمة
ولا عقوبة إلا بقانون ، ما يقتضي عدم الاعتراف للائحة بصفة المصدر في هذا الشأن ،
فإن خالفت السلطة التنفيذية أو حتى التشريعية هذا المسلك فأصدرت الأولى ما ينطوي
على معني التجريم أو منحت لها الثانية الاختصاص بذلك فإن المسلكين سيوصمان بعدم
الدستورية ، لما لمبدأ الشرعية من طبيعة سامية ، و إن لم يرد النص عليه في
الدستور.
أما
الصياغة الثانية لمبدأ الشرعية فيأتي نصها : [ لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على
قانون ] فوفقاً لمثل هذه الصياغة فإن التجريم والعقاب يجب أن يكون وفقاً لنص
قانوني بالمعنى الضيق ، غير أن ذلك لا يعني أن يكون هذا النص هو المتضمن للنموذج
التجريمي ، وإنما يكفي أن يحيل النص القانوني بمفهومه الضيق لأي مصدر آخر ليكون
الأخير هو المصدر للتجريم والعقاب ، ولذا فإنه في مثل النظم التي تأخذ بهذا
الصياغة لا يعتد للائحة بصفة المصدر للتجريم والعقاب إلا بموجب تفويض من قبل
السلطة التشريعية ، وبكلمة أوضح ، فإن مثل هذه الصياغة لمبدأ الشرعية وإن كانت لا
تسمح للائحة بأن تكون مصدراً أصيلاً للتجريم والعقاب ، إلا أنها في الوقت نفسه
تعترف لها بهذه الصفة بناء على تفويض من السلطة التشريعية بموجب نص قانوني بطبيعة
الحال ، فالتجريم والعقاب في الأصل يجب أن يكون بناء ً على نص قانوني ، أم التجريم
والعقاب كنموذج فمن الممكن أن يصاغ بمصدر آخر ، فهذه الصياغة من المرونة بما يسمح
بتعدد مصادر التجريم ، فالقانون بمعناه الضيق ليس بالضرورة هو مصدر التجريم
والعقاب ، ولكنه بلا شك هو مصدر مصادر التجريم والعقاب بصرف النظر عن طبيعة هذه
المصادر ، سواء أكانت مكتوبة أو لم تكن .
يتبنى
المشرع الليبي صياغة لمبدأ الشرعية تختلف عن الصياغتين السابقتين، حيث نصت المادة
الأولى من قانون العقوبات على أنه (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) فما الذي يترتب
على هذه الصياغة؟
القول
بأن التجريم والعقاب لا يكون إلا بنص يعني أن المشرع الليبي من ناحية لا يعترف
لغير النصوص المكتوبة بصفة المصدر في مجال التجريم والعقاب ، و في المقابل فإن كل
النصوص المكتوبة تصلح لأن تكون مصدراً لذلك ، ويقصد بالنصوص المكتوبة تلك التي
تصاغ في قوالبَ تشريعية ، أي ما يصدق عليه وصف التشريع أي كانت درجة هذا التشريع ،
عادياً أم لائحياً ، وهو ما يمكن معه القول بأن هذه الصياغة لمبدأ الشرعية من حيث الأصل
تعترف للائحة بصفة المصدر في مجال التجريم والعقاب ، فاللائحة نص وفقاً
للمفهوم الذي تعنيه الصياغة موضوع البحث، فإذا كان الأمر كذلك ، فهل يعني هذا أن
المشرع الليبي وفقاً لما تبناه من صياغة لمبدأ الشرعية يعترف للائحة بصفة المصدر
في مجال التجريم والعقاب؟
في
اعتقادنا أن المشرع الليبي وفقاً للمادة (1) من قانون العقوبات قد تبنى لمبدأ
الشرعية صياغة تعترف للائحة من حيث الأصل
بصفة المصدر للتجريم والعقاب، فإذا كان المشرع يكتفي بمجرد الـنص، فإن
اللائحة تفي بما استلزمه المشرع، فلا أحد يجادل في طبيعتها التشريعية النصية ، إذ ليس القانون وحده هو مصدر التجريم
والعقاب إذن ؛ فهو أحد مصادره بالإضافة للائحة ، فكلاهما نص ، ولا ينبغي الاعتراض
على مثل هذا الفهم بمقولة إن المادة " الثانية " من قانون العقوبات قد
أشارت بمفهومها إلى ما يقيد منطوق نص المادة " الأولى " من ذات القانون
، حينما أشارت إلى أن الجرائم تخضع للقوانين المعمول بها وقت ارتكابها ، بحيث
استعمل المشرع في هذا النص مصطلح قانون ، فدل ذلك على أن المقصود بلفظ النص الوارد
بالمادة الأولى ، النص القانوني ، فهذا الاعتراض على وجاهته إلا أنه قد يصطدم
بقواعد التفسير ، فنص المادة الأولى قد دل بمنطوقه على أن النص هو مصدر التجريم
والعقاب ، ومفهوم النص ينصرف لمعنى التشريع بالمفهوم الواسع ، ودلَّ نص المادة
الثانية بمفهومه على أن الجرائم يعاقب عليها بمقتضى القوانين..... الخ ، فدلالة نص
المادة الثانية هي دلالة ظاهر أي دلالة مفهوم ، ودلالة نص المادة الأولى هي دلالة
نص أي منطوق ،لأن المادة الأولى وردت بشأن تحديد مضمون مبدأ الشرعية فهي نص منطوق
في هذا المعنى ، والمادة الثانية وردت في شأن تحديد نطاق تطبيق قانون العقوبات من
حيث الزمـان ، فدلالتها في هذا الشأن دلالة ظاهر
مفهوم والقاعدة في التفسير أنه إذا
تناقضت دلالة المنطوق مع دلالة المفهوم غلبت دلالة المنطوق( ) ، ولا شك في أن هناك
تناقض بين الدلالتين ، فالمادة الأولى تكتفي بالنص المكتوب عموماً، والمادة
الثانية أشارت إلى النص القانوني ، فيغلب معنى المادة الأولى على الثانية فيحمل
لفظ قانون في المادة الثانية على ما ورد بالمادة الأولى لا العكس ، بحيث يفهم
مصطلح قانون على معنى القانون بمعناه المكتوب ، سواء كان فرعيا أو لائحيا، لا بمعناه
الضيق .
ولعل
الشاهد على هذا المعنى هو ما ورد بالمادة (507) من قانون العقوبات حينما حددت هذه
المادة النطاق الذي يُعترف فيه للائحة بصفة المصدر في مجال التجريم والعقاب ،
فقُصر هذا النطاق على المخالفات دون الجنح والجنايات ، هذا هو المعنى الذي يفهم من
نص المادة (507) بما يعني أن المشرع يعترف من حيث الأصل للائحة بصفة المصدر في هذا
الشأن ، إلا أن نطاقها ينحصر في المخالفات ، فلو كانت اللائحة ليست مصدراً للتجريم
والعقاب وفقاً للمادة الأولى المشار إليها ، لما كان مقبولاً أن تعترف المادة
(507) لها بذلك في نطاق المخالفات، و لاعتبر ذلك تضارباً بين نصوص القانون الواحد
، ذلك أن المشرع حينما يعتمد صياغة لمبدأ الشرعية فإنه لا يملك أن يورد عليها
استثناء حتى وإن لم تكن تلك الصياغة مقرر بموجب نص في الدستور كما هو الوضع في
القانون الليبي ، والقول بغير سوف يودي إلى إفساح المجال أمام المشرع لانتهاك هذه
الصياغة بأن يقرر إحالة لمصدر لا تعترف به تلك الصياغة كمصدر للتجريم تحت مشروعية
الاستثناء ، ومن ثم لا يمكن اعتبار نص المادة (507) مخالفاً لنص المادة الأولى
بمقولة إنه استثناء عليها، فلا يقبل إيراد استثناءات على الصياغة التي يقررها المشرع
لمبدأ الشرعية.
وعلى
ذلك فإن المشرع الليبي يعترف من حيث الأصل للائحة بصفة المصدر للتجريـم والعـقاب،
وفقاً لصياغة مبدأ الشرعية المقررة بالمادة الأولى، أما المادة (507) فهي تنظيمية
حددت نطاق التجريم الذي تختص به السلطة التنفيذية، وليس في ذلك تعارضاً بين النصين،
فالتقييد لا يعني التعارض.
ولذلك
يمكن القول إن التجريم والعقاب في القانون الليبي يُكتفى في شأنه بمجرد النص
المكتـوب حتى يمكن اعتبار مسلك أداة التشريع موافقاً لمقتضيات مبدأ الشرعية ، وكل
ما في الأمر أن اللائحة قد حدد نطاق مصدريتها للتجريم والعقاب في حدود المخالفات ،
فالتجريم والعقاب في الجنايات والجنح يكون بقانون ، أما في المخالفات فتستوي
اللائحة والقانون ، وإذا كان الأمر كذلك فلا وجود لما يمنع من أن يفوض المشرع
الليبي السلطة التنفيذية في تحديد أحد عناصر الجريمة ، جناية أو جنحة ، كنهجه بشأن
تحديد نصاب السرقة في قانون حدي السرقة والحرابة ، بل ليس هناك ما يمنع في الوضع
الراهن للنصوص أن يفوّض المشرع هذه السلطة في إصدار لوائح تتضمن جرائم بدرجة جناية
أو جنحة ، فالمادة الأولى من قانون العقوبات تكتفي بمجرد النص كمصدر للتجريم
والعقاب ، وهذا هو القيد على سلطة المشرع في التجريم والعقاب ، لأن هذه المادة نصّ
في تحديد مفهوم مبدأ الشرعية، فلا يملك المشرع مخالفتها، أما المادة (507) فلا شأن
لها برسم معالم هذا المبدأ، فهي نص تنظيمي في تحديد نطاق اللائحة فقط ولا يقيد
المشرع، إذ النص القانوني لا يقيد نصاً قانونياً آخر متعارضاً معه متى كان لاحقاً
عليه في الصدور، ما يعني أن المشرع يملك مخالفة هذا النص بمنح اللائحة تفويضاً
بالتجريم في غير المخالفات، وبدون هذا التفويض يظل نطاق اللائحة في التجريم
منحصراً في المخالفات.
فإذا
كان المشرع الليبي ينص في المادة( 507) من قانون العقوبات على عدم اختصاص اللائحة
بالتجريم و العقاب إلا في حدود المخالفات ، فإن ذلك لا يمنع المشرع من النص على ما
يخالف هذه المادة، إذ هي ليست نصّاً في مبدأ الشرعية من ناحية، و لا يمكن من ناحية
أخري القول بأنها ستقيد نصاً لاحقا عليها في الصدور ، بل النص اللاحق سيعد استثناء
عليها، ولكن يجب ألا يفهم على أنه من قبيل التناقض في قناعتنا التسليم بجواز
الاستثناء على نص المادة (507 ) وعدم جوازه بالنسبة للصياغة التي قد يتبناها
المشرع لمبدأ الشرعية، ذلك أن هذه المادة ليست صياغة لمبدأ الشرعية، وإنما هي قيد
عليه في القانون الليبي، ومن ثم فأي نص يوسع من صلاحيات اللائحة في مجال التجريم و
العقاب فهو يعود بنا للصياغة الأصلية لمبدأ الشرعية وفقا للمادة الأولى من قانون
العقوبات الليبي ، وهو ما يعطي لهذا النص مشروعيته.
_
النقطة الثانية:
تقييم
موقف المشرع الليبي من اللائحة كمصدر للتجريم والعقاب:
ليس
في نيتنا هنا تقييم هذا الموقف بالنظر للخلفية التاريخية لمبدأ الشرعية، أهو قد
أقر للفصل بين السلطات، فتكون السلطة التشريعية هي صاحبة اختصاص التجريم دون
السلطتين التنفيذية والقضائية، فلا تكون وفقاً لذلك للأخيرتين الاختصاص بالتجريم العقاب؟
أم أن أساس هذا المبدأ هو تحقيق العدالة بأن لا يعاقب شخص عن فعل يشكل جريمة إلا
بعد إعلانه بهذا التجريم والعقاب مسبقاً بموجب نصوص مكتوبة بصرف النظر عن شكل هذه
النصوص ، فهذا كان سيقودنا إلى تلمس أصل المبدأ عند رائد المدرسة التقليدية "
بكاريا "، فليست هذه الوجهة التي نسلكها في تقييم مسلك مشرعنا رغم أهميتها،
فنحن نود تقييم هذا المسلك بالنظر إلى الضابط الذي سبق وأن أشرنا إليه في مقدمة
هذه الورقات ، الضابط الذي على أساسه تحدد المسائل التي تنظمها لائحة وتلك التي
ينظمها قانون ، ففي مجال التجريم والعقاب رأينا إن القانون بمعناه الضيق يكون
مصدراً للتجريم في الجنايات والجنح والمخالفات، أم اللائحة فنطاقها ينحصر في
المخالفات فقط ما لم تفوض فيما عدا ذلك.
نعتقد
بأن هذا المسلك من المشرع الليبي فيه قرب من الاتجاه الصواب، حيث إن جميع الجنايات
والجنح كقاعدة عامة يتسم تجريمها بالثبات والاستـقرار، فلخطورتها يواجهها المشرع
بعقوبات أشد من تلك المقررة للمخالفة وهذه الخطورة على نحو يقدره المشرع يفترض
فيها من الجدية ، ما يجعلها تتمتع بالثبات النسبي فتكون مما ينظم بموجب قانون، وإن
كان النظام القانوني الليبي يسمح للقانون بالتجريم في المخالفات ، إلا أننا نرى أن
يترك الأمر بشأنها للائحة كلما كان موضوعها مما تختص بتنظيمه السلطة التنفيذية ،
ولا يتدخل المشرع بشأنها إلا إذا كان الموضوع المراد حمايته لا يدخل في اختصاص
السلطة التنفيذية.
بحيث
ينبغي أن تنفرد السلطة التنفيذية بالتجريم عند مستوى المخالفات لتنظيم المسائل
الداخلة في اختصاصها، وذلك لما للمخالفات من طبيعة مخـتلطة، إذ تتمتع بطبيعة إدارية،
وبقابليتها للتغير، ما يجعل من اللائحة المصدر المناسب لتنظيمها، وهو ما تبناه
المشرع الفرنسي في المادة 111/3 من قانون العقوبات.
إن
صياغة مبدأ الشرعية في القانون الليبي تسمح للسلطة التشريعية أن تفوض السلطة
التنفيذية في تنظيم عنصر من عناصر التجريم ولو كان هذا العنصر يتعلق بجريمة بدرجة
جناية ، متى كان هذا العنصر قابلاً للتغير ، وهذا مسلك محمود للمشرع الليبي حتى لا
يضطر من وقت لآخر لتعديل نصوص القانون بمعناها الضيق تبعاً لتغير ذلك العنصر ، وهو
مسلك اتبعه المشرع بصدد تحديد النصاب في جناية السرقة الحدية ، حيث أسند الاختصاص
بتحديده لجهة تنفيذية تصدره بقرار لائـحي وهذا يسمح بمواكبة التغير في القيمة
الشرائية للنقود ، ما يستتبع تغير في قيمة النصاب ، وليس في مسلك المشرع الليبي في
هذا الشأن أي خروج عن مبدأ الشرعية في القانون الليبي ، فهو موافق لصياغة المادة
الأولى عقوبات ، ويمكن اعتباره استثناءً على نص المادة ( 507 ) على نحو ما قدمنا.
ولا
يمكن الاعتراض على مسلك المشرع الليبي بمنحه اللائحة الاختصاص بوضع قواعد تجريميه
في حدود المخالفات بمقولة إن ذلك مخالف لمبدأ الشرعية، فهذا المبدأ لا يكون منتهكا
ً إذا توافر في مصدر التجريم عنصران:
-
إمكانية العلم بمضمون التجريم من الكافة.
-
تجريد القاضي من سلطة التجريم.
ولا
شك أن اللائحة كفيلة بتحقيق هذين الغرضين، ولسنا نسلم بالقول الذي يرى إن هذا المبدأ
قد قرر للفصل بين السلطات، ولذا يجب أن تستقل السلطة التشريعية بالتجريم دون
السلطتين التنفيذية والقضائية، فهذا القول مردود عليه بالآتي:
_
إنه حتى وإن سلمنا جدلاً بأن الفصل بين السلطات في التجريم يشمل السلطة التنفيذية
بالإضافة للقضائية التي لا خلاف بشأنها، فإن التساؤل المطروح هو على أي أساس قيل
بأن التجريم هو اختصاص مقصور على السلطة التشريعية ، فقبل القول بالفصل بين
السلطات يجب أن نحدد اختصاص كل سلطة ، وليس هناك معياراً واضحاً ومسلماً به يقرر
أن التجريم دائما هو من اختصاص السلطة التشريعية حتى يمكن القول بالفصل بين
السلطتين بشأنه ، اللهم إلا إذا استندنا إلى الفهم السائد عند البعض لمبدأ الشرعية
والذي يقرر أن التجريم من اختصاص السلطة التشريعية، وفي ذلك مصادرة للمطلوب بلا شك.
_
إن العلاقة بين مبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ الشرعية يمكن تلمسها من خلال الظروف
التاريخية التي عاصرت ظهور المبدأ و كانت مبرراً له، والتي تتمثل في حالة الجور
والتعسف التي سادت النظام القضائي آن ذاك، حيث كان القاضي هو المشرع و الحكم في آن
معا ، ما جسد في نظر بيكاريا أقصى صور التعسف، لذا لم يكن أمامه إلا المناداة
بحرمان القاضي من سلطة التجريم و إسناد هذه المهمة لسلطة أخرى هي التشريعية،
ليستقل القاضي فقط بمهمة تطبيق القانون العقابي، و الضمانة الوحيد لترسيخ هذا
المبدأ هي الاستناد للفصل بين السلطات الذي كان من الإفرازات الفكرية لتك المرحلة،
لذا فمبدأ الشرعية حينما يستند لمبدأ الفصل بين السلطات، فهو يقرر الفصل بين
السلطتين القضائية والتشريعية، دون أن يفهم من ذلك أن التجريم هو دائما ًمن اختصاص
السلطة التشريعية، فقد تشاركها السلطة التنفيذية فيه، و آن ذاك يجب أن يحدد اختصاص
كل واحدة في مجال التجريم، وهذا فهم يبتعد عن معنى استئثار إحداهما بهذا الاختصاص
برمته.
ففي
ضوء الغاية التي كان يسعى بيكاريا لتحقيقها من خلال المناداة بمبدأ الشرعية والتي
تتمثل بالدرجة الأولى في حرمان القاضي من سلطة التجريم، يمكن القول إن هذا المبدأ
لم يُقصد به حرمان السلطة التنفيذية من مهمة التجريم ، وإنما الحرمان منصرف فقط
للسلطة القضائية، فإذا منح المشرع للسلطة التنفيذية اختصاصاً بالتجريم فيجب ألا
يعاب عليه ذلك بمقولة مخالفته للأساس الذي يقوم عليه مبدأ الشرعية، فالمعيار هو
مدي اتفاق الجريمة من حيث طبيعتها لما يمكن أن ينظم بموجب تشريع لائحي، وقد أشرنا
سلفا ً إلى أن قابلية الموضوع للتغير هي الأساس الذي بموجبه يمكن إسناد الاختصاص
بتنظيمه لهذا النوع من التشريع ، ولا غروة في أن النص على هذه القاعدة في متن
وثيقة لها اسم دستور سوف يكفل احترامها من قبل أدوات التشريع تجنبا ً للاعتماد على
فكرة الخضوع الطوعي التي ثبت عدم جدواها في ظل نظامنا القانوني، وهي مشكلة لم يقلل
من حدتها التمسك بالطابع الدستوري لبعض النصوص بالنظر لطبيعتها هذه وفقاً للمعيار
الموضوعي في تحديد معنى الدستور ، لذا فوجود دستور في أي نظام قانوني يعد من
الضرورات التي تكفل احترام النسق القانوني الذي يقره ذلك النظام ، ومن ذلك احترام
مبدأ الفصل بين السلطات الذي لا يمكن ترسيخه إلا بوجود الدستور.
الخلاصة
إن
مشكلة التشريع اللائحي في هذا الشأن- تبدو ذات طبيعة فنية خاصة؛ فمشكلة اللائحة لا
تتجسد في طبيعتها الشكلية، فهي نص مكتوب، ولكن المشكلة تبدو من ناحية أخرى، فتحديد المسائل التي تنظم بتشريع عادي، وتلك
التي تنظمها لائحة، يعد من أهم الضوابط التي يجب أن تحكم النشاط التشريعي، والذي من خلاله يتم تحديد نطاق
التنظيم الذي يختص به كل تشريع، أو بالأحرى الجهة المصدرة له؛ إذ ينبغي أن يكون
معلوماً لأدوات التشريع "بمفهومه الواسع" ما يجب أن ينظم بقانون، وما يكتفى في تنظيمه
باللائحة؛ ولاشك في أننا هنا لا نثير المسألة من زاوية عدم المشروعية الإدارية
التي يوصم بها نشاط السلطة التنفيذية حينما تنحرف في مسلكها عن الحدود التي رسمها
لها القانون، فتمارس نشاطاً لا يقر لها ممارسته، إذ أن عدم المشروعية الإدارية
يفترض أن المشرع لم يمنح لجهة الإدارة اختصاصاً معينا فيكون نشاطها خلافاً لذلك
باطلاً أو منعدماً حسب الأحوال؛ ليس هذا ما نود إثارته في هذا المقام، فالذي نعنيه
بالضوابط هنا تلك التي تحد من سلطة المشرع نفسه في منح السلطة التنفيذية اختصاصاً
بطبيعته لا ينبغي أن يمارس إلا من قبل السلطة التشريعية، في إطار صياغة مبدأ
الشرعية الجنائية.
وبذلك
نخلص إلى ضرورة التأكيد على الضابط في تحديد المسائل التي تنظمها لائحة وتلك التي
ينظمها قانون في مجال التجريم والعقاب ، بحيث تجرم الجناية والجنحة بقانون ، ويترك
للائحة التجريم في حدود المخالفات لتنظيم ما يدخل في اختصاصها من مواضيع ، مع
إمكانية تفويض السلطة التنفيذية لتنظيم عنصر تجريمي في جناية أو جنحة متى كان
بطبيعته لا يتسم بالثبات ، غير أن ذلك يجب ألا يعني أن السلطة التشريعية ستفقد اختصاصها
بالتجريم في حدود المخالفات، إذ أنها سوف تملك هذا الاختصاص بالتجريم في حدود
المخالفات فيما لا يدخل في اختصاص السلطة التنفيذية، و وترسيخ هذا الاختصاص يحتم
بلا شك وجود دستور يمنع الافتئات على مبدأ الفصل بين السلطات.
و
نحن هنا لا نتفق والموقف المتطرِّف إن جاز التعبير الذي تبناه مشروع قانون العقوبات الليبي في
اعتماده لمبدأ الشرعية صياغة لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون ، فهذا يعني أن السلطة
التشريعية هي فقط من تملك اختصاص التجريم ، وهذا بتقديرنا سوف يجعلنا أمام إسراف في
التشريع بشأن التجريم في المخالفات حيث إن تجريمها لا يكون إلا بقانون ، فهي من
طبيعتها التميز بالتغير ما يقتضي التدخل دائما ًبموجب قانون للتعديل أو الإلغاء ،
فضلاً عن أن ذلك من شأنه حرمان السلطة التنفيذية من استعمال التجريم كوسيلة لتنظيم
أوجه النشاط الداخل في اختصاصها ، و هذا الحرمان كما أسلفنا في موضعه من هذه
الورقة لا يمكن تبريره استنادا ً لمبدأ الفصل بين السلطات.
كما
أننا لا نتفق مع الصياغة التي يتبناها المشرع الفرنسي لمبدأ الشرعية وفقا للمادة
(111/3 )من قانون العقوبات بمنح الاختصاص بالتجريم في الجنح و الجنايات للسلطة
التشريعية وحرمانها من التجريم في المخالفات بحيث يكون الاختصاص بشأنها قاصرا ً
على السلطة التنفيذية، فهذا يعني أن السلطة التنفيذية سوف تمارس اختصاص التجريم في
حدود المخالفات لتنظيم النشاط الداخل في اختصاصها، وفيما عدا ذلك هي غير مختصة
طبقا ً لقواعد الاختصاص، ما يعني أن المخالفات لا تتقرر إلا في حدود الأنشطة التي
تنظمها جهة الإدارة ، أي أن هذا النوع من الجرائم سيصبح من قبيل الجرائم الماسة
فقط بنشاط الإدارة، فالقانون لا يجرم بدرجة مخالفة، وهذا من شأنه التوسع في مجال
التجريم بدرجة جنحة أو جناية مادامت السلطة التشريعية لا تملك التجريم بدرجة
مخالفة ، اللهم إلا إذا قلنا باختصاصها استناداً لقاعدة من يملك الأكثر يملك الأقل
، وهو فهم نراه مخالفا ً لصريح النص في القانون الفرنسي ، لتبدو الصياغة الحالية
في القانون الليبي هي أكثر الصيغ توفيقا من وجهة نظرنا، في رسم معالم مبدأ الشرعية،
مع التأكيد على الحاجة للنص عليها ضمن وثيقة يمكن وصفها بالدستور.
المراجع
_ طارق محمد الجملي، 2009/08/13،
صلاحية التشريع اللائحي كمصدر للتجريم والعقاب " ملامح مبدأ الشرعية في
القانون الليبي "، منتديات ستار تايمز.
_ أحمد عيسى، 2021/12/21، مصادر قانون
العقوبات " التجريم والإباحة " في القانون الليبي، مجلة دراسات قانونية.