مستقبل الصراع الجيوبولتيكي الأخطر بين واشنطن وبكين
فرع بنغازي

بدأت الصين بالتحول إلى قوة تجارية وعسكرية عملاقة، وتمكنت من تجاوز أزمات داخلية متفرقة، لتتحول مع الوقت إلى قوة صاعدة تتنامى قدراتها باطّراد.

إن الجغرافيا السياسية وضرورات الجيوبوليتيك الصيني تمثلان الآن أكثر من أي وقتٍ مضى نقطة بحثٍ ملحّة تسهم في تكوين فهمٍ أكثر وضوحاً لما يحدث اليوم ولما سيأتي غداً.

في خريف عام 2006، وفي بحر الصين الشرقي بين تايوان واليابان، وقعت حادثة مفاجئة ملأى بالدلالات على شكل مستقبل الصراع بين القوى الكبرى، إذ ظهرت غواصةٌ صينية قرب حاملة طائرات أميركية محاطة بعدد كبير من زوارق الحماية المدججة بالأسلحة والجنود. كانت المرة الأولى التي تظهر الصين فيها هذا المقدار من القدرة البحرية، وخصوصاً في مواجهة البحرية الأميركية الفائقة القوة والحضور عبر محيطات العالم.

الولايات المتحدة اعتبرت هذا الظهور خطراً من ناحيتين، أولاً في كونه اختراقاً صامتاً لأمن هذا المستوى من حاملات الطائرات، وثانياً بسبب دلالاته السياسية التي أظهرت جرأةً صينية غير مسبوقة على المخاطرة بصدام مباشر مع بحريتها.

لكنَّ الحدث كان يشير إلى ما هو أبعد من القدرة والجرأة المستجدتين حينها. الصين تتجه إلى إنشاء قوة بحرية كبرى للمرة الأولى في تاريخها. الآن، يبدو هذا المعطى واقعياً ومعلناً. الصين أعلنت نيتها بناء قوتها البحرية المتطورة هذه، وأعلنت أيضاً جهودها في إطار التحول إلى قوةٍ عالمية، وهي لم تقم في السابق ببناء هذه القوة العسكرية على مدى 4 آلاف سنة من تاريخها.

وبينما يحدث ذلك الآن، لتنتقل الصين من قوة برية إلى قوةٍ بحرية كبرى، تلتهب الأحداث العالمية في إطار صراعٍ جديد تمثل فيه مع روسيا أخطر القوى على الهيمنة العالمية للإمبراطورية الأميركية؛ صراع جارف يشمل ميادين النشاط العالمي كلها، وتتصادم فيه الثقافات، وتلتحم فيه الجيوش، وينهمك في الصناعيون والتجار ومحركو رؤوس المال، وتضج فيه أفكار المخططين الإستراتيجيين والرؤيويين؛ أولئك الذين يصلون بأفكارهم ماضي بلادهم وهواجس الأسلاف بتطلعاتهم المستقبلية.

خصائص جيوبوليتيك فريدة

في الشمال، هناك 2906 أميال من الحدود مع منغوليا تتداخل معها صحراء "غوبي"، التي كان المقاتلون الشرسون يهاجمون عبرها جنوباً، لكن الجيوش الحديثة لا تستطيع ذلك، وعليها أن تحشد لأسابيع من أجل تجاوزها. إنها حاجز طبيعي معوق للجيوش بصورةٍ كبيرة، ومستهلك للوقت، وخافض للفاعلية، ويتيح للعدو كل فرص التعامل معه.

 يقال إن هذه الصحراء تمثّل نظام إنذارٍ مبكر ومهم جداً للمدافعين. لذلك، فإن أي تقدم صيني باتجاه الشمال لن يكون عبر الجيش، إنما عبر الاتفاقات التجارية، وعبر الغزو الديموغرافي للـ"هان" باتجاه الداخل المنغولي.

باتجاه الشرق، هناك الحدود الصينية مع روسيا التي تمتد حتى المحيط الهادئ، وفوقها تقع جبال الشرق الروسي التي تشهد كثافة سكانية شديدة الانخفاض. تحتها تقع منشوريا الصينية، التي أصبح تعداد سكانها 100 مليون يتزايدون باستمرار، فيما يتناقص عدد السكان الروس في جوارها، ليبلغوا نحو 7 ملايين. من وجهة نظر عسكرية، يمكن عبور هذه المنطقة من خط الساحل الروسي قرب ميناء فلاديفاستوك، لكن لا مؤشرات أو دوافع ظاهرة على حدوث هذا الاحتمال.

إلى الجنوب من هذه المنطقة، وعلى امتداد الساحل، هناك الشرق الصيني، وصولاً إلى بحر الصين الجنوبي الذي يقود إلى المحيطين الهادئ والهندي، حيث تقع العديد من الموانئ التي تستخدم للتجارة، لكن على طول هذه السواحل، هناك أرخبيل من الجزر العديدة، وبعضها يحمل معه المشكلات، وصولاً إلى الحدود البرية مجدداً؛ فيتنام ولاوس وبورما.

تمثل فيتنام إغراءً للصين. ولسوء حظ الطرفين، فإن الحدود المشتركة هي المنطقة الأكثر ملاءمةً للدخول العسكري من دون مشكلاتٍ كبرى، وهذا ما يفسر السيطرة التاريخية للصين على فيتنام. إنها الجغرافيا التي رسمت شكل العلاقة. من وجهة نظر الصين، فيتنام لا تمثل تهديداً كبيراً الآن.

الحدود مع لاوس تملؤها الغابات الكثيفة، وهي صعبة على التجار، وأكثر تعقيداً بالنسبة إلى العسكر. وبالاقتراب من حدود بورما، الأدغال تصبح جبالاً صعوداً باتجاه الهملايا. هذا ما يزيد أهمية التيبيت بالنسبة إلى الصين. الهملايا تسير مع الحدود الهندية-الصينية قبل أن تنخفض عند وصول الحدود إلى باكستان وأفغانستان وطاجيكستان. بالنسبة إلى نيودلهي، هذه الحدود هي "سور الهند العظيم".

وبالحديث عن الهند والصين، تعتبر الأخيرة أن محافظة أروناشال برادش الهندية صينية، فيما تقول الهند إن الصين تحتل آكساي تشين، لكن الطرفين لا يبدوان راغبين في تصعيد الموقف، ويفضلان الاهتمام بشؤونٍ أخرى. وعلى الرغم من تجدد اندلاع مواجهات متفرقة عند هذه الحدود، بدءاً من عام 1962، فإنهما يظهران قدرةً دائمة على ضبط الموقف واستعادة الهدوء.

لم تشهد التجارة بين القوتين الجارتين نشاطاً كبيراً في العقود الماضية. إنها فقط مسألة حدود بين التيبيت والهند، إذ أرادت الصين أن تكون حاضرةً على الدوام. يحكم هذه المنطقة "جيوبوليتيك الخوف"، فإن لم تسيطر الصين على التيبيت، سيكون محتملاً على الدوام أن تفعل الهند ذلك. هذا الأمر سيعطي الأخيرة قدرة على الإشراف من تلالٍ حاكمة على هضبة التيبيت، وقاعدة تؤهلها للانطلاق نحو منطقة القلب الصينية، إضافة إلى السيطرة على المنابع التيبيتية لثلاثة من أكبر أنهار الصين: الأصفر ويانغتسي وميكونغ. لهذا بالضبط، تعرف التيبيت بأنها "برج الصين المائي"، مع العلم أن الصين لديها تقريباً حاجة مائية مماثلة للولايات المتحدة الأميركية، لكن مع كثافة سكانية تفوقها بخمسة أضعاف.

عندما يتحدث الغربيون عن التيبيت، يرى الصينيون ذلك مزعجاً في العمق. صحيح أنه غير خطر وغير فاعل، لكنه مزعج. في الحصيلة، سوف تبقي الصين التيبيت تحت سيطرتها، حيث الديموغرافيا والجيوبوليتيك يناقضان احتمالات استقلالها. الصينيون يصنعون أمراً واقعاً على قمة العالم، وهم حملوا الحضارة إلى مملكة التيبيت القديمة، لكن معها أيضاً، جاء الـ"هان"، الأمر الذي يصعّب نجاح أي حركة انفصالية قد تتطور هناك وتستغل من الخارج.

الأمر عينه بالنسبة إلى منشوريا ومنغوليا الداخلية وشينجيانغ، حيث يعيش الـ"هان" بكثافة مع القوميات الأخرى، في حين تبقي الصين أعينها مفتوحةً على الاتجاهات المشابهة لحركة "التيبيت الحرة" التي يمكن أن تنشط في بيئة الصراع مع الولايات المتحدة، وتتلقى تحفيزات من الخارج، وهو النسق الذي درج استخدامه في أكثر من صراع خاضته واشنطن.

أما على الحدود مع باكستان وقرغيزستان، حيث الحدود جبلية، وقبل الوصول إلى كازاخستان، وصعودا مجدداً نحو منغوليا، فهي تمثل ما كان يعرف بطريق الحرير القديم أو خط التجارة الذي يربط المملكة المتوسطة بالعالم. نظرياً، يمكن اعتبارها نقطة ضعف للدفاع الصيني. إنها فجوةٌ بين الصحراء والجبال، لكنها بعيدة عن منطقة القلب الصينية، فالكازاخ ليسوا في موقف تهديد الصين، وروسيا بعيدة جداً.

في شينجيانغ، تعيش الأغلبية المسلمة من شعب الإيغور الذي يتكلم لغةً متصلة بالتركية. المقاطعة محاذية لثماني دول هي: روسيا، وكازاخستان، ومونغوليا، وأفغانستان، وطاجيكستان، وقرغيزستان، والهند، وباكستان، وهي تشهد مشكلات مستمرة وممتدة من الماضي، إذ أعلن الإيغور استقلالهم مرتين تحت مسمى "شرق تركستان" في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، ثم عادت الأحداث لتلتهب عام 2009، إذ استجابت الصين بثلاث طرق: قمعت المعارضة بلا رحمة، وضخت الأموال في المقاطعة، واستمرت بإرسال العمال من قومية الـ"هان".

بالنسبة إلى الصين، شينجيانغ مهمة جداً إستراتيجياً إلى درجةٍ لا يمكن لبكين معها السماح بحركة انفصالية، ليس لكونها تقع على حدود 8 دول، وتهدد منطقة القلب فحسب، بل لاحتوائها أيضاً على النفط، ونظراً إلى أهميتها بالنسبة إلى التجارب النووية الصينية، وهي منطقة مفتاحية بالنسبة إلى خطة الصين "حزام واحد، طريق واحد"، إذ تمر منها خطوط نقل البضائع لتنطلق عبر طريق الحرير القديم لتلقي بالحزام البحري في ميناء غوادار في باكستان، التي وقعت مع الصين عقد تأجير الميناء عام 2015 لمدة 40 سنة.

تستضيف ألمانيا "المجلس العالمي للإيغور" و"منظمة تحرير شرق تركستان"، وهما يلقيان اهتماماً إعلامياً وسياسياً متنوعاً من الخارج، وغالباً ما تحاول القوى الدول صاحبة المصلحة استغلالهم، في حين لم يتمكَّن تنظيم "القاعدة" من اختراق هذه القضية بمقدارٍ مؤثر.

في المحصلة، تبدو قضية الإيغور في شينجيانغ صعبة التحقق، إذ تتمكَّن الصين من ضبط تفاعلاتها بالوسائل التي أشرنا إليها، وهي لن تتسامح بشأن الإضرار بوحدتها الترابية. الطريق إذاً إلى الاستقلال مغلقة، تماماً كما في التيبيت.

وبالنسبة إلى بكين، فإن النمو الاقتصادي والوحدة هما أولويتان لا تقترب من أهميتهما الدعوات إلى اعتماد معايير حقوق الإنسان الغربية. ففي الذاكرة الصينية، لا تزال محاولات غزو الصين طازجة، ولم يمر على آخرها قرن من الزمن بعد. هناك فروق ثقافية بائنة بينها وبين العالم الغربي.

إن ما ينظر إليه الغرب على أنه من حقوق الإنسان، ترى فيه الصين وسائل لنشر الفوضى، في حين أنها تولي شؤون الجماعة الأهمية الأولى مقارنةً بحقوق الأفراد التي يلحظ اتساعها وضيقها بحسب الموضوع والمناسبة في الأدبيات الغربية، وحتى في القوانين والسياسيات، والأمثلة على ذلك كثيرة (الحجاب ورفض المثلية...).

إلى جانب كل ذلك، لا يزال إطعام هذا العدد الهائل من الصينيين يمثل مشكلةً دائمة بالنسبة إلى الدولة، خصوصاً مع توسع التلوث في الأنهار والأراضي الصالحة للزراعة، في حين لا تزال معادلة التجارة الصينية مع العالم محكومةً بقاعدة: "نحن ننتج البضائع بكلفة زهيدة، وأنتم تشترونها بأسعارٍ زهيدة"، الأمر الذي يشير إلى خطورة انعكاسات الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، ليس على الصين فحسب، بل على العالم أجمع أيضاً.

الصراع الجيوبولتيكي الأخطر بين واشنطن وبكين

منذ قرون، احتل الصراع على النفوذ في بحر الصين الجنوبي أهمية متزايدة، ليس بسبب مصالح الدول المشتركة فيه بوصفه معبرًا لنحو ثلث الشحن البحري في العالم فحسب؛ وإنما كذلك للتنافس الدولي المتنامي الذي عززه صعود الصين بصفتها قوة اقتصادية قادرة على منافسة القوى الكبرى، غير أن النزاع على السيادة في بحر الصين الجنوبي تصاعد على نحو متسارع خلال السنوات الأخيرة، وعلى نحو ينطوي على تهديد خطير، بين الصين وجيرانها. وفي وقت تدافع فيه الصين عن سيادتها التي تشمل أجزاء واسعة من بحر الصين الجنوبي، وتنشئ الجزر الصناعية فيه لإثبات سيطرتها، إلى جانب تسيير الدوريات البحرية في مياهه، تشعل الولايات المتحدة الخلاف في المنطقة، فرغم ادعائها أنها لا تنحاز إلى طرف ضد آخر في النزاعات الإقليمية، أرسلت سفنًا حربية وطائرات عسكرية إلى المناطق القريبة من الجزء المتنازع عليه، حيث يتبادل فيه الجانبان اتهامات بشأن عسكرة بحر الصين الجنوبي.

ومن هنا، تثار المخاوف من حدوث صدام عسكري في المنطقة، قد تكون له عواقب وخيمة، ليس على الأمن الإقليمي في منطقة شرق وجنوب شرقي آسيا فقط، ولكن على الأمن العالمي وحرية التجارة العالمية، وتزداد خطورة هذا النزاع في ضوء التكاليف الضخمة التي يمكن أن تدفعها مختلف البلدان في حالة تحول هذا النزاع إلى صراع مسلح، بعد تحول بحر الصين الجنوبي إلى ساحة للتنافس بين الولايات المتحدة والصين، ما يدفع هذه الدراسة إلى التساؤل عن مستقبل النزاع في منطقة بحر الصين الجنوبي في ظل الإستراتيجيات التي تتبعها القوى المتنافسة في المنطقة.

الأهمية الإستراتيجية لمنطقة بحر الصين الجنوبي

يقع بحر الصين الجنوبي غرب المحيط الهادي، حيث يغطي مساحة تناهز 3.5 مليون كيلومتر مربع، إذ يحده من الشمال شواطئ جنوب الصين، ومن الغرب شبه جزيرة الهند الصينية، ومن الشرق جزر تايوان وشمال غرب الفلبين، ومن الجنوب جزيرة بورنيو، التي تتقاسمها كل من ماليزيا وإندونيسيا وبروناي، وشرق جزيرة سومطرة وجزر بانغا بيليتونغ الإندونيسية، حيث يحتوي بحر الصين الجنوبي على عدة مجموعات، أو أرخبيل جزر صغيرة غير مأهولة بالسكان في الغالب، وشعاب مرجانية، وجبال تحت البحر، يبلغ عددها مئات الجبال، ومن بين أهم تلك الجزر ما يلي:

جزر سبراتلي: يفوق عددها 100 جزيرة، تتوزع على 11 إقليمًا، على مساحة تصل إلى ألف كيلومتر مربع، وقد أدى النزاع بين الصين وفيتنام عليها إلى مواجهة عسكرية منذ 19 يناير/ 1974، وأصبحت تلك الجزر بعدها تحت السيطرة الكاملة للصين.

جزر باراسيل: بعد انتصار الصين على فيتنام عام 1974، أصبحت مجموعة جزر باراسيل تحت السيطرة الصينية، وهي تتوسط الساحل الجنوبي لجزيرة هاينان وساحل فيتنام الأوسط، وتتكون من 10 جزر وجروف صخرية، وتشغل مساحة 200كيلومتر مربع.

-       جزر براتاس: تقع على بعد 300كيلومتر جنوب شرق هونغ كونغ، و548 كيلومترًا جنوب تايوان، و500كيلومتر شمال غرب ليزون- أكبر جزر الفلبين- وقد بقيت تحت السيطرة التايوانية مدة طويلة.

-       قطاع ماكلسفيلد: يقع على بعد نحو 300 كيلومتر جنوب شرق أرخبيل باراسيل، ويبلغ طوله 140 كيلومترًا، وعرضه 60 كيلومترًا، وهو جرف رملي يتكون من مجموعة جزر صغيرة منخفضة، ويقع تحت إدارة منطقة سانشيلد الصينية، ولكن تايوان تطالب به أيضًا.

تكمن أهمية تلك الجزر في أنها مداخل جغرافية للبحر، وأن السيطرة عليها مدخل للتأثير في حركتي التجارة والملاحة العالميتين، والتهديد بإغلاقها يترك آثارًا سلبية جمة على الدول التي تعتمد على السفن في تجارتها؛ لذا تحاول أطراف النزاع إثبات أحقيتها في هذه الجزر بادعاءات تاريخية متضاربة، وتدعي الصين أنها أول من اكتشف هذه الجزر، ويشتد النزاع على جزر سبراتلي وبراسيل- بشكل خاص- بسبب أهميتها، وبنسبة أقل على جزر براتاس، وقطاع ماكلسفيلد.

فضلًا عن هذا، تتمثل أهمية بحر الصين الجنوبي الاقتصادية والبيئية والجيو- إستراتيجية، في كونه معبرًا لنحو ثلث الشحن البحري في العالم، بقيمة تبلغ نحو 3.37 تريليون دولار أمريكي سنويًّا، وتعتمد عليه الصين في وارداتها من الطاقة بنسبة تصل إلى 80%، حيث يمثل39.5 % من إجمالي التجارة الصينية. وتاريخيًّا، شكل بحر جنوب الصين الصلة المباشرة بين الصين وجنوب شرق آسيا والهند وأوروبا، كما تقدر احتياطيات النفط والغاز الطبيعي في هذا البحر بين 23 و30 مليار طن من النفط، و190 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى أنه غني بالثروات المعدنية والسمكية التي تعد ضرورية للأمن الغذائي للملايين في منطقة جنوب شرق آسيا، وزاد أهمية البحر الإستراتيجية خطوط الكابلات الحيوية الممتدة عبر البحر لخدمات الاتصالات الدولية؛ مما جعله محط تنافس القوى الإقليمية والدولية.

سياق التوتر بشأن بحر الصين الجنوبي

تطل على بحر الصين الجنوبي 6 دول تتنازع فيما بينها من أجل السيادة على أجزاء منه، حيث تتنازع منذ عدة قرون الصين وفيتنام والفلبين وتايوان وماليزيا وبروناي على السيادة هناك، فبينما تطالب الفلبين وماليزيا وفيتنام وسلطنة بروناي بالسيادة على مناطق متداخلة من هذا البحر، تصر الصين على أنها صاحبة حق تاريخي فيه وفقًا لسجلات تاريخية تستند إلى أن الصينيين القدماء هم الذين اكتشفوا بحر الصين الجنوبي في القرن الثاني قبل الميلاد، وهو ما تعدّه بكين الدليل التاريخي للسيادة على جُزر بحر الصين الجنوبي، والمياه المحيطة بها.

وتعود جذور النزاع في العصر الحديث إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أعلنت الصين السيادة على كامل جزر بحر الصين، تبع ذلك إرسال الصين، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1946، سفنًا حربية لإحكام سيطرتها على الجزر، وقد أسس لهذا النزاع ما عرف بخط القطاعات التسعة الذي أعلنته حكومة الصين آنذاك، بموجب خريطة نُشرت في الأول من ديسمبر (كانون الأول) 1947، حددت حدود سيادة الصين في بحر الصين الجنوبي.

وبناءً على هذا، عززت بكين موقفها بالسيادة على أجزاء واسعة من هذا البحر، عن طريق تشييد الجزر الصناعية فيه، وتسيير الدوريات البحرية في مياهه، وقد انتهجت الصين سياسة بناء الجزر الصناعية منذ عام 2013، لا سيما في منطقة جزر سبراتلي وباراسيل، وقوبلت هذه الإجراءات بإدانة دولية واسعة، وإجراءات عملية، مثل قيام الولايات المتحدة ودول أخرى، مثل فرنسا، والمملكة المتحدة، بما سُمي بعمليات حرية الملاحة في المنطقة منذ عام 2015، حيث يتمثل خطر  تلك الجزر الصناعية التي تقيمها الصين في منحها مياهًا إقليمية خالصة، ومناطق اقتصادية خاصة تحتكر التنقيب فيها على المصادر الطبيعية، ويضاف إلى ذلك الأهمية العسكرية البالغة بإقامة قواعد عسكرية متقدمة، يمكنها مضاهاة حاملات الطائرات الغربية.

 ورغم ادعاء الولايات المتحدة عدم الانحياز إلى طرف ضد آخر في النزاعات الإقليمية، فإن سفن واشنطن الحربية وطائراتها العسكرية تجوب المنطقة بوصفها مياهًا دولية، بما فيها المناطق القريبة من الجزر المتنازع عليها، ضمن أنشطة عمليات حرية الملاحة التي تهدف إلى إبقاء طرق الملاحة البحرية والجوية مفتوحة للجميع وفقًا للرؤية الأمريكية، وقد أدى هذا إلى تبادل الاتهامات بين بكين وواشنطن بعسكرة بحر الصين الجنوبي؛ ما يستدعي المخاوف من اتجاه المنطقة- تدريجيًّا- إلى نقطة صراع، عواقبها قد تكون وخيمة على النطاق العالمي.

وتصاعد التوتر في يوليو 2016، حين قضت هيئة التحكيم الدائمة في لاهاي بعدم أحقية الصين في امتلاك الجزء الأكبر من مياه بحر الصين الجنوبي الإستراتيجية، وأيد قرار هيئة التحكيم موقف الفلبين في القضية بشكل كامل، وأعلنت المحكمة في بيانها أنه لا يوجد أساس قانوني لمطالبة الصين بحقوق تاريخية على الموارد في المناطق البحرية داخل خط القطاعات التسعة الذي تستند بكين إليه في مطالبها، وهو وارد في خرائط تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، وشملت نزاعات بحر الصين الجنوبي بعد قرار المحكمة الصراع على الجزر، والشعاب المرجانية، والضفاف، وغيرها من المناطق، ومنها جزر سبراتلي وباراسيل، ومنطقة سكاربورو الضحلة، وحدود مختلفة في خليج تونكين، وثمة نزاعات أخرى تضم المياه الإقليمية بالقرب من جزر ناتونا الإندونيسية، التي لا يعدّها كثيرون جزءًا من بحر الصين الجنوبي، حيث ينصب اهتمام الدول المتنازعة على حقوق استغلال مخزون الصيد والوصول إليه، واستكشاف النفط الخام والغاز الطبيعي في قاع البحر في أجزاء مختلفة، وإمكانية استغلالها، والتحكم الإستراتيجي في ممرات الشحن البحري المهمة.

غير أن الصراع اتخذ منحى أكثر خطورة في أغسطس الماضي، حيث شهد احتجاجات دبلوماسية من أطراف النزاع، خاصة الفلبين وماليزيا وفيتنام وتايوان، بشأن إعلان الصين خريطة خط القطاعات العشرة التي توسع مزاعمها بالسيادة على نحو 90% من بحر الصين الجنوبي. في هذا السياق، أكدت الفلبين أنها ترفض تلك الخريطة بسبب تضمنها خطًا حول مناطق متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، سبق أن خضعت لحكم محكمة دولية في 2016 لصالح مانيلا، وكذلك فعلت ماليزيا أيضًا، رافضةً أي محاولة صينية للاستيلاء على أراضيها، واستمرت المناورات البحرية في بحر الصين الجنوبي بين القوى المتنافسة، وكان آخرها اتهام خفر السواحل الفلبينيين يوم الأحد الماضي سفنًا صينية بالقيام بمناورات خطيرة خلال دورية استمرت تسعة أيام بالقرب من منطقة شعاب مرجانية قبالة سواحل الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا، وهو ما نفته القوات الصينية، مدعية أن السفينة الفلبينية توغلت توغلًا غير قانوني في المياه عدة مرات، ونشرت العاصمة الفلبينية مانيلا سفينة “بي إر بي تيريسا ماغبانوا” في وقت سابق من هذا الشهر للقيام بدوريات في المياه المحيطة بمنطقة سكاربورو شول في بحر الصين الجنوبي.

دور الآسيان في إدارة النزاع

تتبنى رابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان“ مبدأ أساسيًا يقوم على حل النزاعات الإقليمية بالوسائل السلمية؛ ولهذا يعد الحفاظ على السلام والأمن الإقليميين أحد الأهداف الرئيسة لرابطة دول جنوب شرق آسيا؛ لأنها تعد نموذجًا لتجارب الاندماج الإقليمي والعمل المشترك بين الدول الأعضاء، لكنها تواجه كثيرًا من التحديات السياسية والاقتصادية في تسوية النزاعات السياسية، من خلال البحث عن آليات مشتركة لدعم التعاون الاقتصادي، مع التحفظ على الخلافات مع الدول الأخرى، والسعي إلى تدعيم آليات ونتائج التعاون الإقليمي القائمة لتجنب سيطرة القوى المهيمنة في المنطقة لاعتبارات جيوبوليتيكية متعددة.

فمنذ عام 1992، لم ينحز الإعلان الأول لرابطة دول جنوب شرق آسيا بشأن بحر الصين الجنوبي إلى أي جانب، وبدلًا من ذلك، أكد عدم استخدام القوة، وحث جميع الأطراف، سواء كانت هذه الدول أعضاء في الآسيان أو لا، على ممارسة ضبط النفس، ودعا جميع المطالبين إلى اعتماد هذا الإعلان، والالتزام بمبادئ معاهدة الصداقة بوصفها أساسًا لوضع مدونة لقواعد السلوك، ووقّع على إعلان لائحة سلوك الأطراف في بحر الصين الجنوبي جميع وزراء خارجية الآسيان، ومبعوث الصين الخاص، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2002، وفي عام 2004اتفقت الآسيان والصين على خطة عمل ومبادئ توجيهية للتنفيذ في عام 2011.

وقد توصلت مجموعة آسيان في 2012إلى ما يعرف بإعلان لائحة السلوك في بحر الصين الجنوبي، التي تنص على أن تتحول إلى اتفاقية في غضون 10 سنوات، ولكن المدة انقضت ولم تصدّق عليها دول المجموعة، في حين تعد الصين تلك اللائحة أساسًا لضبط الملاحة في البحر محل النزاع، إضافة إلى النقاط التسع التي اعتمدتها الصين وعدّتها حدودًا جغرافية، رغم رفض أطراف النزاع تلك النقاط، غير أن تصريحات الولايات المتحدة المتعاقبة تفيد بعدم موافقتها على إعلان السلوك، أو النقاط التسع.

وفي سياق التوترات المتزايدة في نزاع بحر الصين الجنوبي، عقدت الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا أول مناورة بحرية بينهما في التاريخ في أكتوبر 2018، بهدف تخفيف التوترات مع أعضاء الآسيان، في ضوء الآليات المتعددة التي تتبعها الآسيان لتجنب تصعيد المواجهة المفتوحة في البحر، وتوسعت تلك المناورات وشملت- منذ عام 2019- الولايات المتحدة، التي أجرت تدريبات بحرية مشتركة مع دول الآسيان، مثل تايلاند، وماليزيا، وإندونيسيا، على نطاق عريض، وفي الوقت نفسه زادت الولايات المتحدة باستمرار مبيعاتها من الأسلحة إلى دول الآسيان، حيث باعت طائرات استطلاع بدون طيار، ومركبات مدرعة بعجلات إلى ماليزيا، وإندونيسيا، والفلبين، وفيتنام، وتايلاند. واستكمالًا لهذا، بدأت وحدات من آسيان في سبتمبر الماضي أول تدريبات عسكرية مشتركة لها في بحر ناتونا الجنوبي بإندونيسيا، وسط تزايد التوترات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، واحتجاجات ضد أنشطة الصين في بحر الصين الجنوبي، وهدفت تلك التدريبات إلى تطوير المهارات العسكرية، لا سيما الأمن، والدوريات البحرية، وتوزيع المساعدات الغذائية، وجهود الإغاثة.

ومن هذا، تكشف سنوات الصراع في بحر الصين الجنوبي أن موقف الرابطة السلبي من النزاعات أدى إلى إضعاف صورتها على المستوى الدولي، وإثارة تساؤلات عن مصداقيتها بوصفها منظمة إقليمية فعالة، ويعود جزء من ضعف الآسيان في حل النزاع بشأن بحر الصين الجنوبي إلى أن الدول العشر المنضوية تحت مظلتها إما أنها ترتبط بعلاقات مصالح مباشرة مع القوى الكبرى، لا سيما الصين والولايات المتحدة، وإما أنها تسعى إلى موازنة علاقتها مع تلك القوى؛ ما يحول دون اتخاذ موقف مشترك موحد للمنظمة إزاء أي قضية في بحر الصين الجنوبي. يضاف إلى ذلك، أن عددًا من دول الآسيان لا تشرف على بحر الصين الجنوبي، وبذلك لا تشعر أنها معنية بالصراع فيه بشكل مباشر.

النفوذ الصيني في مقابل التدخل الأمريكي

ليس لواشنطن أي مطالبة بالسيادة في بحر جنوب الصين، لكنها انتقدت- بشدة- ما سمته عدوانية الصين، وأصرت على أن حرية الملاحة للسفن التجارية فيه أمر حيوي للتجارة الإقليمية والدولية؛ لذا تسيّر الولايات المتحدة دوريات عسكرية مشتركة مع الفلبين، واليابان، وأستراليا، وإندونيسيا، كما زادت الدعم المالي لتعزيز القدرات العسكرية لدول آسيان ودول شرق آسيا، فضلًا عن تعزيز التعاون الدفاعي الثنائي مع هذه الدول، بهدف استمرار هيمنة أمريكا على المحيطين الهندي والهادي، من خلال إستراتيجيتين متناقضتين؛ الأولى: تشكيل أحلاف من دول المنطقة لمواجهة الصين عسكريًّا، والثانية: السبيل الدبلوماسي، وإقامة سلام آسيوي مع بكين.

في مقابل هذا، تسعى الصين إلى تعزيز وجودها وسيطرتها على أراضيها ومياهها في منطقة بحر الصين الجنوبي؛ دفاعًا عن سيادتها ووحدة أراضيها وفقًا لدلائل تاريخية وجغرافية. وفي ضوء هذا، طرحت الصين مبادرات كثيرة للتعاون مع الدول المطلة على البحر في مشروعات الطاقة، والأسماك، والبنية التحتية؛

في محاولة لمواجهة النفوذ الأمريكي والغربي، وكبح جماح تغلغل الولايات المتحدة في المنطقة، وذلك من خلال تحركات بكين المكثفة في المنطقة.

ومن الناحية العسكرية، اجتهدت الصين لإنشاء منطقة حماية بحرية في بحر الصين الجنوبي، وحولت بكين الشعاب المرجانية هناك إلى جزر صناعية، ثم إلى قواعد عسكرية، وهي موضع خلاف كبير مع اليابان، كما عملت بكين على إنشاء منطقة دفاع بحري موحدة تمتد من البحر الأصفر إلى بحر الصين الشرقي والجنوبي؛ حتى تتمكن الغواصات النووية الصينية من تحقيق إمكاناتها في الهجوم المضاد، والسماح بتقدم حاملات الطائرات، خاصةً بعد إعلان البحرية الأمريكية إجراءها تدريبات في بحر الصين الجنوبي بعد أزمة المنطاد الصيني، ما أدخل تلك المنطقة في دوامة الرد والرد المضاد بالمناورات بين واشنطن وبكين.

لكن الدلالات التي يشهدها العالم حاليًا ترجح صعوبة استعداء الصين في منطقتها، أو التورط في صراع معها؛ إذ سيبقى النفوذ الصيني أقوى من نظيره الأمريكي في المنطقة، ويعزز تلك الفرضية أن الصين تمتلك الشرعية التاريخية والمرجعية القانونية لتحركاتها في المنطقة، حيث طوّرت بكين قوتها البحرية في السنوات الماضية؛ مما جعلها تتفوق على القوى الإقليمية والدولية الأخرى عسكريًّا، إذ تعد الصين أول قوة بحرية في العالم من حيث عدد السفن. فضلًا عن هذا، تتمتع الصين بإمكانات اقتصادية ومالية تمكنها من خوض الحرب مع أي قوة تزعم سيادتها على منطقة بحر الصين الجنوبي.

إستراتيجيات القوى المتنافسة في بحر الصين الجنوبي

يشير نمط العسكرة المتزايدة للتفاعلات في بحر الصين الجنوبي إلى صراع محموم على النفوذ تحفزه نزاعات إقليمية على السيادة بين الدول المشاطئة، التي تتباين أوزانها النسبية وكتلتها الحرجة أمام الصين، ويمكن استعراض إستراتيجيات الولايات المتحدة والصين في التعامل مع النزاع في بحر الصين الجنوبي على النحو التالي:

1-  التعاون اللوجستي

يعمل الجيش الأمريكي على توسيع التعاون مع الجيشين الياباني والأسترالي في مجالات لوجستية مختلفة، مثل استخدام سفن نقل صغيرة لإيصال الأسلحة والأفراد والإمدادات الأخرى إلى القوات المنتشرة في المنطقة، ويهدف التعاون إلى تحسين قدرة هذه الدول على التصدي للتهديدات التي تشكلها دول أخرى، مثل الصين، التي تسعى إلى توسيع نفوذها في المنطقة من خلال مبادرة الحزام والطريق، وبناء جزر صناعية في بحر الصين الجنوبي.

وبدأ التعاون اللوجستي بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا منذ بداية القرن الحادي والعشرين، حيث شاركت هذه الدول في عدة مناورات عسكرية مشتركة، مثل “مالابار”، و”كيل”، و”تالسمان سابر”؛ لزيادة التوافقية بين قوات تلك الدول، كما أبرمت هذه الدول اتفاقات ثنائية أو ثلاثية لتبادل المعلومات والخبرات والتكنولوجيا في مجالات دفاعية مختلفة، مثل الملاحة، والمراقبة، والاستطلاع، والصواريخ.

2- القواعد العسكرية

في ظل التوترات المتزايدة في بحر الصين الجنوبي، يسعى الجيش الأمريكي إلى تعزيز تعاونه الدفاعي مع حليفه التاريخي في المنطقة (الفلبين)، حيث يجري الجانبان محادثات لزيادة عدد القواعد التي يمكن للقوات الأمريكية الوصول إليها في الفلبين بموجب اتفاقية التعاون الدفاعي بين البلدين، إذ وقعت الفلبين والولايات المتحدة اتفاقية في عام 2014، تسمح للولايات المتحدة بنشر قواتها ومعداتها وطائراتها في تسع قواعد فلبينية مختارة، بهدف تحسين قدرات التدريب والاستجابة للكوارث والأمن الإقليمي. وفي فبراير من العام الماضي، أعلنت الفلبين إضافة أربع قواعد جديدة إلى قائمة المواقع المتاحة للولايات المتحدة، منها ثلاث قواعد تطل على تايوان، وقاعدة جوية قرب جزر سبراتلي المتنازع عليها؛ ونتيجة لذلك اتهمت الصين الولايات المتحدة بإشعال الصراع في منطقة بحر الصين الجنوبي عندما زادت الفلبين عدد القواعد التي يمكن للجيش الأمريكي استخدامها، وأجرت حاملة طائرات صينية تدريبات قبالة ساحل الفلبين الشمالي.

3- الردع الأمريكي

أتت الإستراتيجية الأمريكية بمفهوم الردع المتكامل ضمن سياق عريض من الإجراءات الدبلوماسية، والاقتصادية، والتقنية، والعسكرية؛ في محاولة لمنع فرض نفوذ الصين العسكري في منطقة بحر الصين الجنوبي، من خلال تحريك العدائيات والنزاع بشأن السيادة الإقليمية في المنطقة الحيوية التي تفصل بين المحيطين الهندي والهادي، والتي تعد معبرًا حيويًّا للتجارة الدولية بقيمة 5 تريليونات دولار سنويًّا، وتسيير دوريات بحرية على نحو شبه يومية.

وتنخرط الولايات المتحدة عسكريًّا بغرض تأمين جبهة إقليمية واسعة مناهضة للنفوذ العسكري الصيني، تحول دون سيطرتها على تايوان في المقام الأول، كما تعمل على مزاحمتها في بحر الصين الجنوبي من خلال تنفيذ دوريات يومية تقوض خط النقاط التسع باعتباره حدًا فاصلًا لحدود الصين البحرية، وهو ما توفره خريطة الانتشار العسكري الأمريكي في شمال الفلبين وجنوبها، وتتوقف فاعلية الدور الأمريكي على إمكانية بناء تحالف أمني يضم قوى إقليمية تؤمن بإستراتيجيتها بشأن المحيطين الهندي والهادي.

4- الاحتواء المضاد

تتبع الصين إستراتيجية مزدوجة لمواجهة الضغوط الأمريكية المدعومة من قوى إقليمية تتخوف من نهج بكين وتنامي نفوذها العسكري، وفي هذا الإطار تنتهج بكين آلية لاحتواء المخاوف الإقليمية، وتحييد الثقل العسكري الأمريكي عن موازين القوى العسكري في بيئة إستراتيجية محاطة بالنزاعات، ففي حين تتمسك الصين باستعراض قوتها العسكرية بصورة منفردة، أو بالتعاون مع شركائها الإقليميين، تبرز في المقابل أداة التواصل والعمل الدبلوماسي المؤسسي لحل الخلافات مع دول الجوار على غرار الفلبين، أو تقويض أحلام الاستقلال لدى سلطات جزيرة تايوان التي تعدّها جزءًا من أراضيها وفق مبدأ الصين الواحدة الذي يقره غالبية أعضاء المجتمع الدولي، حيث تعزز بكين مطالبتها باستكمال قواعد السلوك في بحر الصين الجنوبي مع الفلبين خاصة، ودول جنوب شرق آسيا عامة؛ لوضع حد للتوترات، ومنع تصعيد الأنشطة العسكرية، بما يحقق الهدف الأهم للصين، وهو تقليص الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة.

 

 

الخاتمة

تدلل التوترات بين واشنطن وحلفائها من جهة، والصين من جهة أخرى، على الأهمية المحورية لمنطقة بحر الصين الجنوبي في التنافس الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين؛ نظرًا إلى حجم الثروات المتنازع عليها، ولكونه ممرًا رئيسًا لموارد الطاقة، وحركة التجارة البحرية العالمية، ويظهر البحر كأحد مفاصل الإستراتيجيتين الأمريكية والصينية في منطقة المحيطين لرسم معالم النظام الدولي. وخلافًا لتايوان، يوفر التنافس الأمريكي الصيني الحالي فرصة للأطراف المشاطئة، لانتزاع امتيازات من كلا الجانبين في إطار حدود انخراط كل منهما، وقدرتهما على تأمين مصالح تلك الدول؛ مما يعزز التعاون المرحلي بين بعض الدول مع واشنطن لحين الوصول إلى تسوية ملائمة مع بكين؛ لعدم رغبتهم في تحمل أعباء الوقوف أمام الصين.





المراجع

_ غدي قنديل، 14/2/2024، مستقبل الصراع الجيوبولتيكي الأخطر بين واشنطن وبكين، مركز الدراسات العربية الاوراسية.

_ محمد سيف الدين، 12/10/2023، حقائق الجيوبوليتيك الصيني، موقع الميادين.

 

المقالات الأخيرة