ملامح الصدام بين الاتحاد الأوروبي وشركات التكنولوجيا
فرع بنغازي

تعيش القارة الأوروبية حالة من عدم اليقين فيما يتعلق بمستقبلها السياسي والاقتصادي، وكذلك التفوق التكنولوجي وسط تحولات كبيرة، وصعود قوى عالمية أخرى سواء في آسيا أو الولايات المتحدة. وبما أن هذه المنافسة التكنولوجية والمعلوماتية هي في نهاية المطاف سباق من أجل التقدم والثروة والنفوذ الجيوستراتيجي، فلا يمكن المبالغة في تقدير أهميتها بالنسبة لمستقبل القارة الأوروبية ومنذ عام 2018، أخذ الاتحاد الأوروبي على عاتقه مسؤولية تنظيم قطاع التكنولوجيا بصفة عامة، وعليه عمد إلى إطلاق بعض المبادرات التي تفرض بعض القيود على استخدام الذكاء الاصطناعي من ناحية، وقيوداً أخرى على شركات التكنولوجيا الكبرى لكبح القوة الاقتصادي لها في هذا المجال؛ بدايةً من إطلاق قواعد شاملة لحماية البيانات عُرِفت باسم "اللائحة العامة لحماية البيانات" في عام 2018، والاتفاق بالإجماع بشأن قانون الذكاء الاصطناعي للكتلة، الذي توصَّلت إليه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في الثاني من فبراير 2024، بعد مفاوضات دامت لشهرين، وأخيراً إدخال الاتحاد الأوروبي قانون الأسواق الرقمية (DMA) حيز النفاذ في السابع من مارس 2024، في خطوات متسقة ومتصلة توحي برغبة أوروبية في إرساء جملة من الضوابط الحاكمة لسوق التكنولوجيا.

ولعل الخطوة الأخيرة الممثلة في إطلاق قانون الأسواق الرقمية، قد تركت آثارها الفورية على المستهلكين الأوروبيين الذين شهدوا تغييرات كبيرة في التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي وصفحات الويب، بما في ذلك خيارات تغيير المتصفحات الافتراضية الخاصة بهم؛ وذلك نتيجةً لالتزام بعض شركات التكنولوجيا الكبرى بقانون الاتحاد الأوروبي عقب دخوله حيز التنفيذ، الذي فرض على الشركات الست المصنفة على أنها "حراس البوابة" تطبيق القواعد الجديدة بحلول السابع من مارس الماضي، وأتاح للمفوضية الأوروبية سلطة فرض غرامات تصل إلى 10% من إجمالي مبيعات الشركة العالمية في حالة الانتهاك.

سياسات جديدة

لقانون الأسواق الرقمية الأوروبي عدد من الأبعاد الرئيسية حفزت الصدام بين الاتحاد وشركات التكنولوجيا، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1– طرح مهلة ستة أشهر أمام الشركات للامتثال للإجراءات الأوروبية الجديدة: في 6 سبتمبر 2023، صرح الاتحاد الأوروبي بأن ستة عمالقة في مجال التكنولوجيا (ألفابت وأمازون وأبل وبايت دانس وميتا ومايكروسوفت) أمامها ستة أشهر فقط للامتثال للإجراءات الجديدة الصارمة التي تسمح بمزيد من المنافسة في قطاع التكنولوجيا، وإلا واجهت عقوبات مالية. وقد جاء ذلك الإعلان تزامناً مع تصاعد التوترات بين شركات التكنولوجيا والمفوضية الأوروبية؛ وذلك بعد شهر كامل من وقوف أمازون في المحكمة كأول شركة أمريكية تتحدى تشريعاً منفصلاً للتكنولوجيا في الاتحاد الأوروبي.

2– معضلة تصنيف شركات التكنولوجيا الكبرى بوصفها حراس البوابة: صنَّفت المفوضية الأوروبية الشركات التكنولوجية الكبرى السالف ذكرها في سبتمبر 2023، على أنها "حراس البوابة"، وهو المصطلح الذي يصف – بحسب مارجريت فيستاجر نائبة الرئيس التنفيذي المسؤول عن سياسة المنافسة – الشركات التي تتمتع بمكانة قوية وراسخة في الاقتصاد الرقمي، بما في ذلك الموجودة في أوروبا، وتحظى بامتلاك أعداد كبيرة من المستخدمين، وتقدر على تقديم خدمات رقمية مثل محركات البحث والشبكات الاجتماعية والدردشة.

3– مطالبة الشركات الكبرى بتغييرات رئيسية في أداء أعمالها: دخل قانون مكافحة الاحتكار الجديد حيز التنفيذ يوم 6 مارس 2024 في الاتحاد الأوروبي، وهو القانون الذي من شأنه أن يُحدث بعض التغييرات الرئيسية في كيفية قيام أكبر شركات التكنولوجيا بأعمالها؛ حيث يجبر كلاً من جوجل وأبل على سبيل المثال، على فتح أنظمة تشغيل الأجهزة المحمولة الخاصة بهما للتنزيلات والمدفوعات خارج متاجر التطبيقات الخاصة بهما؛ ما يعني أنه لن يكون هناك المزيد من المتصفحات الافتراضية مثل Safari على آيفون، أو محركات البحث الافتراضية مثل Bing على ويندوز.

4– اشتراط تقديم الشركات وصفاً مدققاً لأي تقنيات مستخدمة: يفرض القانون على حراس البوابة أن يقدموا إلى المفوضية وصفاً مدققاً بشكل مستقل لأي تقنيات مستخدمة لتصنيف المستهلكين، بجانب نسخة غير سرية من التقرير. ولعل ذلك ما مكَّن المنافسين من إنشاء متاجر تطبيقات بديلة، كما أضحى المستخدمون الأوروبيون يتمتعون بمزيد من القدرة على التحكم في بياناتهم؛ ما يُمكِّنهم من اتخاذ الخيارات التي يريدونها؛ وذلك على حد قول مفوض السوق الداخلية بالاتحاد الأوروبي "تييري بريتون".

5– تكليف الاتحاد الأوروبي مسؤولين لتسجيل تقارير امتثال الشركات: في إطار معركة أوروبا المستمرة مع شركات التكنولوجيا الكبرى، عينت بروكسل نحو 80 مسؤولاً من قوة الشرطة الرقمية الجديدة التابعة للمفوضية الأوروبية للتحقق من امتثال بعض أغنى شركات التكنولوجيا في العالم، للقواعد المصممة؛ من أجل ضمان إيلاء تلك الشركات بعض المساحة لمنافسيها الأصغر حجماً في السوق.

واعتباراً من السابع من مارس الماضي، تم تكليف أولئك المسؤولين بتسجيل تقارير امتثال عن الشركات التكنولوجيا الستة، وهي التقارير التي تهدف إلى إظهار كيفية ومدى استيفاء تلك الشركات للمتطلبات التي حددها قانون الأسواق الرقمية.

6– التهديد بفرض غرامات مالية على الشركات الكبرى حال انتهاك القواعد: بحسب المفوضية الأوروبية، فإن انتهاك قانون الأسواق الرقمية قد يكون أكثر تكلفةً من مخالفة اللائحة العامة لحماية البيانات؛ حيث يفرض القانون في حال انتهاك عمالقة التكنولوجيا بعض قواعد المنافسة، غرامات تقدر بنحو 10% من الإيرادات العالمية للشركة، وما يصل إلى 20% على المخالفين على نحو متكرر.

7– إلزام الشركات التكنولوجية الكبرى بضوابط جديدة للخدمات الرقمية: بموجب قانون الأسواق الرقمية الأوروبي، تم فرض جملة من القوانين ذات الصلة بكيفية تشغيل الشركات التكنولوجية الستة على الإنترنت لـ22 خدمة من خدمات المنصات الأساسية، بما في ذلك، على سبيل المثال، جوجل مابس وجوجل بلاي وأمازون ماركت بليس، وأبل ستور وفيسبوك وإنستجرام وتويتر.

تداعيات واسعة

أدى إطلاق أوروبا قانون الأسواق الرقمية إلى عدد من التداعيات، كما من المتوقع أن يسفر عن عدد من النتائج على المديين المتوسط والبعيد، ويمكن تناول هذه التداعيات الحاصلة فعلياً والمحتملة على النحو التالي:

1– تغيير عميق لكيفية عمل الأسواق عبر الإنترنت: بموجب قانون الأسواق الرقمية، أضحى لدى المستهلكين الأوروبيين خيارات أكثر بأسعار معقولة عبر الإنترنت؛ ما من شأنه أن يغير بشكل عميق طرق وآليات عمل الأسواق الرقمية، حتى تكون متاحة ومفتوحة لكافة اللاعبين في قطاع التكنولوجيا على اختلاف أحجامهم وقيمتهم السوقية، والمستخدمين الأوروبيين على حد سواء. جدير بالذكر أن القواعد تؤثر على العديد من التطبيقات؛ بدءاً من خرائط جوجل حتى خدمات المراسلة مثل واتساب، وفيسبوك وماسنجر؛ ما يعني اتساع دائرة التأثير على المدى المتوسط.

2– كبح القوة الاقتصادية لشركات التكنولوجيا الكبرى: من المتوقع مع تطبيق ذلك القانون، أن يتم كبح القوة الاقتصادية لعمالقة التكنولوجيا الستة، ومكافحة احتكارها لسوق التكنولوجيا في أوروبا، الذي كان من تبعاته وجود خيارات محدودة أمام المستهلكين، وعدم قدرة الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا على الصمود والاستمرار؛ ما قد يعيد تشكيل صناعة التكنولوجيا العالمية بعد عقود من النمو غير المقيد لعمالقة التكنولوجيا، حيث يدفع فرض القيود على الكبار في تلك الصناعة بالتبعية نحو فتح العديد من الخيارات أمام المستهلكين وخلق فرص جديدة للشركات التكنولوجية الأصغر حجماً.

3– احتمالات تجدد رفض شركات تكنولوجية لتصنيف "حارس البوابة": فور تصنيف الشركات التكنولوجية في سبتمبر 2023 باعتبارها حراس البوابة، جادلت كلٌّ من شركتَي أبل ومايكروسوفت بأن منصتي لا تتمتعان بشعبية كافية لتندرجا تحت تصنيف حارس البوابة. وقد أشارت مايكروسوفت حينها إلى أنه إذا كانت قواعد الاتحاد الأوروبي الجديدة تُفرَض على المنصات الكبيرة ذات الشعبية الواسعة، فإن محرك البحث Bing، تبلغ حصته في السوق 3% فقط.

وإن كانت الشركات قد بدأت بالفعل تمتثل للقواعد المفروضة، إلا أن احتمالات تجدد الرفض من قبل عمالقة التكنولوجيا لهذا التصنيف تظل قائمةً؛ لما يحمله من مسؤوليات عديدة على عاتقها، خاصةً إذا ارتأت الشركات أنها تخسر جانباً كبيراً من إيراداتها من جراء ذلك التصنيف.

4– قيام شركات التكنولوجيا الكبرى بإصلاح خدماتها الأساسية: في مارس 2024، عمدت أكبر شركات التكنولوجيا في العالم إلى إصلاح خدمات منصاتها الأساسية لتتوافق مع قواعد الاتحاد الأوروبي التي تُجبِرها على اللعب بشكل أكثر عدالةً مع المنافسين؛ حيث ذكرت شركة "جوجل"، أنها أجرت تغييرات كبيرة على خدماتها خلال الأشهر الماضية، وصرحت بأنها ستعمل على الدفاع عن نهجها الحالي في الأشهر المقبلة، فيما أكدت شركة "أبل" ثقتها بكون خطتها تتماشى مع القانون الأوروبي الجديد.

لكن وبالرغم منذ لك، فإن من المرجح أن تواجه تلك الشركات تحقيقات في المستقبل، وسط انتقادات بشأن فشل جهودها؛ حيث ترى هيئة إنفاذ القانون أن شركات ميتا وأمازون وجوجل قد أبطأت في الامتثال للقانون، ولجأت إلى دفع غرامات باهظة بدلاً من تغيير ممارساتها.

5– خضوع شركات تكنولوجية لتحقيقات موسعة: في 26 مارس 2024، أعلن منظمون في الاتحاد الأوروبي عن إخضاع شركات "أبل" و"ألفابت" و"جوجل" و"ميتا بلاتفورم"، جزئياً للمخالفات المتعلقة بالقانون التشاركي الرقمي؛ ما قد ينجم عنه فرض غرامات واسعة على هذه الشركات يمكن أن تصل إلى نحو 10% من إجمالي مبيعاتها الشركات عالمياً. هذا وتتحرك المفوضية – بحسب تقرير لصحيفة الشرق الأوسط – أيضاً للتحقيق في هيكل الرسوم الجديد لشركة "أبل" لمتاجر التطبيقات البديلة، وممارسات "أمازون" على سوقها.

6– تحذيرات شركة أبل من تقويض الإجراءات الأوروبية أمان أجهزتها: حذرت الشركة المصنعة لآيفون من كون التغييرات التي أجراها الاتحاد الأوروبي، من شأنها أن تقوض أمان أجهزتها من خلال السماح بتحميل برامج من المحتمل أن تكون ضارة على هواتفها، عبر متاجر التطبيقات غير التابعة لشركة Apple، غير أن المفوضية الأوروبية قد شككت في هذه الحجة، واعتبرت أن الشركات بإمكانها بالفعل الحصول على تكنولوجيا آمنة أيضاً من خلال أكثر من متجر تطبيقات واحد.

معضلات التنفيذ

يتوقف نجاح قانون الأسواق الرقمية الجديد على مدى قدرة المفوضية الأوروبية على مواجهة التحديات العالقة بشأن تنفيذه؛ فبينما تحتاج المفوضية الأوروبية إلى متخصصين في البيانات والكمبيوتر والذكاء الاصطناعي وأيضاً علماء سلوك، وأشخاص ذوي خبرة في الاقتصاد السلوكي أو خبرة في الرؤى السلوكية الأساسية، من أجل ضمان التنفيذ العادل للقانون؛ فإنه من الناحية الأخرى، يواجه القائمون على التنفيذ أنفسُهم تحدياً يتمثل في مدى امتلاكهم الموارد والالتزام الكافيَين لبدء التحقيقات وإنهائها، كما أن وجود 80 موظفاً فحسب مسؤولين عن التحقيق مع الشركات غير الراغبة في التعاون، يزيد من صعوبة إجراء التحقيقات على النحو الأمثل، خاصةً أن جيش الخبراء في شركات التكنولوجيا الكبرى يفوق عددهم في الهيئات التنظيمية، على حد قول مارجريت فيستاجر مسؤولة الشؤون الرقمية في الاتحاد الأوروبي، التي أكدت محدودية موارد الاتحاد الأوروبي في هذا الإطار.

ومن ناحية ثالثة، تتعرض المفوضية لضغوط لإظهار كون القواعد الجديدة قادرةً على إحداث فرق في مواجهة التحديات المتعلقة بهيمنة عمالقة التكنولوجيا على السوق، بما في ذلك إتاحة الفرصة للمنافسة العادلة أمام الشركات الناشئة في المجال، ومنح المواطنين الأوروبيين خيارات أكبر في عالم الإنترنت؛ ما يدفع إلى القول بأن مصداقية الاتحاد الأوروبي باعتباره جهة تنظيمية تتوقف على مدى قدرته على ترسيخ ذلك القانون، بالشكل الذي يثمر نتائج فعلية وحقيقية تخدم الهدف الرئيسي في هذا المضمار.

وأخيراً، في ظل المخاطر التي تحدق بشركات التكنولوجيا الكبرى والخسائر المالية المحتملة، من المتوقع خلال الأشهر المقبلة، أن تكون محاكم الاتحاد الأوروبي بمنزلة حجر العثرة الرئيسي أمام تنفيذ القانون؛ حيث يحتمل أن تتحدى الشركات الكبرى بالفعل قانون الأسواق الرقمية. وعلى الناحية الأخرى، قد تلجأ الشركات الصغيرة إلى رفع قضايا للمطالبة باتخاذ إجراء حازم من جانب الاتحاد الأوروبي ضد عمالقة التكنولوجيا الذين يتباطؤون في عملية التنفيذ.

 

 

المراجع:

سهير الشربيني ،3،4،2024، ملامح الصدام بين الاتحاد الأوروبي وشركات التكنولوجيا، انتررويجنال توم غيركن ،27.3.2024، ماذا يحقق الاتحاد الأوروبي مجدداً مع أبل وميتا وغوغل؟، بي بي سي عربي.

المقالات الأخيرة