أعلنت
روسيا مؤخراً أنها تبحث بشكلٍ جدي إنشاء موانئ جديدة في عدة دول إفريقية، بما في
ذلك في تنزانيا والسنغال والجزائر ومصر. وتهدف هذه المبادرة وفقاً لمدير قسم
التعاون الدولي والترخيص في التجارة الخارجية بوزارة الصناعة والتجارة الروسية،
رومان تشيكوشوف، إلى «تسهيل دخول المنتجات الروسية إلى إفريقيا وتنظيم تدفقات
البضائع الكبيرة».
نظرة
أشمل على تفاصيل الفكرة، تؤكد أن هذه الموانئ يمكن لها أن تحمل أبعاداً لا تقف عند
الحدود التجارية، بل قد تصل إلى المستوى الاستراتيجي؛ فالعنوان الأساسي للعلاقات
الاقتصادية الجديدة في عصرنا هذا، بات هو «تنمية البنية التحتية»؛ وهو المثال الذي
أرسته الصين عبر مشروعها العملاق، الحزام والطريق، والذي يبدو أن روسيا قد بدأت
باحتذائه في علاقاتها الإفريقية.
يوضح
اختيار الدول الأربع أن ثمة نهجاً محدداً في التعامل الروسي مع القارة السمراء؛
حيث تمثل تنزانيا والسنغال بوابات شرقية وغربية للقارة، بينما تغطي الجزائر ومصر
المحور الشمالي لها. وربما يدلُّ هذا التوزيع الجغرافي على رغبة روسيّة في إنشاء
شبكة لوجستية شاملة في إفريقيا.
البيانات
الاقتصادية تؤشر على جدية التوجه الروسي
تستند
المشاركة الروسية في الاستثمار بالبنى التحتية الإفريقية بالأصل إلى تغيّر ملفت في
البيانات الاقتصادية التجارية. بالرغم من أنّ الأرقام المطلقة ما تزال متواضعة،
إلا أنّ معدل تغيرها كبير وسريع؛ حيث ضاعفت روسيا صادراتها إلى إفريقيا، من 2.5%
في عام 2022 إلى 5% في نهاية عام 2023. في الوقت نفسه الذي انخفضت فيه حصة القارة
الأمريكية من الصادرات الروسية من 3.5% إلى 2.9% خلال الفترة ذاتها. مع الأخذ
بالاعتبار أن أهم الصادرات الروسية إلى إفريقيا هي القمح ومنتجات النفط والسلع الكيماوية
والآلات.
المساهمة
الفاعلة في تحرير إفريقيا
تأتي
الفكرة الروسية على خلفية تغير سياسي كبير تعيشه النهضة الإفريقية ضد النفوذ
الغربي فيها؛ حيث عبّرت دول إفريقية عديدة - بالقول وبالخطوات الملموسة - عن عدم
رضاها عن الهيمنة الغربية وعن «النموذج الديمقراطي» الغربي الذي يُفرض عليها، ما
يدفعها للبحث عن شراكات جديدة متعددة الأطراف، وخاصة مع كل من الصين وروسيا.
وعلى
هذا، فإن إنشاء موانئ روسية في إفريقيا لا يشكل ضرورة تجارية فقط، بل يمثل واحدة
من الخطوات المحورية نحو تثبيت موازين القوى الدولية الجديدة عبر المساهمة في
إعادة تكوين الخارطة الاقتصادية العالمية، بما في ذلك خطوه التجارة الدولية، وبما
يحد تدريجياً من النفوذ الغربي.
كما
تُعتبر هذه الموانئ بمثابة مؤشر جديد على ضخامة المشاريع الاقتصادية التي يجري
التفكير بها مستقبلاً، فهي بوصفها بوابات رئيسية في شبكة البنية التحتية الجديدة،
ستكون مهيأة لدعم مشاريع اقتصادية كبرى قد لا تكون الموانئ الإفريقية الحالية
قادرة على استيعابها.
نموذج
جديد من التعاون
من
خلال الاستثمار في البنية التحتية الأساسية، لا توسع روسيا علاقاتها الاقتصادية مع
إفريقيا فقط، بل تكرس النموذج الجديد من التعاون الذي أرسته الصين قبلها، والقائم
على التبادل المتكافئ بدلاً من وصفات الاستعمار الغربي بصيغتيه القديم والجديد،
والذي استند إلى عملية نهبٍ وحشية لموارد الجنوب العالمي، بالتوازي مع استمرار
إفقاره وتهميشه وإعاقة التنمية داخله، وخاصة بما يتعلق بالبنى التحتية التي تشكل
أساساً محورياً في أي نموٍ واستقلال اقتصادي لاحق.
وبالرغم من أنّ مشروع البناء المشترك لموانئ جديدة في إفريقيا بدعمٍ روسي، ما يزال في خطواته الأولى، إلا أنّه مؤشرٌ مهم على اتجاهٍ عامٍ سنراه يتعزز مع الوقت في كامل إفريقيا، ليس عبر التعاون مع روسيا والصين فقط، بل مع عدد من القوى الصاعدة دولياً وإقليمياً، وبما يشكل بالمحصلة خارطة جغرافية اقتصادية جديدة، كأحد حوامل عالم جديد ما يزال في خطواته الأولى نحو التبلور الكامل...
المراجع :
سعد خطار، 2024،4،27، نقلة نوعية في التعاون الروسي الإفريقي: موانئ
جديدة لعهد جديد حزب الإرادة الشعبية.
يمان دابقي ،25.7.2019، التوجُّه الروسي نحو
شمال إفريقيا، برق للسياسات والاستشارات.