إنّ
مفهوم التنمية السياسية من المفاهيم الصعب الإجماع على ضبطها أو تحديد تعريف محدد
لها، وذلك لعدة اعتبارات؛ من أبرزها: أولاً حداثة مفهوم التنمية السياسية النسبي؛
إذ ظهر علميًّا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية على إثر توجه الاهتمامات العلمية
لدراسة وتقنين قضية تشكل المجتمعات الناشئة حديثًا في دول ما، أطلق عليها اصطلاحا
العالم الثالث، وثانيًا هو أن هذا المفهوم في الحقيقة مركب من مصطلحين أو مفهومين
اثنين.. وفي ضوء ذلك تبرز صعوبة محاولات تعريف مفهوم التنمية السياسية.
وتعد
التنمية السياسية مفهوم شديد الغموض لأكثر من سبب، أولا لأنه كثيرًا ما يقع الخلط
بينه وبين مفاهيم أخرى قريبة منه، وربما رآها البعض مرادفة له مثل التحديث
السياسي، والانفتاح السياسي، والإصلاح السياسي، والانتقال السياسي، والديموقراطية.
ثانيا لأنه يضم مفاهيم فرعية غامضة بدورها،
مفاهيم سياسية وإيديولوجية وأخلاقية وفلسفية غير قابلة للقياس الدقيق والملاحظة
العلمية، مثل العدل والمساواة والقدرة وغيرها.
ثالثا، غموض المفهوم أكثر من غيره، حيث تعدد
التعاريف التي وضعت للتنمية السياسية واختلافها، وجزئيتها أحيانًا وعموميتها
وتجريدها في أحيان أخرى.
ويشير
مفهوم التنمية السياسية إلى: إقامة الأبنية التي تسمح بالمشاركة الشعبية في
العملية السياسية وخلق جهاز إداري قادر على التنفيذ الفاعل للسياسات الإنمائية،
وتلبية مطالب المواطنين وبناء الديمقراطية بما تتضمنه من إنشاء المؤسسات السياسية،
وخلق ثقافة سياسية تؤكد على الولاء القومي وتفتح الآفاق إلى التعددية الحزبية.
فالتنمية
السياسية عملية تغيير اجتماعي متعدد الجوانب، تهدف إلى إيجاد نظم تعددية تحقق
النمو الاقتصادي والمنافسة السياسية والمشاركة الانتخابية على قاعدة ترسيخ مفاهيم
الوطنية والسيادة والولاء للدولة، وذلك ضمن معايير؛ أولها تحديد هوية المجتمع بحيث
يكون مجتمعًا سياسيًّا متماسكًا تحكمه هوية مشتركة وانتماء لنظام سياسي وثقافة
سياسية تستوعب كل الأطياف في إطار وطني، وثانيها تحقيق الشرعية بحيث يكون المجتمع
منسجمًا مع النظام السياسي ويحقق له هذا النظام العدالة في توزيع الأدوار
والمكاسب، وثالثها المشاركة السياسية بحيث يحقق النظام السياسي المشاركة من خلال
القنوات المناسبة وأن تكون المشاركة في الحياة السياسية مستمرة وفعالة وحرة ويشعر
المواطن أنه جزءٌ أساسي في البناء السياسي للبلد، ورابعها التوزيع العادل للمزايا
والمكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كمحصلة لعملية المشاركة.
كما
أن مفهوم التنمية السياسية يقاس بالعديد من المظاهر والمؤشرات بدءًا ببناء مؤسسات
الدولة الحديثة ونظام الفصل بين السلطات والمشاركة في مختلف مستويات التنظيم
الاجتماعي والسياسي، حيث "المشاركة في صنع القرار" والذي يعد أهم
المؤشرات للتنمية السياسية، كذلك خلق جهاز قادر على تنفيذ السياسات الإنمائية
وممارسة الحق في التصويت والترشيح للمناصب العامة وسيادة القانون وحرية الأحزاب
وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، فالمطلوب ونحن مجتمع ديمقراطي أن نتمثل التنمية
السياسية فهمًا وممارسة، فالمجتمعات التي تعيش مظاهر التنمية السياسية هي مجتمعات
ديمقراطية.
هذا
وقد عرف التنمية السياسية “جيمس كولمان“: بأنها (ذات منظور ثلاثي): (المنظور
التاريخي: التنمية عملية تاريخية يمكن التوصل إلى مراحلها بتتبع تاريخ المجتمعات
الأوروبية)، ( المنظور النمطي: في ضوء الثنائيات: التقليد مقابل الحداثة، الصناعة
مقابل الزراعة)، (المنظور التطوري: عملية دائمة بدون نهاية، ويمثل المجتمع
الأوروبي قمة تطورها).
أما
"صمويل هنتنجتون" فقد ربط التنمية السياسية بمحاولة المجتمع الرامية إلى
تحقيق شكل من أشكال الوحدة السياسية، ورأى أن مفهوم التنمية السياسية يختلف عن
باقية المفاهيم الأخرى مثل التحديث والتصنيع، ويسوق هنا الهند مثالًا على ذلك؛ فهي
من جهة مجتمع تقليدي من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ومن جهة أخرى تعد بلدًا
متطورًا من الناحية السياسية باعتبارها أكبر بلد ديمقراطي في العالم. فيرى أن
التنمية السياسية تتحقق عند توافر ثلاث عوامل، هي: ترشيد السلطة بمعنى التداول على
أساس القانون والدستور، التمايز والتخصص بمعنى تنوع الوظائف وإيجاد أبنية متخصصة،
المشاركة السياسية من جانب المواطنين.
وقدم
"جيمس كولمان" ثلاثة منظورات لتحديد معنى التنمية السياسية، يتعلق أولها
بالمنظور التاريخي والذي يرى أن عملية التنمية عملية تاريخية يمكن التوصل إلى
مراحلها وخطواتها عن طريق تتبع تاريخ المجتمع الأوروبي، ويتعلق ثانيها بالمنظور
النمطي والذي ينظر إلى التنمية في ضوء الثنائيات – تقليدي، حديث -، زراعة – صناعة،
.... أما المنظور الثالث فيتعلق بسيرورة التطور حيث إن التنمية عبارة عن عملية
دائمة دون نهاية والمجتمع الأوروبي يمثل قمة تطورها.
ولقد
تناول "ابن خلدون" الشروط الضرورية الممكنة لبداية عملية التنمية، فرأى
أن من أهم تلك الشروط وجود حكومة عادلة ذات سيادة، وقوانين مرعية تمنع الظلم وتحفظ
للمواطنين حقوقهم وتفسح المجال لآمالهم، كما تحدث ابن خلدون أيضًا عن وسائل تحقيق
تلك التنمية، حيث يؤكد أن الزراعة والتجارة والصناعة تمثل أوجه المعاش الطبيعية
وأن المجتمعات تزاول الزراعة أولًا، فإذا تقدمت نسبيًّا أضيفت إليها التجارة، فإذا
ارتقى عمرانها جمعت إليها النشاط الصناعي الذي يتطور بشكل تدريجي بمرور
الزمن. كما رأى ابن خلدون كذلك أن
للدولة دور كبير في تحقيق عملية التنمية والتقدم، يتمثل في إزالة العقبات أمام
نشاط الأفراد وتمهيد السبيل لهم لتحقيق العمران.
الاتجاهات النظرية لدراسة التنمية السياسية:
أولاً:
الاتجاه الكميّ: ويمثل الدراسات والأبحاث التي تأثرت بالموجة السلوكية في اعتمادها
على الطرق الكمية، وحاول هذا الاتجاه ربط التغير السياسي والرغبة في تحقيق
الاستقرار والتطور في الأداء السياسي بالنمو الاقتصادي وما ينتج عنه من تغيرات
اجتماعية وسياسية، ولقد بحثت وعالجت تلك الدراسات النظرية مسألة التنمية السياسية
باعتبارها محصلة لمجموعة تطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية.
ثانياً:
الاتجاه الكيفي: في هذا الاتجاه تدرس الأنظمة السياسية من منطلق التحولات النوعية
التي تحدث فيها، وانطلاقًا من الدراسات الأنثروبولوجية فإن هناك علاقة بين مصدر
المعرفة والحكم حسب رأي الفيلسوف ميشيل فوكو أي أن أنظمة الحكم تأثرت بتطور الوعي
الإنساني والمعارف العلمية، ففي عصر الخرافة والاعتقاد بأن الآلهة مصدر المعرفة
كان الحكم ثيوقراطيًا، وحينما صار الأبطال هم مصدر المعرفة تحول الحكم إلى
أرستقراطيًا، وعندما بات الإنسان مصدرًا للمعرفة سادت النظم الجمهورية.
مقاربات التنمية السياسية:
لقد
قدَّم الباحث السياسي روبرت باكنغهام . تصنيفًا يتضمّن خمس مقاربات لدراسات التنمية
السياسية، وهذه المقاربات هي:
-
المقاربة القانونية: ترى أن التنمية السياسية تتمثّل في الدستور، الذي يوضح ملامح
الحماية المتساوية في ظلّ "القانون، الانتخابات والفصل بين السلطات .
-
المقاربة الإدارية: تنظر إلى التنمية السياسية على أنّها القدرة الإدارية على حفظ
القانون وأداء وظائف المخرجات الحكومية بطريقة رشيدة وفاعلة.
-
المقاربة الاقتصادية: ترى أنّ التنمية السياسية تتمثّل في مستوى التنمية
الاقتصادية الكافي لخدمة الحاجات المادية والمعنوية والمعرفية للشعب.
-
مقاربة النظام الاجتماعي: ترى أنّ التنمية السياسية هي تسهيل المشاركة الشعبية في
الحياة السياسية، وتخطّي الانشقاقات "الإقليمية، اللّغوية، القبلية والطائفية.
-
مقاربة الثقافة السياسية: ترى أنّ التنمية السياسية تتمثّل في مجموعة من الخصائص
الشخصية، التي تمكّن الأفراد من قبول الامتيازات، وتحمّل المسؤوليات النابعة من
العملية السياسية الديمقراطية.
آليات التنمية السياسية:
آلية
الإصلاح والتنمية الإدارية المؤسسية: حيث تقع عملية بناء المؤسسات الإدارية في قلب
اهتمامات الباحثين بمجال دراسة التنمية السياسية، بل تشكل حجر الزاوية فيها، كما
تشكل الثقافة السياسية المناخ السيكولوجي
إذا صح التعبير- المحيط بتلك المؤسسات والأبنية، فالتنمية السياسية تفترض
إضفاء طابع الفاعلية على المؤسسات وعلى الفاعلين وأطراف العملية الإدارية، وذلك من
خلال تقديم الاقتراحات والحلول لإشكالية إهدار الوقت والموارد خلال دورة العمل،
باعتبار أن الإدارة العامة الفاعلة تستطيع أن تساهم في تحقيق النمو ومحاربة الفقر،
كما أنها تساعد في تحديد التوجيهات الجديدة والمفيدة، وتقديم الموارد والخدمات
الأساسية بأقل التكاليف.. وهو ما يعرف بآلية الحكم الرشيد الذي يعد مجرد تقنية
إدارية لتسيير عملية التنمية.
الأحزاب
السياسية: يرى "موريس دوفرجيه" أنه من الضروري والهام معرفة طريقة ظهور
الأحزاب السياسية بدايةً، سواء كان من خلال تأثير عوامل خارجية أو داخلية، ففي
حالة ما إذا كانت العوامل الداخلية هي التي ساهمت في ظهور الأحزاب فإن هذه الأخيرة
ستكون أكثر تناغمًا من الناحية الأيديولوجية وستعمل على حفظ وتطوير المصالح
الاقتصادية والاجتماعية العليا في التنظيم القائم، بينما في حالة ظهورها الأحزاب
تحت تأثير عوامل خارجية فهي بذلك ستنشأ خارج الجهاز التشريعي وتحمل
أيديولوجيات مغايرة لمجتمعاتها، وبالتالي ستحدث صراعات مع القيادة الحاكمة في
دولها.
القيادة
أو النخبة السياسية: ترتبط النخبة السياسية بمهام ووظائف تمتاز بها عن باقي النخب
في المجتمعات، فتقوم بأعباء التخطيط وقيادة السلوك الإنساني على مستوى البلاد، ومن
طبيعة مهامها تشكيل وتوجيه الرأي العام داخل المجتمع، والذي يرتكز على إدراك هذه
النخبة للأهداف والمشكلات التي تخص الدولة ومجتمعها، كما تقوم أيضًا بمهمة التنسيق
والموائمة بين أنشطة المؤسسات والهياكل التنظيمية المختلفة داخل وخارج الدولة،
وذلك بغرض الوصول إلى أفضل وصفة مشتركة منسقة للعمل في إطار المجتمع ومواجهة
مشكلاته وأزماته المختلفة.
كما
تقوم النخبة في سبيل تحقيق أهدافها بمحاولة التأثير على جماهير المجتمع لتغيير
الواقع الاجتماعي العام بما يحقق مصالحها، كما أنها تقوم بمهمة حفظ التوازن داخل
المجتمع عن طريق اندماجها وتجديد ذاتها بما يكفل تجسيد المرتكز الأساسي للتغيير،
وهي بذلك تقود عملية التغير والتطور الطبيعي داخل النسق الاجتماعي، وفي هذا
استجابة عملية مسبقة إذا صح التعبير لمبتغى ومطمح الجماهير في المجتمع ولأجل
استقرار هياكل ومؤسسات الدولة، ألا وهي دفع عملية تحقيق التنمية الشاملة.
أهداف التنمية السياسية:
1-
التعددية من أجل تحقيق النمو الاقتصادي والمنافسة السياسية والمشاركة الانتخابية
على قاعدة ترسيخ مفاهيم الوطنية والسيادة والولاء للوطن والدولة، ضمن معايير أولها
تحديد هوية المجتمع بحيث يكون مجتمعًا سياسيًّا متماسكًا تحكمه هوية مشتركة
وانتماء وطني سياسي وثقافة سياسية تستوعب كل الاطراف داخل الوطن .
2-
تحقيق الشرعية بحيث يكون المجتمع متآلفا ومنسجما مع النظام في بناء الدولة العصرية
التي تعزز الولاء للوطن وتقديم أقصى ما يمكن من الخدمات لشعبها، على أن يحقق هذا
النظام العدالة في توزيع الأدوار والمكاسب بين كل شركاء الوطن بلا محاباة ومحسوبية
وتفضيل طرف على آخر.
3-
المشاركة السياسية الفاعلة بحيث يعمل النظام السياسي على تحقيق المشاركة لكل أطياف
المجتمع من خلال القنوات المناسبة، وأن تكون المشاركة في الحياة السياسية بصورة
مستمرة غير متقطعة، على أن تكون هذه المشاركة مجدية؛ يشعر فيها المواطن بمواطنته
كونه جزءًا أساسيًّا فاعلًا في مجتمعه وفي البناء السياسي لبلده.
4-
التوزيع العادل للمزايا والمكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتساوي في
لحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع كمحصلة نهائية لعملية المشاركة الواسعة.
5-
ويؤكد أساتذة العلوم السياسية على أن الهدف من التنمية السياسية هو المساواة في
الحقوق والواجبات، على أساس أن يتعرف المواطن على حقوقه وواجباته الدستورية كي
يشارك مشاركة فعالة وإيجابية في الحياة السياسية.
كما
أن للتنمية السياسية عدة دلالات منها مدلول قانوني سياسي يتمثل بسيادة القواعد
القانونية، ومدلول اقتصادي سياسي يتمثل بتحقيق العدالة بإشباع الحاجات المادية
للمواطنين، ومدلول إداري سياسي يتمثل بالقدرة على أداء الأدوار والوظائف في شتى
الميادين، واجتماعي سياسي يتمثل في وجود مجتمع سياسي وثقافة سياسية معينة.
بالنهاية
إن تحقيق التنمية السياسية يتضمن تقديم الحلول والآليات المناسبة للتحديات
والصعوبات السياسية والاقتصادية وغيرها التي تعيق انخراط البلدان في عملية تنموية
حقيقية، كذلك إن تقييم مسار التنمية السياسية التي هي جزء من أجزاء الفعل التنموي العام ومن ثم التنمية الإنسانية الشاملة بحاجة إلى
صياغة علمية وإعادة النظر في المفاهيم والأطر النظرية التي تتناول واقع التنمية
والتحولات السياسية للوصول إلى تشخيص دقيق وصحيح للواقع، وتحديد أسباب الإخفاق
والنجاح في التنمية الإنسانية، ودور
التنمية السياسية في تطويرها، لتصبح على سُلم الأولويات في صياغة برامج تنموية
وترتيبات مؤسسية تراعي الجانب الإنساني، وترقية حقوق الإنسان العربي وفتح المجال
أمامه في المشاركة السياسية بمختلف أبعادها، وهذه تمثل شروطاً ضرورية ونوعية
للنهوض من حالة الركود والتخلف، لبناء نهضة حقيقية في أي مجتمع وتنمية سياسية
وإنسانية شاملة وحقيقية.
المراجع :
ابتهال المبروك ، 17 ، 4 ، 2021 ، التنمية
السياسية ، الموسوعه السياسية .
وئام عثمان ،16.10.2021، رؤية مستقبلية لتحديث
نظرية التنمية السياسية 2050 ، موقع كلية
الاقتصاد جامعة القاهرة على الأنترنت .