ســـدود لــيــبــيـــا
فرع بنغازي

يحٌمل خبراء ومختصين، المسؤولين عن عدم إجراء دراسات جيولوجية دقيقة قبل إقامة السدود المائية في ليبيا، النتائج المترتبة عن مشكلة تسرب المياه المستمر في منطقة الجبل الأخضر شرقي ليبيا، إذ أقيمت السدود على كهوف وصخور جيرية بالمنطقة دون تحديد مناطق الطبقات والفوالق والكسور، كما غيبت اللجان المختصة بدراسة الصخور كما يقولون مؤكدين وجود أخطاء كثيرة ومتكررة في تصميمات السدود الليبية ما يهدد الأمن المائي للبلاد.

وتم إنشاء 18 سداً مائياً شرق وغرب ووسط ليبيا في العقود الثلاثة الماضية بحسب ما أوضحه مدير عام الهيئة العامة للمياه المهدي المجبري والذي قال ان التصميمات التي وضعت قبل إنشاء السدود كانت ترمي لتوفير 375 مليون متر مكعب من الماء، بينما كميات المياه المحتجزة سنوياً لا تتجاوز 65 مليون متر مكعب بعدد 18 سدا أهمها سهل الجفارة وكل هذا بسبب الأخطاء التصميمية ما أسفر عن حجز كميات بسيطة من تلك المستهدفة والتي صمم السد وتكلف ماليا على أساس تحقيقها"، وهو ما يكشف عن إهدار كبير في بلد يحتاج إلى كل قطرة من معدل هطول الأمطار الذي يصل إلى 2.5 مليار متر مكعب سنويا وفقا لما قاله الأستاذ بقسم التربة والمياه في كلية الزراعة بجامعة طرابلس الدكتور سعد الدين الغرياني، والذي أضاف في إفادة ان نسبة ما تحجزه السدود تعد بسيطة جدا، بالمقارنة مع نسبة هطول الأمطار سنويا".

وتقع ليبيا ضمن المنطقة العربية التي تعتبر من أكثر المناطق فقراً في موارد المياه في العالم، وتتجاوز ليبيا مع 12 دولة عربية أخرى خط الفقر المائي الحاد إذ يقدّر نصيب الفرد في ليبيا بحوالي 120 متراً مكعباً في السنة لكل فرد، وذلك وفقاً للتقرير العالمي لتنمية المياه لعام 2015 في حين أن حد الفقر العالمي يقدّر بألف متر مكعب في السنة لكل فرد بحسب ما جاء في بحث سياسات إدارة الموارد المائية في ليبيا الصادر عن المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات في مايو عام 2017.

أسباب التسريب

صممت السدود في ليبيا بطريقة عشوائية، ولاسيما بالمنطقة الشرقية، بحسب ما شرحه أستاذ الجيولوجيا بجامعة عمر المختار مهند الشلوي والذي قال إن الفوالق والشقوق في الأرض التي تقام عليها السدود، نتج عنها تسرب للمياه المحتجزة، كما حدث في سد مدينة درنة الواقعة شمال شرق ليبيا والذي تمت إقامته في العام 1986 على أرض بواطنها كهوف وفجوات، علما أن المنطقة غير مؤهلة لإقامة سد مائي لانجرافات التربة، مما تسبب في تسرب المياه المستمر منذ إنشاء السد حتى الآن، متسائلاً في الوقت ذاته: "أين الدراسات الجيولوجية لطبقات الأرض في المنطقة وكذلك الدراسات الطبوغرافية والجيوتكتونية لخواص الصخور؟ّ!، النتيحة واضحة حاليا"، غير أن مدير الإدارة العامة للسدود بالهيئة العامة للمياة المهندس عمر المغربي يقول إن التسرب لا يتعدى 5 كيلومترات، والمياه المتسربة من السد تذهب إلى مخزون المياه الجوفية، مضيفا أن مُشكلة السدود حالياً، تقتصر على نقص الأموال المطلوبة لصيانتها، فضلاً عن الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي الذي يعوق عملية نقل المياه من أسفل إلى أعلى عبر المضخات الغاطسة كما يعوق عمل أجهزة قياس عمق المياه.

وتحتاج بعض السدود إلى 10 ملايين دينار ليبي (ما يعادل 7.27 ملايين دولار) لإجراء عمليات الصيانة السنوية، لكن المخصصات المالية لا تتعدى نصف مليون دينار (364 ألف دولار) حسب المغربي، لكن المهدي المجبري كشف أن الموازنة المالية المخصصة لصيانة السدود، لم تصرف منذ خمس سنوات بسبب الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد، بعد أن بلغت ميزانية صيانة وتشغيل السدود 500 مليون دينار (ما يعادل 363 مليون دولار) بحسب آخر موازنة صرفتها الهيئة العامة للمياه في العام 2012 وفق إفادة المجبري.     

مخاوف من استمرار تغييب الدراسات المتخصصة

يعرف السد بأنه إنشاء هندسي يقام فوق واد، أو منخفض بهدف حجز المياه، وتنقسم السدود إلى نوعين الأول الخرسانية والثاني الترابية أو الركامية وسدود ليبيا من هذا النوع، بحسب الأكاديمي الشلوي، والذي حذر من أن هيئة الموارد المائية لديها مشاريع سدود جديدة بدون دراسات كافية في تكرار للسيناريو السابق كما يقول، وهو ما يؤكده رئيس قسم الجيوفيزياء بجامعة طرابلس الدكتور محمد البوعيشي بالقول: "إن دول العالم المتقدم تأخذ استشارة الجيوفيزيائي في عمليات إنشاء ناطحات السحاب والأبراج، وفي ليبيا يتم تغييبه في مشاريع استراتيجية، مثل إقامة السدود"، محملا هيئة المياه مسؤولية الدراسات الميدانية، لكن مدير إدارة الإعلام بهيئة الموارد المائية سليمان عبود يقول إن الوضع الاقتصادي الحالي يعيق أي إجراء من شأنه إجراء دراسات بحثية، إذ تحتاج إلى أموال غير متوفرة.

وأنشئت السدود في ليبيا من أجل التحكم في الفيضانات وإمداد المناطق الزراعية بالمياه، مثل سد وادي المجنيين الواقع جنوب طرابلس، الذي أنشئ لحماية ضواحي طرابلس من الفيضان، وسد وادي الوشكة الذي تم إنشاؤه في عام 1996 على بعد 29 كيلومترا جنوب غرب بلدة سوكنة الواقعة جنوبي ليبيا، إلى جانب تخزين المياه بحسب عبود، والذي أشار إلى تعدد وجهات النظر حول تقييم السدود، خاصة أنها أسهمت بشكل كبير في تغدية خزان المياه الجوفية، وإمداد المناطق الزراعية بالمياه كما يقول.

انخفاض المخزون المائي

يعتدي مواطنون على مياه السدود الليبية في مناطق مختلفة لري أراضيهم الزراعية، ومنهم من يقوم بوضع مضخة مياه، لشفط الماء من الوادي الذي تخزن فيه السدود المياه ويعمد إلى نقلها عبر شاحنات وفق ما قاله المواطن علي بن إسماعيل الذي يحصل على المياه من سد وادي كعام (140 كيلومتراً إلى الشرق من مدينة طرابلس) للاستفادة منها في ري أرضه الزراعية، قائلا ان نقص المياه بمنطقة وادي كعام جعلني أقوم بذلك، إلى جانب أن المياه تحبس في الوادي، ولا يستفاد منها منذ العام 2011 بسب غياب مؤسسات الدولة".

وتبلغ الطاقة التصميمية الاستيعابية لسد وادي كعام 111 مليون متر مكعب من الماء بينما بلغ متوسط المخزون السنوي 13 مليون متر مكعب في عام 2017 وفقاً لتقرير الهيئة العامة للمياه الحكومية الصادر في عام 2017.

ويطاول الاعتداء سد وادي غان بالهيرة (منطقة زراعية) الواقعة شمال غريان بـ 14 كيلومتراً وجنوب منطقة الرقيعات بشعبية الجبل الغربي بليبيا، للحصول على المياه بحسب تأكيد المزارع حسن أبو القاسم والذي يعيش في منطقة الرقيعات، ويبرر أبو القاسم في إفادته اعتداء المواطنين على مياه السدود، بأنه من أجل الحصول على مياه للشرب واستخدام لتك المياه النادرة في عمليات الري الزراعية للحفاظ على مخزون آبارهم الجوفية من النضوب.

خزان المياه الجوفية

تعتبر ليبيا بلدا محدود الموارد الطبيعية بشكل كبير، إذ تشكل الصحراء القاحلة 90% من مساحتها المقدرة بنحو 1.8 مليون كيلومتر مربع، بحسب دراسة "الاستراتيجية الوطنية للأمن المائي" الصادرة في العام 2011 عن مجلس التخطيط العام الذي كان يتبع الجهاز التشريعي للدولة في السابق، ويتبع حاليا المجلس الرئاسي.

وتتوزع المـوارد المائية المتاحة في ليبيا بين 95 بالمائة مياها جوفية، 2.30 % مياها سطحية و0.90 % مياها محلاة 0.66 % مياه صرف، ويعتمد 95% من السكان في ليبيا على المياه الجوفية والتي تشكل المصدر الأساسي للمياه المستعملة في قطاعات وأنشطة مختلفة أهمها الزراعة والري والاستخدامات المنزلية والصناعية والاقتصادية والصحية، وتبلغ التغذية السنوية للمياه الجوفية في حدود 250 مليون متر مكعب، بينما يقدر الاستهلاك مليار متر مكعب وفقا لدراسة استشرافية تناولت الوضع المائي في ليبيا في عام 2025، وصدرت عن وزارة التخطيط الليبية، مطلع العام 2010.

وتشير الدراسة ذاتها إلى أن حصة الفرد من المياه المتجددة تعتبر من أقل دول العالم، وتوقعت أن حصة الفرد من المياه المتجددة ستنخفض من 80 مترا مكعبا لسنة 2005، إلى 40 مترا مكعبا في 2020، وقدرت الحد الأقصى من المياه الجوفية والسطحية بحوالي 4000 مليون متر مكعب في السنة، وبينت الدراسة أن نسبة المياه غير التقليدية، سواء كانت تحلية أو مياه صرف صحي معالجة، تقدر بحوالي 1000 مليون متر مكعب في السنة، مشيرة إلى أن نسبة المياه الجوفية غير المتجددة تقدر بـ 3000 مليون متر مكعب، فيما تقدر نسبة المياه الجوفية المتجددة بـ 650 مليون متر مكعب، فيما تبلغ نسبة المياه السطحية 170 مليون متر مكعب.

ويؤكد مدير الإدارة العامة للسدود وجود مشاريع سدود جديدة في وادي الخروع ووادي الربيع اللذين يقعان جنوب طرابلس للحماية من الفيضانات، قائلا "نقص الأموال، أعاق إنشاء 20 سد مائي ترفع السعة التخزينية بحوالي 45 مليون متر مكعب وهي كمية مهمة لعملية الزراعة كما أن السدود مهمة في عملية الحماية والتحكم في الفيضانات ونأمل في توفير الميزانيات اللازمة لتلك المشاريع الحيوية لجميع الليبيين".

سدود وادي درنة، البداية والنهاية

 (بقيت 50 سنة وانتهت بفاجعة تاريخية)

درنة مدينة تقع على ضفاف وادي كبير "وادي درنة"، هذا الوادي الذي يتجاوز طوله 60 كم ومساحة حوض التجميع له تبلغ 575 كم مربع. نتيجة لتكرار حدوث الفيضانات في المدينة بسبب مرور الوادي بوسطها أوصت الدراسات التي اجريت في الستينيات بضرورة انشاء أكثر من سد واحد من أجل حماية المدينة ومن أجل حجز الكميات الهائلة من المياه التي تجري بالوادي في وقت الفيضان وينتهي بها الأمر بالبحر.

في بداية السبعينيات قامت إحدى الشركات اليوغسلافية ببناء سدين ركاميين (القلب من الطين المدموك، والجوانب من الحجارة والصخور) على مجرى الوادي، سد البلاد وهو يبعد مسافة حوالي 1 كم جنوبا من قلب المدينة بسعة تخزينية في حدود 1.5 مليون متر مكعب، وسد ابو منصور ويبعد حوالي 13 كم جنوب السد الأول، وهو سد كبير بسعة حوالي 22.5 مليون متر مكعب، سعته التخزينية كبيرة.

بناء هذه السدود أنهى مشكلة الفيضانات بالمدينة، والتي كانت تتسبب في خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات. من ذلك فيضان 1941 والذي تسبب في خسائر كبيرة للجيش الألماني، وفيضان 1956، والفيضان الكارثي سنة 1959، وفيضان 1968، وفيضان سنة 1986 الذي رغم كبره إلا أن السدود لعبت دورها في منع حدوث الأضرار بالمدينة. ويظل فيضان سنة 1959 هو الأكثر إيلاما في ذاكرة المدينة بسبب عدد الضحايا والخسائر المادية قبل حدوث فيضان يوم 10 سبتمبر 2023.

فيضان سبتمبر 2023 هو الأكثر شدة ودمارا وخرابا وإيلاما عبر تاريخ هذه المدينة لعدة أسباب منها:

-1 أن كميات الأمطار التي سقطت في فترة أقل من 24 ساعة تجاوزت في حوض تجميع الوادي 200 ملم وهذا يعني أن حوض التجميع استقبل ما يزيد عن 115 مليون متر مكعب من المياه، وهي كمية أكبر بكثير من قدرة تحمل السدود مجتمعه. وهذه الكميات لم تسجل سابقا في كل الفيضانات المسجلة (المقصود التساقط المطري في عدة ساعات).

 -2أن وجود السدود خلال الخمسين سنة السابقة خلق حالة من الاطمئنان لدى الناس مما جعلهم يزحفون بالمباني والطرق والمنشآت على ضفاف الوادي التي لم تكن مقصودة عبر التاريخ بإنشاء الطرق والمباني.

3- بعكس الفيضانات السابقة حيث كانت المياه تتدفق بحرية من خلال المجرى، فإن فيضان فجر الاحد كان بسبب ما تراكم خلف السدود من كميات كبيرة بالإضافة إلى ما جاء به الوادي من كميات إضافية هائلة من المياه مما جعل هذا الفيضان تاريخي وغير مسبوق. أحد الأدلة على ذلك أن أضرحة صحابة رسول الله بقيت هناك منذ الفتح الإسلامي رغم كل الفيضانات عبر التاريخ، حتى فيضان فجر الأحد الذي أكتسحها وعدة أمتار تحتها وأصبح مكان تلك الأضرحة الأن في الهواء بعدة امتار فوق سطح الأرض.

فلا شك بأن هذا الفيضان لم يسبق أن رأته المدينة عبر تاريخها، لقد تغير كل شيء، بما فيها لاندسكيب المدينة، لقد اتسع الوادي الآن ليشمل عدة شوارع وأحياء على جنباته وطول مجراه في المدينة. وأصبحت المدينة اليوم بدون حماية من أي فيضان آخر ولو كان بسيطا. وعليه يجب أن تتغير طريقة التعامل مع هذا الوادي من الجذور.

دائما ما نقول أن محاولة إدارة الطبيعة تكون نتائجها كارثية، والصحيح والآمن دائما هو العمل مع الطبيعة بقوانينها وواقعها، وليس محاولة السيطرة عليها. وإن ما حدث فجر الأحد ستكون له آثار كبيرة على حياة الناس وتواجدهم بالمنطقة. لقد بقيت هذه السدود 50 سنة بالكمال والتمام، وانهارت يوم الاحد ، وهي فترة يجب دراستها بتمعن، ومعرفة كل جوانبها الايجابية والسلبية، ليس فقط من أجل الجوانب الأكاديمية الصرفة، بل كذلك من أجل استشراف طرق مغايرة للتعامل مع السدود والأودية في كامل ربوع ليبيا.

المراجع:

خالد محمود ،7.9.2023، سدود ليبيا... ضحية «الإهمال» وغياب الحكومة ، الشرق الأوسط صحيفة العرب الأولى .

أحمد الخميسي، 16.7.2018، سدود ليبيا... عشوائية التصميم تهدر المياه النادرة، موقع العربي الجديد.

عبدالمنعم سعيد، ( ب ، ت ) ، سدود وادي درنة، البداية والنهاية !) بقيت 50 سنة وانتهت بفاجعة تاريخية) ، موقع الصباح. 

المقالات الأخيرة