التداعيات الإنسانية للصراعات في القرن الافريقي
فرع القاهرة

 

تعاني دول القرن الافريقي من أزمات متنوعة ومتلاحقة بشكل يفاقم تردي الأوضاع الإنسانية ويحرم عددًا كبيرًا من سكان الإقليم من أبسط سبل العيش؛ فبالإضافة إلى الأداء الاقتصادي الهزيل لدول القرن الافريقي وضعف القدرة على الوفاء باحتياجات السكان الأساسية، يعاني السكان من تداعيات التغيرات المناخية التي أثرت سلبًا في النشاط الزراعي والثروة الحيوانية في كل دول الإقليم، بالإضافة إلى تسارع وتيرة الصراعات والنزاعات المسلحة التي عمقت أزمات انعدام الأمن الغذائي، والنزوح القسري سواء داخليًا أو إلى دول الجوار، والحرمان من الخدمات الصحية والتعليمية.

واقع الأوضاع الإنسانية في الإقليم الافريقي

تشير أحدث البيانات الصادرة عن صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أن أكثر من 43 مليون شخص في ثلاث دول فقط، هي إثيوبيا وكينيا والصومال، يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، في حين توضح المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين أن استمرار حالة انعدام الأمن الغذائي في القرن الافريقي لا مفر منها في ظل استمرار موجة الجفاف المصحوبة بتصاعد وتيرة الصراعات عبر الحدود، ليتحدد بذلك واقع الأوضاع الإنسانية في القرن الافريقي كما يلي:

انعدام الأمن الغذائي: أدت أزمة الجفاف التي استمرت بين عامي 2020 و2023 إلى نفوق ما يزيد عن 13 مليون رأس ماشية وتلف المحاصيل الزراعية؛ مما فرض حالة انعدام الأمن الغذائي الحاد على أكثر من 32 مليون شخص في إثيوبيا وكينيا والصومال فقط؛ وتسببت الصراعات المسلحة سواء في إثيوبيا أو السودان أو الصومال في تحجيم قدرة الأفراد على الوصول للمواد الغذائية وقدرة المنظمات الإغاثية على إيصال المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة.

تدهور الأوضاع الصحية: ساهمت العوامل الثلاثة المتمثلة في ضعف البنية التحتية الصحية والتداعيات السلبية لتغير المناخ والصراعات المسلحة في إقليم القرن الافريقي في تدهور الأوضاع الصحية خاصةً بين النساء والأطفال؛ فتشير بيانات صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى ارتفاع معدلات سوء التغذية بين النساء الحوامل والأطفال، بالإضافة إلى حرمان أكثر من مليون امرأة من الحصول على الخدمات المتعلقة بصحة الأم، وحرمان الأطفال من خدمات الرعاية الصحية في ظل التدمير المتعمد للمراكز الصحية، ونفاد الأدوية والمواد الطبية، ونزوح العاملين في المجال الصحي من مناطق الصراع.

الحرمان من التعليم: فاقمت الصراعات المسلحة في دول القرن الافريقي من أزمة الحرمان من التعليم، حيث تعرضت البنية التحتية للتدمير أو الاستخدام من قبل أحد أطراف الصراع؛ ففي إثيوبيا على سبيل المثال، اضطر أكثر من مليوني طالب في إقليم تيجراي لترك مدارسهم في أثناء الصراع بين جبهة تحرير تيجراي والقوات الفيدرالية والأمهرية، أما في السودان، فقد تم تدمير حوالي 75% من المؤسسات التعليمية في مختلف المستويات خلال عام واحد من الحرب المستعرة بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع.

النزوح القسري واللجوء: تضاعفت أعداد النازحين في دول القرن الافريقي بشكل ملحوظ خلال الأعوام الثلاثة الماضية بسبب موجات الصراع المتلاحقة في مناطق متفرقة من الإقليم؛ مما أدى إلى مزيد من الضغط على مخيمات اللاجئين سواء داخل دولة الصراع أو في دول الجوار التي تعاني هي الأخرى فضلًا عن الضغوط المتزايدة على المؤسسات والمنظمات الإغاثية التي لم تتمكن في كثير من الأحيان من إيصال المساعدات؛ ففي السودان وحدها بلغ عدد النازحين 7.3 ملايين شخص خلال عام واحد من الحرب؛ فيما بلغ عدد النازحين داخليًا في إثيوبيا والصومال خلال العام الماضي حوالي مليوني شخص على الرغم من تراجع حدة الصراعات المسلحة.

ضغط متزايد على دول الجوار والمجتمع الدولي

لا يقتصر التأثير السلبي للصراع في إقليم القرن الافريقي على الأوضاع الإنسانية في مناطق الصراع فقط، وإنما يمتد ذلك التأثير ليشمل ثلاثة أبعاد أخرى؛ هي:

ضغوط متزايدة لتوفير التمويل اللازم للمساعدات: يوضح مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (أوتشا) إلى أن خطط الاستجابة للاحتياجات الإنسانية في القرن الافريقي تحتاج إلى تمويل كبير، في حين أن ما يتم استقباله من حجم التمويل المطلوب لا تتجاوز 15% من المستهدف، وهو ما يمثل عائقًا أمام عمل المنظمات الإغاثية لتوصيل المساعدات الإنسانية لمستحقيها، وهو ما يتضح في إثيوبيا والسودان والصومال على سبيل المثال، حيث قُدر التمويل المطلوب للمساعدات في السودان بأكثر من 2.6 مليار دولار، ولم يجرِ تمويل المساعدات سوى بنسبة 15% فقط، وفي إثيوبيا بلغ حجم التمويل 14% فقط من 3.2 مليارات دولار حجم التمويل المطلوب، ولم يختلف الأمر كثيرًا في الصومال الذي قُدر حجم التمويل المطلوب للمساعدات هناك عند مستوى 1.6 مليار دولار.

يضاف إلى ما سبق أن المنظمات الإغاثية الدولية تعاني في أثناء تقديم المساعدات بسبب العوائق البيروقراطية وعدم التزام أطراف الصراع بضمان أمن وسلامة موظفي الإغاثة؛ ففي السودان على سبيل المثال، لم تتمكن منظمات الإغاثة من تقديم المساعدة لأكثر من 1.2 مليون شخص بسبب رفض تصاريح السفر ومنع انتقال موظفيها بين الولايات المختلفة.

زيادة موجات اللجوء في دول الجوار: فضلًا عن زيادة عدد النازحين داخليًا بسبب الصراع المسلح بشكل ملحوظ في دول الإقليم، والذي قُدر عند 14.9 مليون شخص؛ فقد اضطر ما يقرب من 25% من هذا العدد للجوء لدول الجوار، حيث بلغ عدد اللاجئين لدول الجوار 4.8 ملايين لاجئ، من بيهم 1.3 مليون لاجئ من السودانيين الفارين من الصراع؛ الأمر الذي يفرض ضغوطًا على دول مثل مصر واليمن وإثيوبيا الذين يستقبلون العدد الأكبر من هؤلاء اللاجئين؛ ذلك أن تلك الدول تتحول من دول عبور إلى وجهة نهائية للاجئين في ظل تشديد إجراءات الهجرة واللجوء في الدول الأوروبية ودول الخليج.

احتمالية الاتجار بالنازحين من مناطق الصراع: في ظل الظروف الإنسانية الصعبة التي يعيشها النازحون داخليًا أو اللاجئون في دول الجوار، خاصةً تلك التي تعاني من صراعات مسلحة أو سيطرة المليشيات والجماعات دون الدول، يصبح النازحون أكثر عرضة للاستغلال من قبل المسلحين، فتتعرض النساء للاغتصاب والعنف الجنسي كما حدث في الصراع السوداني أو كما حدث في أثناء الصراع الإثيوبي في إقليم تيجراي؛ أو أن يتم تجنيد الرجال والأطفال من قبل الجماعات المسلحة من دون الدول مثل حركة الشباب في الصومال أو جماعة الحوثي في اليمن، أو مليشيا الدعم السريع في السودان، وغيرهم في مختلف دول الإقليم.

تخفيف المعاناة بمعنى تدخلات دولية أوسع

يمثل استمرار الوضع الراهن للصراعات المسلحة في القرن الافريقي السبب الأبرز لحرمان ملايين الأشخاص من حقوقهم الأساسية في الأمن والغذاء والتعليم والصحة، ومهددًا رئيسيًا لاستقرار دول الجوار التي يعاني بعضها بالفعل من الهشاشة الأمنية والاقتصادية؛ الأمر الذي يفرض تدخلًا دوليًا أوسع لإنهاء الصراعات أو تخفيف وطأتها في الوقت الراهن من خلال إعادة جميع الأطراف إلى طاولة الحوار الذي قد يفضي مستقبلًا إلى وقف النزاع المسلح وبناء السلام؛ وقد يتطلب ذلك اتخاذ حزمة من التدابير يتمثل أبرزها فيما يلي:

تفعيل دور الآليات الافريقية لتسوية الصراعات، والتي يأتي على رأسها مجلس السلم والأمن الافريقي والأجهزة الداعمة له، مثل: الجهاز القاري للإنذار المبكر، وصندوق السلام، ولجنة الحكماء.

تقديم الدعم الدولي وحشد الموارد اللازمة لتمكين القوة الافريقية الجاهزة للاضطلاع بدورها في منع نشوب الصراعات المسلحة في منطقة القرن الافريقي في ظل ضعف استجابة القوى المتصارعة هناك لجهود التهدئة.

 دفع قسم السلم والأمن التابع لمفوضية الاتحاد الافريقي للقيام بدوره في معالجة القضايا الأمنية طويلة الأمد، ودعم تنسيق كل ما يتعلق بالتنمية وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد صراعات، وتوفير ما يلزم من دعم سياسي وأمني ومالي من خلال الشركاء الدوليين.

العمل على تبني قرار أو أكثر في مجلس الأمن الدولي لإدانة الأطراف الخارجية التي تقدم دعمًا عسكريًا لأطراف الصراعات في منطقة القرن الافريقي، وفرض عقوبات عليها بما يسمح بتقليل أمد الصراعات المسلحة.

توسيع دور المنظمات الدولية والتكتلات الاقتصادية الكبرى في معالجة تداعيات ظاهرة النزوح واللجوء من مناطق الصراع سواء في داخل دولة الصراع أو في دول الجوار، واستحداث آلية لبناء قدرات الحكومات للتعامل مع النازحين واللاجئين في أثناء وبعد الصراع.

إطلاق صندوق أفريقي لدعم ضحايا الصراعات المسلحة بما يضمن الوفاء باحتياجات الأفراد في مناطق الصراع من الغذاء والدواء، وتعويض الفاقد التعليمي لأطفال المناطق المتضررة من الصراعات.

ترتيبًا على ما سبق، يتضح أن الأوضاع الإنسانية في دول القرن الافريقي تعكس الواقع الأليم الذي يعيشه ملايين الأشخاص هناك، وتؤكد على ضرورة التحرك الدولي سريعًا لتخفيف المعاناة الإنسانية في هذه المنطقة الحيوية من العالم بما يضمن عدم تمدد الصراعات أو إطالة أمدها، أو تهديد أمن واستقرار الدول المجاورة؛ وهو أمر لن يتحقق إلا بوجود إرادة سياسية دولية لتغيير الوضع الراهن، وتعزيز التعاون بين كل الأطراف المعنية لمنع نشوب صراعات مستقبلية سواء في مناطق الصراع الحالية نفسها أو مناطق أخرى من الإقليم.

 

 

 

المصدر: المركز المصري للفكر و الدرسات الاستراتيجية

الكاتب : د.محمود سلامة

التاريخ : 9/7/2024

-----------------------------------------

المصدر: صوت الأمة

13/7/2024

المقالات الأخيرة