شهدت
أوروبا في السنوات الأخيرة تحولات جذرية في سياساتها الدفاعية والأمنية، مدفوعةً
بتصاعد التوترات الإقليمية، ولا سيما الصراع الروسي الأوكراني؛ ما أجبر العديد من الدول الأوروبية على إعادة النظر في
استراتيجياتها الدفاعية، ومن بين ذلك مراجعة القرارات التي أدت إلى تقلص جيوشها
بعد انتهاء الحرب الباردة، وشملت هذه المراجعات إعادة فرض نظام الخدمة العسكرية
الإلزامية، الذي كان سابقاً جزءاً أساسياً من السياسات العسكرية الأوروبية قبل أن
يُلغَى تدريجياً في أواخر القرن العشرين، لكنه أصبح اليوم محوراً للاهتمام
الأوروبي، باعتباره وسيلةً لتعزيز القدرات الدفاعية للدول الأوروبية، بهدف تحقيق
الاستقرار الإقليمي في ظل الظروف الأمنية المتغيرة في شرق أوروبا.
مؤشرات
التجنيد العسكري الإجباري
مع
عودة السياسات الدفاعية التوسعية رداً على الحرب في أوكرانيا، أعادت العديد من
الدول الأوروبية دراسة إعادة نظام التجنيد العسكري الإجباري أو توسيع نطاق تطبيقه،
باعتبار ذلك جزءاً من مجموعة من السياسات التي تهدف إلى تعزيز الدفاعات الأوروبية
ومن أهم مؤشرات التحركات الأوروبية ما يلي:
-التوسع في الدعوة إلى عودة سياسات التجنيد الإجباري: عقب اندلاع الحرب
مباشرةً، عاد الحديث عن القوات المسلحة الأوروبية وآفاقها إلى مركز المناقشة في
أوروبا؛ وذلك استعداداً لأي حرب شاملة في أوروبا، مثلما حدث إبان الحربين
العالميتين.
-إدخال أنظمة إشراك النساء في الخدمة العسكرية: اقترح المفتش العام للقوات
المسلحة الألمانية إشراك النساء في الخدمة العسكرية الإلزامية عند إعادة تقديمها؛
بهدف تحقيق المساواة بين الجنسين، واصفاً الفكرة بأنها "خدمة عسكرية
انتقائية". من جانب آخر، أعلنت الحكومة الدنماركية عن خطتها لتجنيد النساء في
الخدمة العسكرية، لتصبح واحدة من الدول القليلة التي تفرض الخدمة العسكرية على
النساء؛ حيث أوضح وزير الدفاع ترويلز لوند بولسن، خلال مؤتمر صحفي في مارس 2024،
أنه "يجب أن يسهم التجنيد الأكثر صرامةً، بما في ذلك تحقيق المساواة الكاملة
بين الجنسين، في مواجهة تحديات الدفاع والتعبئة الوطنية وتزويد قواتنا المسلحة
بالكوادر اللازمة".
-تنامي خطط زيادة حجم القوات الأوروبية: تأمل
العديد من الحكومات الأوروبية زيادة عدد قواتها المسلحة على مدار السنوات المقبلة؛
فعلى سبيل المثال، تسعى بولندا إلى زيادة أعداد القوات إلى أكثر من 300 ألف بحلول
عام 2035؛ إذ يرى المسؤولون العسكريون أن السياسات الروسية في شرق أوروبا، تشكل
دافعاً قوياً للتجنيد الإلزامي. وبدورها، تعهدت الحكومة الألمانية بزيادة تعداد
الجيش إلى 203 آلاف بحلول عام 2030
-تقديم إغراءات مالية للعاملين في القوات
المسلحة: تلعب الحوافز المالية دوراً في إقناع المجندين بالبقاء في القوات
المسلحة؛ لذلك حرصت العديد من الدول على إعداد برامج مالية تحفز الشباب على
الانضمام إلى صفوف قواتها المسلحة؛ فعلى سبيل المثال، أعلنت الحكومة البولندية عن
زيادات في الأجور بنحو 20%، في محاولة للاحتفاظ بالجنود؛ حيث ارتفع الحد الأدنى
للراتب الشهري للجندي من 4960 زلوتياً (1150 يورو) إلى 6000 زلوتي.
-التوسع في اعتماد أنظمة التجنيد الانتقائية:
تتجه دول مثل ألمانيا وهولندا نحو اعتماد أنظمة تجنيد انتقائية مشابهة للنموذجَين
السويدي والنرويجي؛ إذ يقوم النظام في السويد على فحص أكثر من 100 ألف شاب سنوياً،
ويتم استدعاء نحو ربعهم لإجراء فحوصات بدنية وعقلية قبل اختيار الثلث الأفضل
للخدمة بين تسعة أشهر وخمسة عشر شهراً في الجيش.
-دراسة إمكانية إدماج المهاجرين في الجيش: تعكس هذه النقطة حالة القلق التي
تعاني منها الجيوش الأوروبية بشأن انخفاض أعداد المجندين؛ ما يدفعها إلى محاولة
جذب المهاجرين للانضمام إلى الخدمة العسكرية. بعض الدول، مثل إسبانيا وفرنسا
والبرتغال، تدرس بالفعل سبل تمكين المهاجرين من الانضمام إلى الجيش والحصول على
الجنسية بعد بضع سنوات من الخدمة.
-تأهيل الأطر القانونية والمؤسسية لإعادة نظام التجنيد الإجباري: لم تكن هذه
التحركات نحو إعادة التجنيد الإجباري خاليةً من التحديات القانونية والتشريعية؛
حيث قامت العديد من الدول بتعديل القوانين الوطنية لدعم عودة التجنيد الإجباري
وضمان توافقه مع المعايير الحديثة، مثل احترام حقوق الإنسان والمعايير الدولية؛
فمثلاً قامت السويد بتمرير قوانين جديدة لضمان تطبيق التجنيد الإجباري، بما يتماشى
مع المتطلبات الحديثة، كما عدَّلت ليتوانيا قوانينها لضمان توافق التجنيد الإجباري
مع التزامات الدولة في إطار الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
محفزات
تحرك الخدمة العسكرية
إن
تزايد التهديدات للأمن القومي في أوروبا، قد دفع العديد من الدول إلى التفكير في
إعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية، كوسيلة لتعزيز الدفاع الوطني وتعزيز الروح
الوطنية بين الشباب؛ لذلك تتعدد الأسباب التي تدفع إلى هذا التوجه، ومنها:
-الاستجابة للمخاوف الأمنية: تُشكِّل التحديات الأمنية الإقليمية، وعلى
رأسها الحرب في أوكرانيا، أحد الدوافع الرئيسية لإشعال النقاش الأوروبي حول إعادة
التجنيد الإجباري في أوروبا؛ حيث دفعت هذه التحديات الدول الأوروبية إلى زيادة
إنفاقها العسكري وتعزيز دفاعها، في إطار سعيها إلى عكس اتجاه انكماش جيوشها الذي
حدث على مدى العقود الثلاثة الماضية،
-معالجة النقص في أعداد الجيوش الأوروبية: تواجه دول أوروبا الشرقية، خصوصاً
المجاورة لأوكرانيا، مثل بولندا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا، تحديات كبيرة في تجنيد
الشباب للجيش، ولا سيما الاحتفاظ بالجنود ذوي الخبرة؛ ما أدى إلى نقص كبير في
أعداد الوحدات العسكرية، وتراجع جاهزيتها القتالية، حتى جاءت الحرب الروسية الأوكرانية على حدود هذه الدول، لتكون بمنزلة
تذكير صارخ بالتهديد الذي تشكله موسكو؛ ما زاد أهمية تعزيز القوات المسلحة، حتى إن
اضطرت إلى تنفيذ ذلك بالوسائل الإجبارية.
-تفاقم التحديات الديموغرافية: تعاني القوات المسلحة الأوروبية من صعوبة
كبيرة في العثور على مجندين محتملين، خاصةً في ضوء انخفاض عدد سكان القارة، بجانب
زيادة فئة الشيخوخة في المجتمعات الأوروبية؛ ما أدى إلى حدوث انخفاض حاد في عدد
السكان في سن العمل على مدى السنوات الماضية.
-إعادة بناء الاحتياطيات العسكرية: يمثل التجنيد
الإجباري وسيلة هامة لتعزيز الاحتياطيات العسكرية في العديد من الدول الأوروبية؛
فهو ليس وسيلة لتعزيز القوات العسكرية الحالية فقط، بل أيضاً لبناء قدرة المجتمع
على الصمود في وجه الأزمات؛ حيث إنه من خلال التجنيد الإجباري، يمكن للحكومات ضمان
وجود قوة جاهزة للتدخل في حالة حدوث طوارئ.
-انتشار حالات رفض الانضمام الطوعي إلى الجيش: اصطدمت جهود الدول الأوروبية
لتعزيز جيوشها في مواجهة التهديد المتزايد من روسيا، بعدم رغبة الشباب الأوروبيين
في الانضمام إلى القوات المسلحة؛ حيث تواجه عدد من القوات العسكرية في مختلف أنحاء
الاتحاد الأوروبي صعوبةً في جذب المجندين، على الرغم من الحملات الإعلامية
المتعددة الأطراف.
خلاصة
القول: في ضوء التحديات الأمنية الحالية في أوروبا، تُشكِّل معالجة مشكلة نقص
القوات المسلحة تحدياً أكثر تعقيداً؛ حيث لا يمكن لزيادة حجم الإنفاق الدفاعي لدى
الدول الأوروبية أن تعالج المشكلة إلا في نطاق محدود؛ حيث إن هذه البلدان لطالما
عانت من انخفاض معدلات التجنيد؛ الأمر الذي جعل عودة التجنيد الإجباري خياراً
استراتيجياً للعديد من الدول، خاصةً أنه يعد أداة فعالة – من حيث التكلفة – لحماية
حدودها الوطنية؛ وذلك على الرغم من التحديات القانونية والاجتماعية التي قد
تواجهها هذه السياسة. ومن ثم فإن من المتوقع أن تستمر الدول الأوروبية في مناقشة
وتقييم أهمية التجنيد الإجباري باعتباره جزءاً من استراتيجياتها الدفاعية، مع
التركيز على تحقيق التوازن بين حقوق الأفراد واحتياجات الأمن القومي.
المصدر: إنترريجونال
للتحليلات الاستراتيجية
الكاتب : عبدلله جمال
التاريخ : 28/8/2024
-----------------------------------
المصدر: صحيفة الشرق
الأوسط
التاريخ : 21/7/2024