أسطورة الحياد الإعلامي الغربي
فرع بنغازي

يعد الحياد الإعلامي مفهومًا مركزيًا في عالم الصحافة، حيث يُشير إلى قدرة وسائل الإعلام على تقديم المعلومات بشكل غير متحيز، يعتبر الحياد ضروريًا لتعزيز الثقة بين وسائل الإعلام والجمهور، ويُساعد في تسهيل فهم مختلف وجهات النظر في أي نزاع، ولكن، في السياقات الغربية، غالبًا ما يتم نقاش فعالية هذا الحياد وتأثيره الحقيقي.

ويفترض في وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة أنها مرآة عاكسة لما يجري من أحداث ومن وجهات نظر مختلفة، وتنقل الحقائق دون تدخل او تحوير أو تعطيل، وتعني الحيادية في الإعلام “عدم تدخل الصحفيين والقائمين على وسائل الاعلام في تعديل او تحرير كل ما يتعلق بنشر الأخبار والمعلومات” 

يقول هربرت شيللر مؤلف كتاب المتلاعبون بالعقول “الحياد في الإعلام من الأوهام والأساطير اذ أن الحياد المطلق ليس أكثر من وهم لا وجود له”. والحقيقة أنه لا يوجد وسيلة إعلام محايدة حتى وأن ادعت وسائل الإعلام أو الإعلاميين ذلك فالوسيلة الإعلامية تتبع توجهات من يملكها ومن يستثمر فيها أو من يديرها. فمثلا في أمريكا التي تتمتع بحرية في الرأي والإعلام ليس مقيدا وله مطلق الحرية في مناقشة القضايا.

حيث انه ما رافق تغطية الأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية، أعاد إلى الواجهة سجلا قديما متجددا حول حيادية وسائل الإعلام في متابعة الأوضاع في مناطق الصراع، ولا سيما بعد السقوط المروع لمنابر إعلامية غربية، معروفة تاريخيا بمستوى عال من الموضوعية والحياد والدقة، في أخطاء قاتلة، جعلها في موقف المنحاز لطرف ضد آخر. فكتبت صحف عالمية، ذات تاريخ مهني مشرف، بالبند العريض عناوين كاذبة، ونشرت أخرى صورا بعيدة عن الحقيقة، دون اعتبار للحدود الدنيا من الحرفية والمصداقية والحياد.

انتقل عدد من المنابر الإعلامية العالمية في الحرب على غزة من وظيفة الإخبار إلى مهمة النضال، بعد تجاوز كثير من الصحافيين دورهم التقليدي، ممثلا في الوساطة في نقل صورة عما يحدث في العالم إلى حشد الدعم والتجييش بحثا عن تأييد فريق على حساب آخر. فتابع العالم بأسره منذ السابع من أكتوبر الجاري، تغطيات قدمت جزءا من الرواية فقط، وتحليلات تعرض زاوية نظر معينة للأحداث، وتغطية تكتفي بنصف الحقيقة لا الحقيقة كاملة.

هكذا توارت الموضوعية بمشمولاتها الواسعة من توازن ومصداقية وحياد ونزاهة، ما يعد أهم قيمة في العمل الإعلامي، لمصلحة الانحياز الذي اتخذ عدة أوجه في التغطية الإخبارية، تراوحت ما بين تقديم الرأي بمنزلة خبر، كما يكون الانحياز في اختيار المصادر أو في تجزئة السياق، فضلا عن الانحياز في استخدام لغة تعتمد تعريفات خاطئة.. سواء كان ذلك عن عمد أو جهل أو فقط جراء عدم الاهتمام، ما يفضي في نهاية المطاف إلى تقديم تغطية منحازة خدمة لوجهة نظر أو اعتبار معين وليس خدمة للحقيقة، رسالة الصحافة الأسمى.

تعد الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة يجعل وضع حدود فاصلة بين الحياد والانحياز غاية في الصعوبة، فالصحافي مهما تلمس التجرد من ذاته ونظرته الخاصة تجاه العالم، يبقى إنسانا لا يمكن تحويله إلى مرآة أو آلة فوتوغرافية تنقل الوقائع، دون أن تلحقها بعض من نوازع الذات. ألا يمكن تكييف كل الخطوات التي تسبق صناعة المادة الإخبارية، من تضخيم وتحجيم وانتقاء وحذف وإبراز وتهميش.. بكونها شكلا من أشكال الانحياز، فطائفة من الخبراء تعد ما يسمى بـ “حيادية المعلومات" مجرد جزء من الرواية الرأسمالية للصحافة.

زد على ذلك، أن الصحافي مهما تحرى الحياد في مهمة الوساطة بين مصادر الخبر والجمهور، يبقى مقيدا بالخطوط الحمراء التي تضعها المؤسسة الإعلامية التي ينتمي إليها، فهذه الهيئات والمؤسسات التي تتاجر في بيع المعلومات والأخبار، تكون ذات توجهات سياسية أو انحيازات أيديولوجية "يسارية، يمينية، محافظة، ليبرالية، قومية، علمانية..."، تنعكس بوضوح على سياستها التحريرية، ما يجعل الصحافي محكوما بالحيادية كثابت من ثوابت العمل الصحافي، وقيود الخط التحريري التي تمثل بوصلة تضبط توجه المؤسسة الإعلامية. بذلك يكون الحياد "معلومات محايدة" مجرد فكرة هلامية، فما يجرى في الواقع من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية وجيوسياسية وعلمية... يصبح مادة خبرية بعد خضوعه لتحليلات متباينة.

وأسهم ارتفاع الطلب على الأخبار إنتاجا واستهلاكا، خاصة عقب ظهور أول قناة إخبارية كاملة "سي إن إن"، في تدفق المعلومات بشكل مستمر دون توقيت محدد، ما زاد مسألة الحياد تعقيدا وغموضا. فتبلور رأي يعد أن البشرية تدخل "حقبة ما بعد الحقيقة"، حيث تراجعت الحقائق والبيانات والمعلومات لمصلحة المعتقدات والرغبات والرؤى، وتحولت وسائل الإعلام، خاصة بعد تعزيز الإعلام التقليدي لصفوفه بمستجدات الثورة الرقمية، إلى أدوات فاعلة في صراع مشتعل، يحتدم يوما بعد آخر.

تتجه الصحافة على ما يبدو، ولا سيما في الأوساط الغربية، إلى إعلان نهاية زمن الموضوعية، كما عبر عن ذلك المراسل البريطاني جون بينار، مؤكدا أنه خلال أربعة عقود من العمل مراسلا لم يجد مثل هذا الغياب البائس مثلما يحدث حاليا. صحيح أن الموضوعية المطلقة مجرد خرافة، لجهتين، إحداهما، عدم وجود صحافي بمقدوره أن يستطلع أبعاد الحقيقة كاملة. والأخرى، استحالة تحقق الشروط الموضوعية المثلى، فالأسلوب والتفضيلات والصور وباقي مرفقات السرد عناصر تؤثر في بقاء قصة ما معقمة من الأثر الشخصي الذاتي للراوي، فالبحث عن أخبار كاملة مثل تعليمات استخدام الغسالة أو المكواة الكهربائي أمر مستحيل.

مهما بدت المسألة صعبة إلا أنها ليست مستحيلة، فالصحافي عند تقديم تغطية الحدث أو تقديم الخبر ملزم بالحياد، أو على الأقل محاولة إظهاره، حتى يبدو متوارنا وموضوعيا فيما يقوم به، تماما مثل حكم القاضي الذي يتولى مهمة إصدار حكم مطابق لنص القانون ومعلل تعليلا كافيا يجعله يحظى بالمقبولية لدى الجميع. حياد المؤسسة الإعلامية لا يقل أهمية عن حياد الصحافي، ففي الصحافة الجادة فصل تام بين صفحات الأخبار وأعمدة الرأي والتعليق، وفي مبكرات المذياع وعلى شاشات التلفاز خط فاصل ما بين نشرات الأخبار حيث السرد الواضح للوقائع دون تأويل وبرامج الحوار والتحليل والجدال، حيث يتسع نطاق حضور الرأي والموقف والتفسير على المادة الخبرية، التي تصبح مجرد حاشية على متن النقاش.

أمام الانحياز المكشوف للإعلام الغربي حيال أحداث فلسطين، لدرجة تزوير الحقائق حتى تتوافق مع سردية رجال السياسة وصناع القرار في الدوائر الغربية، ما جعل الأكثر تقدم الحقيقة ومعها أدبيات العمل الصحافي قرابين وفاء لسردية الكيان الصهيوني، لا بأس من التذكير بقول الكاتب والصحافي جون بول سارتر: "لا حياد في الحقيقة" بعد نشره البيان الشهير ضد احتلال الجزائر في جريدة ليبراسيون التي كان يتولى حينها رئاسة تحريرها، بعد اتهامه بمعادة المصالح العليا لفرنسا. وقبله بالحكمة الذهبية لعميد الصحافة البريطانية سي بي سكوت، رئيس تحرير صحافية الجارديان، بمناسبة مئوية إصدار اليومية في 1921، حين خاطب الصحافيين قائلا: "من الجيد أن نكون صريحين مع القراء... فحرية الكلام متاحة للجميع، لكن الحقائق يجب أن تبقى مقدسة بالنسبة إلينا كصحافيين".

في الوقت الذي يتزايد فيه ذوي المدافع وأزيز الطائرات في قطاع غزة مع مواصلة الاحتلال الصهيوني عدوانه الوحشي وممارسته للتهجير القسري ضمن سلسلة جرائم حرب يرتكبها ضد الفلسطينيين، تدور رحى معركة أخرى تختلف فيها الأسلحة، فهي معركة إعلامية تدور حول الوعي وتشكيل الرأي العام العالمي، توظف فيها آلة الدعاية الصهيونية كل الإمكانات لتزييف الحقائق وتضليل الشعوب، وإلباس الباطل ثوب الحق.

ولطالما خرجت وسائل الإعلام الغربية والعاملون فيها في رداء النصح والإرشاد، بالحديث عن المهنية والحياد في التغطية الإعلامية، إلا أن كل تلك القيم تسقط حينما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني وجرائمها، وهو ما يظهر على مستويات عدة بدءًا من المصطلحات المستخدمة لوصف أطراف الحدث، مرورًا بطريقة المعالجة الخبرية، وصولًا إلى المساحات المخصصة لتمثيل كل طرف.

معالجة إعلامية منحازة للكيان الصهيوني

أظهرت المعالجة الإعلامية الغربية لكل من عملية “طوفان الأقصى” التي نفذها الفلسطينيون ضد الاحتلال، والعدوان الصهيوني  على غزة، انحيازا واضحًا للكيان الصهيوني لا تخطئه العين، حيث تبنّت وسائل الإعلام الغربية مجموعة من المفاهيم والتوصيفات للحدث تعكس التماهي مع الجانب الصهيوني وتبني سرديته دون أدنى تحقق أو مراعاة للتوازن في إعداد وصياغة وتقديم القصة الخبرية، فهي تقوم على الصوت الأوحد الصهيوني، بينما يغيب تمامًا الجانب الفلسطيني لا سيما من هم في دائرة الإدانة والتنديد من جانب إسرائيل وداعميها من الدول الغربية.

ولعل هذا ما يمكن تلمسه في استخدام وسائل الإعلام الغربية بعض المصطلحات لتوصيف المشهد للقارئ أو نقله للمشاهد، فبينما تنعت عملية طوفان الأقصى ومنفذيها بالإرهاب”، فإنها عند تعرضها لجرائم المستوطنين الصهاينة بحق الفلسطينيين لا توصمهم بالإرهاب”، كما أنها تصف القصف الصهيوني على المدنيين والأحياء السكنية والمستشفيات ودور العبادة بـأنه “حرب” وليس “عدوانا”. ويعني ذلك ببساطة أن المعالجة الخبرية تستهدف التلاعب بالمصطلحات بالشكل الذي يخدم الاحتلال ويشوه الفلسطينيين.

وكان من الملاحظ كذلك في تغطيات وسائل الإعلام والصحف الغربية التركيز على تقديم قصص إنسانية حول القتلى في الجانب الصهيوني، فعلى سبيل المثال قدمت صحيفة “ذي جارديان” البريطانية ملفًا مصورًا حول 26 من القتلى الصهاينة مع نشر صورة كل فرد منهم وتوصيف لما قالت إنها ملابسات مقتله. وقد تبنت هيئة الإذاعة البريطانية” بي بي سي” نمط المعالجة ذاته في تقرير مماثل.

كما قدمت خدمة البث العامة الأمريكية “بي بي إس” تقارير مصورة مع من قالت إنهم ناجون من هجوم حركة حماس على مهرجان “نوفا” الموسيقي جنوب فلسطين المحتلة، جاءت بعنوان “الناجون من هجوم حماس على مهرجان الموسيقى يصفون الفظائع وكيف نجوا منها أحياء”.

استراتيجية التجاهل والتعتيم

وعلى النقيض من ذلك، مارست وسائل الإعلام الغربية إما استراتيجية التعتيم أو التجاهل تمامًا للقصف الصهيوني الذي استهدف قافلة للنازحين الفلسطينيين جنوب غزة مساء الجمعة الماضية وأدى لاستشهاد 70 فلسطينيًا وإصابة 200آخرين أغلبهم من النساء والأطفال، فعلى سبيل المثال اكتفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية بالإشارة إلى ذلك القصف في ثنايا قصة خبرية تحت عنوان “استعدادًا للهجوم.. إسرائيل تكثف دعواتها لسكان غزة لمغادرة منطقة القتال”، فالعنوان يناقض تمامًا السلوك الإجرامي الإسرائيلي والمعالجة الخبرية تثير علامات استفهام حيث تغيب القيمة الخبرية لمجزرة كهذه عن العناوين الرئيسية للتغطية.

وفي المقابل، استخدمت القصة الخبرية ذاتها توصيفات لجذب التعاطف مع الجانب الصهيوني من قبيل الحديث عن حصيلة القتلى في هجوم 7 أكتوبر بأنه “أسوأ قتل جماعي لليهود في يوم واحد منذ المحرقة” في إشارة إلى المحرقة النازية لليهود (الهولوكوست).

تسييس التحقق من الأخبار

ومن المثير للدهشة وأيضًا أحد الشواهد التي تؤكد الانحياز التام للكيان الصهيوني  أن أيًا من وسائل الإعلام الغربية لم تكلف نفسها عناء تفعيل آليات “التحقق من الأخبار- Fact Check”، علمًا بأن المؤسسات الإعلامية الغربية أظهرت على مدى السنوات القليلة الماضية اهتمامًا كبيرًا بتلك الآليات سواء على صعيد البرامج التدريبية للعاملين بالإعلام والصحافة أو الممارسة العملية باستخدام تلك الآليات، وذلك بهدف التأكد من صحة المعلومات والأخبار، لكن مع الأسف فإن ذلك الجهد كان غائبًا تماما إزاء الرواية الصهيونية المزعومة بشأن ذبح أطفال صهاينة على يد الفلسطينيين، وتبنّت وسائل الإعلام الغربية بشكل واضح الادعاءات الصهيونية  دون تحقق في انتهاك صارخ للمعايير المهنية وغياب الاحترافية في ممارسة العمل الإعلامي، وتجلى ذلك في الحديث عن تنفيذ الفلسطينيين لعمليات إعدام على غرار تنظيم “داعش” الإرهابي تضمنت قطع رؤوس الأطفال الصهاينة حيث عرضت منصات إعلامية كبرى مثل شبكة “سي.إن.إن” الإخبارية الأمريكية تلك الرواية دون تحقق، بل إن الرئيس الأمريكي نفسه استشهد في خطاب له بتلك التقارير الإعلامية، في حين أن مصدر تلك الادعاءات مستوطن يدعى ديفيد بن تسيون، وهو زعيم المجلس الإقليمي “شومرون” الذي يضم 35 مستوطنة صهيونية  في الضفة الغربية المحتلة، وكان قد حرّض في مايو الماضي، على محو قرية حوّارة الفلسطينية بمحافظة نابلس.

والأدهى من ذلك أن “التحقق من الأخبار- Fact Check” تم استخدامه للتشكيك في المحتوى المتعلق بالفلسطينيين، وهنا على سبيل المثال قامت وكالة رويترز للأنباء بالتحقق من مقطع فيديو تم تداوله على منصات التواصل الاجتماعي مع هاشتاق (#الكيان الصهيوني _يقتل الأطفال) حيث قالت الوكالة إن هذا المقطع تم الادعاء بأنه لفلسطينيين يعثرون على طفل ناج من تحت الأنقاض بعد قصف إسرائيلي عشوائي، بينما هو لطفل تم إنقاذه من تحت الأنقاض في أعقاب الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في فبراير الماضي.

وختامًا، يمكن القول بأن العدوان الصهيوني الحالي على قطاع غزة لم يكن كاشفًا عن زيف ادعاءات الإعلام الغربي بالتحلي بالمهنية والحياد وانتهاج سياسة تحريرية مستقلة فحسب، بل شكّل فصلًا جديدًا في سجل تناقضات الغرب وازدواجية معاييره، فقاموس الإعلام الغربي مُسيس بامتياز لا سيما حين يتعامل مع الحق في مقاومة الاحتلال، فبينما تدعم الأجندات الإعلامية الغربية بوضوح الأوكرانيين في مواجهة روسيا، فإنها تُوصم الفلسطينيين بالإرهاب، وتنكر ما يرتكبه الكيان الصهيوني من عدوان وجرائم.

 

 

 

المراجع

_ محمد طيفوري، 25/10/2023، الإعلام الغربي.. الحياد بوصفه فكرة هلامية، الاقتصادية.

_ نايف الصيد، 31/12/2023، أسطورة الحياد الإعلامي الغربي، مركز القرار.

 

المقالات الأخيرة