قراءة في تقرير “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية” للإنفاق العسكري
فرع بنغازي

يعتبر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية من المؤسسات الرائدة في مجال تحليلات الدفاع والأمن العسكري. يهدف المعهد إلى تقديم تحليلات شاملة وواضحة حول الإنفاق العسكري في مختلف دول العالم. يعكس تقريره الأخير الأنماط والتوجهات في المصروفات العسكرية، ويقدم رؤى حول تأثير هذه الإنفاقات على الوضع الأمني العالمي.

بحلول عام 2024 أصبح واضحًا للجميع أن السلام العالمي الدافئ بعد انتهاء الحرب الباردة وحتى عام 2019 لم يعد موجودًا على الرغم من جائحة فيروس كورونا التي أظهرت تكاتف جميع الدول دون شروط أو حدود سياسية لاحتواء الأزمة، مما كان له تأثير مباشر على تناقص حجم الإنفاق العسكري في العالم، ولكن تغير ذلك بشكل جنوني بعد بداية الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير 2022، وظهور حاجة شديدة من جميع الدول لرفع الإنفاق العسكري بمعدلات كبيرة خوفًا من نشوب أي حروب، ليس فقط في المسرح الأوروبي ولكن أيضًا الآسيوي والشرق الأوسط.

شهد عام 2023 بداية عملية “طوفان الأقصى” وأزمة البحر الأحمر، حيث شكل ذلك محفزًا جديدًا لزيادة الإنفاق تخوفًا من صراعات مستقبلية، فزيادة الإنفاق للتدريب وامتلاك الأسلحة ليس بالضرورة الذهاب للعمليات العسكرية، ولكن هو عامل ردع لأي مطامع من الخصوم، وتفادي الدخول في معارك تستنفد المقدرات المالية وتنهك الاقتصادات التي بالكاد تحاول التعافي بعد جائحة كورونا. وبحسب التقرير السنوي للمعهد “الدولي للدراسات الاستراتيجية” فمن الممكن الوقوف على بعض المحطات الرئيسة في الإنفاق العسكري العالمي.

الإنفاق العسكري عالميًا

بلا شك ارتفع المعدل العالمي للإنفاق العسكري في عام 2023 بمعدل 5% عن المعدل المعتاد للإنفاق، وهو ما يزيد بمقدار 2% عن عام 2022، والسبب الرئيسي لذلك هو ازدياد معدل الإنفاق في الأمريكتين وأوروبا ووسط وجنوب والصحراء الأفريقية وآسيا وشرق أوروبا، ولكن الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم يكن من بينها ليعاني تناقصًا بمعدل 2% مقارنة مع عام 2022، وتزايد الإنفاق الكلي بمعدل 128 مليار دولار في عام 2023 بالمقارنة مع عام 2022.

الزيادة الأكبر على الإطلاق في الإنفاق العسكري كانت من نصيب الجانب الروسي، وهو تأثير مباشر للحرب الأوكرانية ليقترب من 40% بالمقارنة مع المعدل المعتاد و15%بالمقارنة مع 2022، ولتستحوذ على مقدار 18.6%من المقدار العالمي لتقترب من الولايات المتحدة التي تستحوذ على 22.2% مبتعدين عن الجانب الصيني الذي استحوذ على مقدار 10.2%فقط ويقترب منه الجانب الأوكراني ليصل إلى 8.9%.

خصصت الولايات المتحدة ميزانية غير مسبوقة لعام 2023 بمقدار 905.5%مليارات دولار لتزيد عن جميع دول العالم مجتمعة في محاولة للحفاظ على مكانتها العسكرية، وفرض الهيمنة في ظل التخوف من الخطر الصيني في المحيط الهادي من ناحية، ومع دعم الأوروبيين في مهمة ردع الدب الروسي وتثبيته داخل الحدود الأوكرانية بقدر الإمكان بواسطة دعم الجانب الأوكراني، ولكن السبب الأهم كان هو تجديد وتطوير المنظومات والوحدات القتالية القديمة، وتدعيم الصفوف بمنظومات ووحدات أحدث لتتفوق على القدرات العسكرية للخصوم، وتستطيع الوصول إلى أعلى مستويات الاندماج لتقليل الخسائر البشرية مع تحقيق الفاعلية القتالية، وتخصيص جزء كبير للأبحاث لابتكار منظومات جديدة تغير شكل المعارك مثل الذكاء الاصطناعي والأنظمة غير المأهولة.

حلت الصين في المركز الثاني بما يقرب من 219.5 مليارات دولار لمحاولة صنع التكافؤ مع الجانب الأمريكي وحلفائه الآسيويين، بالاعتماد بشكل رئيسي على سلاح البحرية لتثبيت نفوذها في منطقة المحيط الهادي، ولذا فإن التكلفة الباهظة لهذه المنظومات وارتفاع معدلات تصنيعها المراد الوصول لها في فترة قليلة كان هو الهدف الرئيسي للإدارة الصينية، وشمل ذلك البارجات والمدمرات وحاملات الطائرات وسفن الهجوم البرمائي، والغواصات النووية، وتعزيز هذا السلاح بواسطة سلاح الجو، وبالأخص الأسطول الرئيسي من القاذفات الاستراتيجية الثقيلة القادرة على إطلاق صواريخ بمدى يتجاوز آلاف الكيلومترات لمحاولة إتاحة العديد من الخيارات الهجومية للقيادات في أي سيناريو قتالي ضد تايوان.

الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

منطقة الشرق الأوسط مهيأة لتمر بفترة استقرار اقتصادي في عام 2024، مع الوصول إلى معدل نمو يصل إلى 52.3% وقد يصاحبه ازدياد في الإنفاق العسكري، وغير متوقع أن تحدث زيادة كبيرة في صفقات التسليح خلال العام نفسه.

وصلت ميزانية دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الدفاعية مجتمعة إلى 183 مليار دولار بزيادة تصل إلى 9.49%عن سنين جائحة كورونا، وقد استحوذت دول الخليج العربي على نسبة 72.22%من الميزانية الكلية بالمقارنة مع دول شمال أفريقيا التي استحوذت على 16.30%، والشام بمقدار 11.49%، وقد حافظت المملكة السعودية على مكانتها في صدارة الدول الأكثر إنفاقًا عسكريًا بما يقرب من “69.1” مليار دولار، وقد مثل زيادة طفيفة عن الإنفاق المعتاد للمملكة بمعدل 5.7% ، وبالمقارنة مع عام 2022 فقد ازداد الإنفاق العسكري السعودي آنذاك بمعدل 28% ، ولعل السبب الرئيسي لهذا التناقص هو التقارب السعودي الإيراني مع الاستراتيجية الجديدة التي تبنت تقليل العمليات العسكرية في اليمن ضد المليشيات الحوثية.

حلت إيران في المركز الثاني على مستوى الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط بمقدار 843 مليارات دولار، وهو معدل ثابت، ويرجح الخبراء أن السبب الرئيسي هو ازدياد معدلات التضخم في البلاد مع عدم الحاجة للدخول في معارك عسكرية مباشرة، وإنما اتباع سياسة الاعتماد على المليشيات المسلحة لتحقيق نجاحات جيوسياسية، والتأثير في الشرق الأوسط بشكل فعال، والجزء الأكبر من الإنفاق العسكري الإيراني كان الحصول على المنظومات القتالية المتطورة، وبالأخص الاستفادة من اتفاقيات التعاون العسكري مع الجانب الروسي لاستبدال جميع المنظومات والوحدات القتالية المتقادمة بأخرى جديدة. ولعل أبرز المستفيدين من ذلك كان سلاح الجو الإيراني من خلال الحصول على طائرات تدريب وهجومية خفيفة من طراز “يأك – 130، وتوقيع اتفاق نهائي بشأن الحصول على طائرات مقاتلة للسيطرة الجوية من طراز “سو- 35”.

بنهاية عام 2023، كانت أكثر الدول المنفقة عسكريًا في الشرق الأوسط لتزيد على 20% عن العام السابق هي العراق والجزائر، وبمعدل يساوي أو يزيد على 2% من الناتج المحلي لهما، والدول التي سجلت زيادة تتراوح ما بين   10-20%  مع زيادة عن 2% من الناتج المحلي كانت المملكة السعودية ودولة قطر وموريتانيا والكيان الصهيوني . أما الدول التي تناقص إنفاقها الدفاعي بمعدل 3% وبمعدل يساوي أو يزيد على 2% من الناتج المحلي كانت دولة الإمارات المتحدة وإيران والمغرب والأردن وتونس والبحرين والكويت.

وبحسب التقرير السنوي للمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية فقد كانت جمهورية مصر العربية الأقل إنفاقًا عسكريًا في الشرق الأوسط لعام 2023 بمعدل أقل من 20% عن العام السابق وأقل من 2% من الناتج المحلي، وهو ما يعكس الواقعية الشديدة للإدارة السياسية والعسكرية المصرية للتعامل مع المتغيرات على المستوى السياسي والاقتصادي والاستراتيجي.

ختامًا، كان يسير الإنفاق العسكري لعام 2023 وفقًا للمعدلات المتوقعة من السنة السابقة، وبالأخص مع تصعيد العمليات العسكرية في أوكرانيا، وظهور تكنولوجيات جديدة أدت إلى تغيير العديد من الخطط العسكرية؛ حيث أصبحت هناك حاجة لمواكبة المعارك المستقبلية، وبالأخص في المنظومات غير المأهولة، بجانب أيضًا العمليات العسكرية في قطاع غزة، وازدياد احتمالية نشوب معركة المحيط الهادئ؛ وكل هذه العوامل من شأنها أن تزيد الإنفاق العسكري للعام الحالي والمستقبلي، بجانب أيضًا ارتفاع التكلفة للتكنولوجيات العسكرية التي تستطيع أن تغير شكل المعارك الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي الذي من المتوقع أن يصبح مهيمنًا على الساحة العسكرية في أقرب وقت ممكن.

 

 

المراجع:

مينا عادل، 25.3.2024، قراءة في تقرير “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية” للإنفاق العسكري، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية.

إبراهيم نوار ،17.2.2024، قفزة هائلة في الإنفاق العسكري فهل ينزلق العالم مغمض العينين إلى حرب كبرى ثالثة؟ موقع القدس العربي.

 

المقالات الأخيرة