الملامح المستقبلية للنظام العالمي الجديد
فرع القاهرة

 

عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في التسعينيات وتحوُّل النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، لكن منذ نحو 15 عاماً تغَيَّر العالم مرة أخرى وأصبح الأمر أكثر تعقيداً إذ أصبحت واشنطن أقل اهتماماً بأن تكون مسؤولة عن الأمن في العالم أو حتى المشجعة للقيم العالمية أما البلدان الأخرى التي أصبحت أكثر قوةً، فقد كانت قادرةً على تجاهل القواعد الدولية وهو ما أفرز واقعاً جيوسياسيّاً جديداً في العالم وفي ضوء هذا نشر موقع "فورين بوليسي" مقالاً للكاتب "إيان بريمر" مؤسس ورئيس مجموعة أوراسيا، بعنوان "القوة العظمى العالمية التالية ليست مَن تعتقد" وذلك بتاريخ 17 يونيو 2023 وهو المقال الذي حاول رسم الملامح المستقبلية للنظام العالمي الجديد.

- قضايا محورية تسببت في الركود الجيوسياسي

يشير المقال إلى حدوث ثلاث قضايا تسببت في هذا الركود الجيوسياسي حيث لم يعد الهيكل العالمي يتماشى مع ميزان القوى الأساسي وهي ما يأتي:

1 - تشكيك روسيا في النظام الدولي الحالي: أصبحت روسيا الآن، بصفتها قوة عظمى سابقة في حالة تدهور خطير تشعر بالاستياء الشديد وتعتبر الغرب خصمها الأساسي على المسرح العالمي وسواء كان اللوم في ذلك يقع على عاتق الولايات المتحدة وحلفائها أو على روسيا فإن المقال يرى أنه كان لذلك دور رئيسي في الوضع الحالي للنظام الدولي.

2 - نخراط صيني قوي في الاقتصاد العالمي: وذلك على افتراض أنه كلما أصبح الصينيون أكثر تكاملاً وثراءً وقوةً سيصبحون أيضاً أكثر "أمركةً" ويعني ذلك بحسب المقال أن ديمقراطية السوق الحرة على استعداد لأن تصبح صاحب مصلحة مسؤولاً في النظام الذي تقوده الولايات المتحدة واللعب وفقاً للقواعد دون رغبة في تغييرها لكن الصينيين والأمريكيين لا يزالون كما اتضح غير مستعدين لقبول ذلك.

3 - تجاهل الغرب الارتدادات السلبية للعولمة: يجادل المقال بأن الولايات المتحدة وحلفاءها تجاهلوا عشرات الملايين من مواطنيهم الذين شعروا بأنهم تخلفوا عن الركب بسبب العولمة، وقد ازدادت مظالمهم بسبب تزايد الدخل وعدم المساواة في الأجور وتحول التركيبة السكانية وسياسات الهوية والاستقطاب من تقنيات الإعلام الجديدة وبعد عقود من الإهمال، أصبح معظم هؤلاء المواطنين غير واثقين بحكوماتهم والديمقراطية نفسها ما جعل قادتهم أقل قدرةً أو رغبةً في القيادة

 

 

 

 

- نظرية تحول النظام العالمي الحالي

1 - حرمان بريطانيا من العضوية الدائمة في مجلس الأمن خاصة أن العديد من المستعمرات السابقة تطالبها جديا بالتعويض عن استغلال ونهب هذه البلدان وكحل وسط، يمكن لبريطانيا أن تحتفظ بمقعد في مجلس الأمن ولكن من دون حق النقض. في حين يمكن لفرنسا تمثيل الاتحاد الأوروبي بأكمله

2 - نقل مقر الأمم المتحدة من نيويورك إلى إحدى المدن الآسيوية مثل إسطنبول أو كوالالمبور، أو الأفريقية مثل القاهرة أو نيروبي.

3 - تغيير تركيبة أهم المنظمات الاقتصادية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فضلا عن الاتحادات العالمية الأخرى لصالح دول الجنوب العالمي

4 - إلغاء الديون على الـ25 دولة الأفقر في العالم: نظرا لعبودية الديون التي يفرضها الغرب على أفقر بلدان الجنوب العالمي، ينبغي البدء في اتخاذ قرارات لإلغاء ديون الدول الـ25 الأقل نموا علاوة على ذلك، يمكن لأعضاء مجموعة البريكس التوصل إلى مبادرة لتخفيف عبء الديون بشكل كبير عن البلدان النامية الأكثر ضعفا وبدء العمل على تشكيل نظام دفع جديد دون تأخير.

5 - خطة واضحة لإنشاء دولة فلسطينية: وضع خطة واضحة لتنفيذ مقررات الأمم المتحدة بشأن إنشاء دولة فلسطينية ومن المهم التركيز بشكل خاص على الإطار الزمني لتنفيذ هذا المشروع والضمانات الدولية المقابلة له كما ينبغي أن يكون أعضاء مجموعة البريكس وخاصة دول الشرقين الأدنى والأوسط الجهات الفاعلة الرئيسية.

6 - إنشاء هيئة جديدة تابعة لمجلس الأمن الدولي مهمتها وضع خطط طويلة المدى للتعاون العالمي الواسع النطاق، في المقام الأول في مجال الثقافة والعلاقات الإنسانية، لإيجاد حلول للمشاكل العالمية على غرار معالجة الذكاء الاصطناعي والتلوث البيئي وتغير المناخ والحد من احتياطيات المياه العذبة فضلا عن الأراضي المناسبة للزراعة والعديد من الموارد الطبيعية الأخرى.

- رؤى عالم جديد متغير   

يعتقد المقال أن فترات الركود الجيوسياسي لا تدوم إلى الأبد؛ إذ إن النظام العالمي القادم شيء مختلف تماماً عن الأنظمة السابقة، وهو عبارة عن أنظمة عالمية متعددة، منفصلة لكنها متداخلة وذلك للأسباب التالية:

1 - تفكك النظام الدولي إلى أنظمة عالمية متعددة: يشير المقال إلى أننا لم نعد نعيش في عالم أحادي القطب أو ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب وذلك لأنه لم يعد لدينا قوى عظمى متعددة الأبعاد أي تمارس قوة عالمية في كل المجالات وعدم وجود قوى عظمى يعني عدم وجود نظام عالمي واحد لذلك يعتقد المقال أن النظام الحالي عبارة عن أنظمة عالمية متعددة منفصلة ومتداخلة.

2 - وجود نظام دولي أمني أحادي القطبية: يشير المقال إلى أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي يمكنها إرسال جنود وبحارة وعتاد عسكري إلى كل ركن من أركان العالم ويعتقد المقال أن دور واشنطن في النظام الأمني اليوم أكثر أهميةً بل أكثر هيمنةً مما كان عليه قبل عقد من الزمان فيما تعمل الصين على تنمية قدراتها العسكرية بسرعة في آسيا، ولكن ليس في أي مكان آخر بالأهمية نفسها. وهذا يثير قلق حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الهندوباسيفيك، الذين يعتمدون الآن على المظلة الأمنية الأمريكية أكثر من ذي قبل وبالمثل، فإن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا جعل أوروبا أكثر اعتماداً على الناتو بقيادة واشنطن.

3 - اتسام النظام الاقتصادي الدولي بالتعددية: من جانب آخر، ضَعُف الجيش الروسي بفعل خسارة نحو 200 ألف جندي والكثير من عتاده المهم في أوكرانيا، وسيكون من الصعب إعادة بنائه في مواجهة العقوبات الغربية. وفي حين تمتلك موسكو وبكين ودول أخرى أسلحة نووية، لكن استخدامها في الواقع لا يزال بمنزلة "انتحار" بحسب وصف المقال.

4 - اعتماد أمريكي صيني متبادل في المجال الاقتصادي: على الرغم من كل الحديث عن حرب باردة جديدة فإن كلّاً من الولايات المتحدة والصين تعتمد على الأخرى اقتصاديّاً بدرجة كبيرة بحيث يتعذر فصل إحداهما عن الأخرى وتستمر التجارة الثنائية بين البلدين في تحقيق ارتفاعات جديدة، وتريد الدول الأخرى الوصول إلى كل من القوة الأمريكية والسوق الصينية المتنامية (التي ستصبح قريباً الأكبر في العالم)

5 - هيمنة شركات التكنولوجيا على النظام الرقمي: يشير المقال إلى أنه بين النظامين الأمني والاقتصادي هناك نظام ثالث ناشئ بسرعة يُتوقع أن يكون له قريباً تأثير أكبر من النظامين الآخرَين، وهو النظام الرقمي وعلى عكس أي نظام جيوسياسي آخر في الماضي والحاضر

شركات التكنولوجيا ومساهمتها المرتقبة

في إطار ما سبق، يطرح المقال تساؤلاً مهماً: كيف ستستخدم شركات التكنولوجيا قوتها المكتشفة حديثاً؟ وفي ضوء ذلك، يقدم المقال ثلاثة سيناريوهات محتملة؛ وذلك على النحو التالي:

1 - قيام حرب تكنولوجية باردة بين القوى الكبرى: إذا استمر القادة السياسيون الأمريكيون والصينيون في تأكيد أنفسهم بقوة أكبر من أي وقت مضى في الفضاء الرقمي، وإذا اصطفت شركات التكنولوجيا مع حكوماتهم المحلية، يتوقع المقال أن ينتهي الأمر بحرب تكنولوجية باردة بين الولايات المتحدة والصين. وسينقسم العالم الرقمي إلى قسمين، وستضطر البلدان الأخرى إلى اختيار أحد الجانبين، وستتفتت العولمة؛ حيث تصبح هذه التقنيات الاستراتيجية المنفصلة هي المسيطر على الأمن القومي والاقتصاد العالمي.

2 - احتمالية ظهور نظام رقمي معولم: إذا التزمت شركات التكنولوجيا باستراتيجيات النمو العالمية، ورفضت التوافق مع الحكومات والحفاظ على الفجوة القائمة بين مجالات المنافسة المادية والرقمية، يتوقع المقال نشأة "عولمة جديدة"؛ أي نشأة نظام رقمي معولم؛ إذ ستبقى شركات التكنولوجيا ذات سيادة في الفضاء الرقمي، وتتنافس إلى حد كبير بعضها مع بعض للحصول على الفوائد، ومع الحكومات على القوة الجيوسياسية، إلى حد كبير بالطريقة التي تتنافس بها الجهات الحكومية الرئيسية حاليّاً على التأثير في الفضاء الذي تتداخل فيه الأنظمة الاقتصادية والأمنية.

 

 

3 - هيمنة النظام الرقمي على الجغرافيا السياسية: يشير المقال إلى أنه إذا أصبح الفضاء الرقمي نفسه هو الحلبة الأكثر أهميةً لمنافسة القوى العظمى مع استمرار قوة الحكومات في التآكل بالنسبة إلى قوة شركات التكنولوجيا فإن النظام الرقمي نفسه سيصبح النظام العالمي المهيمن وإذا حدث ذلك، فسيكون لدينا عالم تهيمن عليه شركات التكنولوجيا باعتبارها لاعبين أساسيين في الجغرافيا السياسية للقرن الحادي والعشرين.

 

وختاماً، يشير المقال إلى أن كل هذه السيناريوهات الثلاثة منطقية تماماً، وقابلة للحدوث، وسيعتمد الأمر الذي سننتهي إليه على كيفية قيام الطبيعة المتفجرة للذكاء الاصطناعي بإحداث تغييرات في هياكل السلطة الحالية، وإذا ما كانت الحكومات قادرة وراغبة في تنظيم شركات التكنولوجيا، والأهم من ذلك، كيف يقرر قادة التكنولوجيا أنهم يريدون استخدام قوتهم المكتشفة حديثاً.

 

 

المصدر: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

الكاتب : صباح عبدالصبور

التاريخ : 19/6/2023

----------------------------------

المصدر: موقع الجزيرة نت

التاريخ : 1/2/2024

المقالات الأخيرة