التصعيد في مضيق باب المندب تداعيات خطيرة على إمدادات الطاقة العالمية
فرع القاهرة


 

 

تُعد المضايق البحرية من أهم النقاط الحساسة في تمرير النفط والغاز المسال من مراكز الإنتاج إلى مواقع الاستهلاك وذلك من المنظور الجيوسياسي والجيوقتصادي. في حالة تعرض هذه الممرات لاختناقات أو إغلاق فإن الأسواق الطاقوية ستصاب بأزمة إمدادات تؤثر في أسعارها ومستوى مخزونات النفط والطاقة الاستراتيجية في الدول الصناعية الكبرى والتي تعتمد بصورة كبيرة على مصادر الوقود الأحفوري، بحيث تتمركز معظم مناطق إنتاج النفط بالقرب من المضايق البحرية. وعليه، يمكن القول إنها تُشكل صمامات لإمدادات الطاقة على مستوى العالم، كما أن أمن الممرات البحرية يُعد مسألة حيوية واستراتيجية بالنسبة للاحتياطي العالمي من النفط والغاز الطبيعي، فثلثا النفط الخام المنتج والمصدر يتجه يوميًا من خلالها عبر ناقلات النفط العملاقة

الأهمية الاستراتيجية لمضيق باب المندب


بشكل عام، يحتل مضيق باب المندب المركز الثالث عالميًا من حيث حجم تجارة الطاقة التي تمر عبره، بعد مضيقي ملقا وهرمز، إذ تمر منه معظم صادرات النفط الخام والغاز المسال من الخليج العربي، التي تعبر قناة السويس أو خط أنابيب سوميد إلى أوروبا وأمريكا الشمالية. حيث يقع مضيق باب المندب قبالة سواحل اليمن وجيبوتي وإريتريا، ويربط بين البحر الأحمر وبحر العرب، وهو طريق مهم لمنتجات التكرير الأوروبية إلى الأسواق الدولية. كما يسمح المضيق لصادرات الخام المتوجهة إلى السوق الأوروبية بالمرور إما عن طريق خط أنابيب سوميد الذي يربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط أو عن طريق قناة السويس، كما هو موضح في الشكل التالي
.

إجمالًا لما سبق، يقدر عدد السفن التي تمر عبر المضيق بأكثر من حوالي 21 ألف ناقلة سنويًا، أو ما يعادل 61 سفينة يوميًا، وبالتالي يؤدي إغلاقه في وجه الملاحة إلى ضرروة تحويل وجهة السفن إلى طريق رأس الرجاء الصالح الأطول مسافة بما يصل إلى حوالي 6 آلاف ميل بحري، مما يزيد تكلفة الشحن على السف.

وبالنظر إلى حركة النفط الخام عبر مضيق باب المندب، نجد أن حجم تدفقات النفط العابرة للمضيق بلغ حوالي 8.8 ملايين برميل يوميًا خلال العام الماضي 2023، وذلك وفقًا للبيانات المتاحة عن مضيق باب المندب على موقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية. بينما بلغت تدفقات النفط الخام العابرة في عام 2022 حوالي 7.1 ملايين برميل يوميًا، مقارنة بنحو 4.9 ملايين برميل يوميًا في عام 2021، و5 ملايين برميل يوميًا في عام 2020، وهو الأمر الذي يشير إلى وجود زيادة هائلة في تدفقات النفط الخام خلال العامين الأخيرين، استكمالًا لما سبق، بلغ حجم تدفقات الغاز الطبيعي المسال عبر مضيق باب المندب حوالي 4.1 مليارات قدم مكعبة يوميًا خلال عام 2023، مقارنة بنحو 4.5 مليارات قدم مكعبة يوميًا في كل من 2022 و2021. بينما بلغ حجم تدفقات الغاز المسال حوالي 3.7 مليارات قدم مكعبة يوميًا في عام 2020، مقارنة بمستواها البالغ حوالي 3.9 مليارات قدم مكعبة يوميًا في عام 2019، ومستواها البالغ حوالي 3.1 مليارات قدم مكعبة يوميًا في عام 2018، كما هو موضح في الشكل التالي.

الجدير بالذكر أن البحر الأحمر وقناة السويس يستحوذان في السابق على حوالي 10% تقريبًا من التجارة العالمية المنقولة بحراً، ويزودان قطر بأقصر طريق إلى أوروبا، التي أقبلت على شراء شحنات الغاز الطبيعي المسال بعدما فقدت تدفقات خطوط الأنابيب الوافدة من روسيا.

حيث تؤدي المسافات الأطول التي يتعين على السفن قطعها الآن إلى تقليص عدد الناقلات المتاحة، وتضيف حوالي 4% إلى الطلب العالمي على شحن المنتجات النفطية والغاز المسال. وعلى بعد آلاف الأميال، تراجعت أيضًا معدلات العبور في قناة بنما بعدما أدى الجفاف غير المسبوق إلى عرقلة حركة العبور هناك، وبذلك أُغلق مسار آخر أقصر لنقل شحنات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية إلى آسيا خلال النصف الأول من العام الجاري 2024.

ووفقًا لما سبق، تحاول الدول العربية التصدي لمحاولات القوى المختلفة بسط نفوذها على المضايق والممرات البحرية في منطقة الشرق الأوسط، انطلاقًا من أن أي تهديد لتلك المضايق والممرات يُمثل تهديدًا صريحًا لأمنها واستقرارها وازدهارها ولصناعتها النفطية بشكل خاص، ولذلك فهي تقوم بالتنسيق في ذلك مع الدول المعنية في المنطقة ومع الدول العظمى، بالإضافة إلى محيطها العربي والإسلامي.

الأحداث المستجدة في غزة خلقت واقعًا جديدًا ومنحت ذرائع لجماعة الحوثي لاستغلال هذا الواقع وتهديد أمن الطاقة العالمي، حيث يُعد مضيق باب المندب ساحة صراع جيوسياسي وله تداعياته الخطيرة على إمدادات الطاقة من المنطقة

إشكالية الممرات المائية الدولية

يُشكل الأمن البحري بمفهومه الواسع بالنسبة للقوى الدولية أهمية استراتيجية تنطلق من ارتباطه بأمن الطاقة، حيث تعد جميع الممرات المائية أو المضايق في الاستراتيجية العسكرية، نقطة اختناق بفعل الجغرافيا، وبالتالي فهي تُشكل نقطة تفوق بالنسبة للطرف الذي يمتلك السيطرة عليها، وغالبًا ما تقع هذه النقاط في دائرة التوتر والصراع. لذلك فإن جميع الممرات المائية محمية بموجب مواد القانون الدولي حيث تتطرق هذه المادة إلى استعراض حقائق وتوقعات مرتبطة بالأهمية الاستراتيجية لمضيقي هرمز وباب المندب، وذلك بسبب مرور نفط منطقة الشرق الأوسط عبرهما إلى الأسواق العالمية، من خلال رأس الرجاء الصالح ومضيق ملقا والمضايق الإندونيسية وقناة السويس، كما هو موضح في الشكل التالي.

أصبحت قضية أمن إمدادات الطاقة أحد أهم محددات السياسة الخارجية والدفاعية للدول، ولا سيما القوى الكبرى والدول ذات الاقتصادات الصاعدة، وموضوعًا رئيسيًا للنقاش الأمني الدولي، فالصراع المستقبلي بين القوى المهيمنة حاليًا على قمة النظام الدولي وتلك الصاعدة، أصبح محوره البنى التحتية لقطاع الطاقة في مناطق الإنتاج والعبور وخطوط الملاحة البحرية.

ووفقًا لما سبق، ازدادت أهمية المضايق والممرات البحرية اليوم أكثر من أي وقت مضى، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بسبب التهديدات المتصاعدة للملاحة عبرها، وعلى خلفية حالة الاحتقان والتأزم في العلاقات بين دول الإقليم من جهة وبين بعض القوى الإقليمية والقوى العظمى من جهة أخرى وتتعاظم تلك الأهمية بالنظر إلى الثروات الهائلة من النفط الخام والغاز الطبيعي التي تزخر بها المنطقة العربية، ولأهمية إمدادات الطاقة للاقتصاد العالمي، ولعل ذلك ما يفسر اهتمام القوى العظمى والقوى الإقليمية -على حدٍ سواء- بأمن الممرات البحرية، وسعيها لإطلاق مبادرات وإنشاء تحالفات لتأمينها.

 

التداعيات الاقتصادية الراهنة والصراع الدولي

زادت الحرب على غزة من المخاطر الجيوسياسية على الأسواق العالمية مع ترقب المستثمرين لما سيحدث إذا اجتذب الصراع دولًا أخرى، وبالأخص نطاق البحر الأحمر) بما قد يرفع أسعار الطاقة بقدر أكبر، ويوجه ضربة جديدة للاقتصاد العالمي)

"القرصنة الحوثية" للسفن التي تستخدم البحر الأحمر ليست جديدة، حيث استهداف ناقلات النفط والسفن التجارية، وقصف منشآت نفطية.

هذه العمليات لها تداعيات خطيرة اقتصادياً وسياسياً هناك العديد من التداعيات على أسواق الطاقة بشكل عام ومن ضمنها:

- ارتفاع أسعار الطاقة

أدت الحرب على غزة إلى ارتفاع طفيف لأسعار الطاقة، مع مخاوف مستمرة من أن الأسواق قد تتجاوز مستوى 90 دولارًا للبرميل الواحد (فيما يتعلق بأسعار النفط الخام)، ما أثر بشكل كبير في الدول التي تعتمد بشكل كبير على النفط الخام كمدخل رئيس في الصناعة قد أدى ذلك إلى مخاوف من التضخم، حيث تنتشر تكاليف الطاقة العليا في مختلف قطاعات الاقتصاد من المتوقع أن تزداد الضغوط على أسعار الطاقة بشكل عام وذلك في حال اتساع نطاق الصراع في البحر الأحمر.

- تهديد نقص الطاقة

بالإضافة إلى زيادة الأسعار، أصبح هناك تهديد حقيقي بنقص الطاقة، إذا استمر النزاع وأثر في إنتاج الطاقة في مناطق رئيسية، حيث تم قطع مسارات النقل لموارد الطاقة، وتأثرت إمدادات النفط الخام والغاز العالمية بشكل كبير، وشكلت ضغط واضح في حركة الأسعار.

- التأثير في منطقة الشرق الأوسط

في حين أن ارتفاع أسعار النفط الخام والغاز الطبيعي المفترض، يعود بالفائدة للدول الشرق أوسطية المنتجة والمصدرة لهذه الموارد من خلال زيادة إيراداتها وتقليل العجز، فإنه يرافق مع مجموعة من التحديات في أثناء الأزمات وعليه، فإن الصراعات المستمرة في المنطقة تؤدي إلى التضخم، بالأخص في تكاليف النقل وتخلق بيئة غير مواتية للاستثمارات النفطية

فلا يمكن تجاهل التأثير السلبي على اقتصادات الدول المحاذية للبحر الأحمر، وهو ممر بحري هام للتجارة العالمية ونقل الغاز والنفط.

لذلك يُعد قطاع الطاقة أحد المؤشرات على التكاليف الباهظة التي ستدفعها المنطقة في حال نشوب صراع أوسع نطاقًا، مع بعض التداعيات التي يمكن قياسها بالفعل في بعض دول المنطقة.

مجمل القول، لقد ظهر جليًا مدى أهمية طرق نقل النفط عبر الممرات والمضايق البحرية الدولية ذات الأهمية الاستراتيجية وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، وذلك لأنها تُعد قلب جيوسياسة الطاقة في المنطقة فهاجس التزود بالطاقة شديد الارتباط بأمن الطاقة العالمي. وعليه، فإن أي تأثر في الحركة البحرية من خلال تلك المضايق، سيؤدي إلى نتائج خطيرة قد تترتب على أمن وسلامة إمدادات الطاقة في العالم ككل وعليه يمكن القول إن نظرة المنطقة العربية بالأخص لمستقبل أمنها الطاقي مرهون في الوقت الحالي بضمان أمن الممرات البحرية وخاصةً مضيق باب المندب، وذلك من خلال السعي وراء تجسيد مفهوم أمني عملي لا تخضع فيه إمدادات الطاقة العالمية إلى سيطرة الغير، سواء في أوقات السلام أو الحرب، سواء كان ذلك ناتجًا عن تهديدات إقليمية أو دولية. ومما تقدم يجب التأكيد أن أمن الخليج العربي وأمن البحر الأحمر مترابطان وضروريان معًا للأمن القومي العربي، وأي تهديد لأمن الملاحة في تلك الممرات هو تهديد لأمن واستقرار إمدادات النفط وشرايين الطاقة العالمية.

 

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : د. أحمد سلطان

تاريخ : 27/8/2024

--------------------------------------------

المصدر: سكاي ميوز عربية

التاريخ : 20/11/2023

المقالات الأخيرة