يقول
وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن أن الثورات التكنولوجية اليوم تقع في صميم
تنافسنا مع منافسينا الجيوسياسيين، فهي تشكل اختبارات حقيقية لأمننا ، وتمثل أيضًا
محركًا للإمكانية التاريخية لاقتصاداتنا وديمقراطياتنا وكوكبنا، وبعبارة أخرى: لم
يعد الأمن والاستقرار والازدهار مجرد أمورًا تقتصر على العالم الملموس.
وقد
أنتجت الثورة الرقمية أنماطاً جديدة من الفاعلين من غير الدول، وأكسبتهم القدرة
على التأثير على المجتمعات، سواء كانوا أفراداً أم مجموعات، ويعد من أبرز هؤلاء
الفاعلين شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة؛ حيث أضحت فاعلاً أساسياً في عالم
اليوم، وذلك على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. الأمر الذي
يجعلنا أمام كيانات تماثل تأثير الحكومات، من حيث امتلاكها عناصر القوة والتأثير
السياسي والاقتصادي والمجتمعي.
وقد
رسخ الاعتماد المتزايد على العامل التكنولوجي خلال جائحة "كوفيد-19" من بلورة الدور السياسي الذي تلعبه تلك الشركات، كما برز
أصحاب الشركات التكنولوجية كلاعبين فاعلين على الساحة الدولية يتم دعوتهم لحضور
المنتديات والفاعليات الدولية مثل المنتدى الاقتصادي العالمي، وكذلك حضور
الاجتماعات الحكومية، والأكثر من ذلك أنهم أضحوا شخصيات دولية مرموقة يتخطى نفوذهم
نفوذ رؤساء الحكومات، بل وأصبحوا يقومون بأدوار على الساحة الخارجية بما يخلق
شكلاً من أشكال السياسة الخارجية الموازية لتلك الأمريكية.
أدوات
واشنطن
باتت
شركات التكنولوجيا الأمريكية تضطلع بدور ملحوظ في السياسة الخارجية الأمريكية، وهو
ما يمكن تناول مظاهره على النحو التالي:
1-
تقديم الدعم لقادة اليمين بدول مختلفة: بحلول عام 2021، كان "إيلون ماسك" الرئيس التنفيذي الحالي لمنصة (X)،
تويتر سابقاً، ينتقد عمليات الإغلاق بسبب جائحة "كوفيد-19"، وشجب ما أسماه "فيروس العقل المستيقظ" الذي جادل
بأنه يهدد مستقبل الحضارة ويقمع حرية التعبير. كما أكد على إخفاقات اليسار، والتي
يقول إنها أدت إلى قضايا مثل الهجرة غير الشرعية وانخفاض معدلات المواليد. ومع
انتشار الشعبوية والقومية، تحدث البعض عن تطور العلاقات الإيجابية بين
"ماسك" وعدد من القادة على غرار "جورجيا ميلوني" في إيطاليا،
وكذلك "خافيير ميلي" في الأرجنتين، و"جايير بولسونارو" في
البرازيل. ومن خلال منصة (X)،
دعم ماسك وجهات نظرهم السياسية، وأشاد بمعارضتهم للاشتراكية، ناهيك عن إفراد مساحة
لانتقاد القوى المنافسة لهم.
فبعد
دقائق من انتخاب الرئيس الأرجنتيني "ميلي" رئيساً لثاني أكبر دولة في
أمريكا الجنوبية في نوفمبر 2023، نشر "ماسك" على موقع (X):
"الرخاء في انتظار الأرجنتين". ومنذ ذلك الحين، استمر "ماسك"
في استخدام منصة (X)، لتعزيز وضع ميلي، ومشاركة الفيديوهات التي
تعيد رسم الصورة الذهنية الخاصة به، وتحويل الرئيس الجديد إلى أحد الوجوه الجديدة
لليمين الحديث، حيث تمت مشاركة أحد الفيديوهات للرئيس الأرجنتيني وهو يهاجم
"العدالة الاجتماعية" مع متابعيه البالغ عددهم 182 مليوناً.
2-
بناء العلاقات مع القادة السياسيين: فقد اهتم "إيلون ماسك" بتعزيز
العلاقات الأيديولوجية علناً مع قادة العالم، لاستعراض رؤيته السياسية للأمور
وتحقيق مصالحه التجارية. فبينما يظل الرؤساء التنفيذيون للشركات الكبرى في الأغلب
بعيدين عن الأضواء، فإن ماسك قام ببناء تحالف مع الرئيس "باراك أوباما"
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كما أنّه تربطه علاقات شخصية مع بعض القادة
الرئيسيين، ولا سيما الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون".
3-
العمل على تأمين المصالح الاقتصادية الأمريكية: استخدم "ماسك" علاقاته
ببعض قادة العالم من أجل الضغط لتحقيق مكاسب لمجموعة شركاته. فدعمه للرئيس
الأرجنتيني "ميلي" أمن لشركة "تسلا" عنصر الليثيوم، وهو
العنصر الأبيض الفضي الذي يعد المكون الرئيسي في بطاريات سيارات تسلا، ومن ثم فهو
يعد بمثابة "النفط الجديد"، الذي تمتلك الأرجنتين منه ثاني أكبر
احتياطيات في العالم. كما يسعى "ميلي" إلى تحقيق فوائد كبيرة لعمال
مناجم الليثيوم الدوليين، الأمر الذي من المرجح أن يمنح تسلا تدفقاً أكثر
استقراراً -وربما أرخص- لواحد من أهم مواردها.
وفي
الهند، نجح "ماسك" من خلال علاقته الشخصية ودعمه لرئيس الوزراء
"مودي" في تأمين تعريفات استيراد أقل على سيارات تسلا. كما تم منع شركة
(BYD)، الشركة الصينية لصناعة السيارات الكهربائية سريعة النمو، من الاستثمار
في الهند.
وفي
البرازيل، افتتح "ماسك" من خلال علاقته مع الرئيس البرازيلي السابق
"بولسونارو" سوقاً كبيرة جديدة لشركة (Starlink) لتقديم خدمات الإنترنت. وتمتلك (Starlink) الآن حوالي (150) ألف حساب نشط، وفقاً لهيئة تنظيم الاتصالات
في البرازيل.
أيضاً،
يعتمد "مارك زوكربيرج" في علاقاته الخارجية على الترويج لتطبيقات
الميتافيرس. فخلال جولته الآسيوية، في فبراير 2024، التي سافر خلالها إلى اليابان وكوريا الجنوبية والهند، التقى
مارك رئيسَ الوزراء الياباني "فوميو كيشيدا" لمناقشة تطبيقات الذكاء
الاصطناعي ومستقبل التكنولوجيا. وهذه ليست المرة الأولى التي يلتقي فيها زوكربيرج
رسمياً برئيس وزراء ياباني، ففي عام 2012، التقى مع "يوشيهيكو نودا"، الذي
ناقش معه استخدام فيسبوك للاتصالات في حالات الكوارث في أعقاب زلزال شرق اليابان
الكبير. وفي عام 2014، قام بزيارة إلى شينزو آبي، حيث كشف النقاب
عن ميزة التحقق من السلامة على فيسبوك، والتي من خلالها يمكن للأشخاص تصنيف أنفسهم
على أنهم آمنون أثناء الأزمات. كما أن هناك خططاً للقاء الرئيس الأرجنتيني ومارك
لمناقشة دعوة مارك للاستثمار في الذكاء الاصطناعي في الأرجنتين.
4-
محاولة التماهي مع أهداف السياسة الخارجية الأمريكية: بدت شركات التكنولوجيا
الأمريكية خلال السنوات الأخيرة واحدة من أدوات السياسة الأمريكية وخاصة فيما
يتعلق بدعم حلفاء واشنطن، ولعل هذا ما اتضح في مناسبتين رئيسيتين، إحداهما الصراع
في أوكرانيا، وقرار "إيلون ماسك" بتزويد أوكرانيا بخدمة ستارلينك من
خلال شركته "سبيس إكس".
وكانت
المناسبة الثانية خلال حرب غزة، فبالرغم من المظاهرات الداخلية التي شهدتها
الولايات المتحدة لمطالبة إدارة بايدن بالضغط على الكيان الصهيوني لإيقاف الحرب،
فقد عمل عددٌ من شركات التكنولوجيا الأمريكية على تأكيد دعمها لتل أبيب وظهر ذلك
مثلاً من خلال حجب عدد من المنصات الإلكترونية أي تعليقات أو حسابات داعمة لفلسطين
ورافضة للحرب الصهيونية. وبالرغم من الاتهامات التي لاحقت "ماسك" في
بداية الحرب بتأييد الأفكار المعادية للسامية؛ إلا أنه حاول تجاوز هذه الاتهامات
وخاصة بعد زيارته للكيان الصهيوني والاجتماع مع رئيس الوزراء الصهيوني "بنيامين
نتنياهو"، وإعلان دعمه تدمير الكيان الصهيوني لحركة حماس. وبعد قيامه بجولة
في أحد المواقع التي زعم الكيان الصهيوني تعرضها لهجمات حماس في 7أكتوبر، تطوع ماسك بتقديم تشخيص للصراع الصهيوني
-الفلسطيني، حيث أعلن "يمكن للمرء أن يتفق عموماً على أننا نريد مستقبلاً
جيداً للفلسطينيين"، "أن التحدي الحقيقي هو، كيف يمكنك التخلص من أولئك
الذين يُصرون على قتل الشعب اليهودي".
5-
الإبقاء على حيز للتفاهم مع الصين: صحيح أن شركات التكنولوجيا سعت إلى التماهي مع أهداف
السياسة الأمريكية، بيد أنه في بعض الحالات كانت تخرج، بشكل أو بآخر، عن التوجهات
المعلنة لواشنطن. ولعل هذا ما يتضح من تصريحات "ماسك" المثيرة للجدل،
التي يطلقها بين الحين والآخر، حول العلاقة بين الصين وتايوان. فقد أدلى
"ماسك" في مقابلة مع صحيفة "فايننشال تايمز"، في أكتوبر 2022، بتصريح قائلاً: "إن تايوان يجب أن تصبح منطقة إدارية خاصة
للصين"، وهو الأمر الذي استرعى اهتمام سفير الصين لدى الولايات المتحدة والذي
أشاد بتعليق ماسك، إلا أن نظيره التايواني قال إن الحرية "ليست للبيع"،
وإن تايوان تحكم نفسها، لكن بكين تدعي أنها جزء من أراضيها.
جدير
بالذكر أن الحكومة الصينية قدمت تسهيلات لشركة تسلا لمساعدتها في بناء مصنع
شنغهاي، وسمحت الصين لشركة تسلا، في حين لم تسمح لأي شركة تصنيع سيارات أمريكية
أخرى، بالحق في تشغيل مصنعها بشكل مستقل في البلاد دون الحاجة إلى الدخول في شراكة
مع أي شركة تصنيع سيارات محلية أخرى.
تداعيات
رئيسية
يؤدي
هذا الدور المتصاعد لشركات التكنولوجيا في السياسة الخارجية الأمريكية إلى عدد من
التداعيات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1-
خلق مسارٍ موازٍ للسياسة الخارجية الأمريكية: في عالم تعتمد فيه القيادة الجيوسياسية
بشكل متزايد على التكنولوجيا، فإن النفوذ الدولي الذي يتمتع به "إيلون
ماسك" يطرح العديد من الإشكاليات أمام الولايات المتحدة الأمريكية. فهو من
ناحية، يعد واحداً من أهم الشخصيات الأمريكية ذات التأثير عالمياً، ومن ثم فإنه
يعد مكسباً للجانب الأمريكي وأداة يمكن استخدامها في تحقيق أهداف السياسة الخارجية
الأمريكية، إلا أنه على الجانب الآخر يمتلك أجندته الخاصة، كما أنه يمتلك النفوذ،
فامتلاك التكنولوجيا الحيوية أضحى يقترن بامتلاك القدرة التنافسية الاقتصادية
والتأثير على دوائر الأمن القومي والرأي العام. فكل من وكالة ناسا والبنتاجون
يعتمدان بشكل كبير على شركة (SpaceX)
المملوكة لماسك للوصول إلى الفضاء. على الجانب الآخر، فإن ماسك يشعر بالتزام أقل
لمواءمة وجهات نظره مع آراء واشنطن، الأمر الذي يمنحه قدراً أكبر من الاستقلالية
في إدارة علاقاته الخارجية بما يخدم مصالحه، دون الالتزام التام بالأجندة
الأمريكية.
2-
وضع الإدارة الأمريكية في موقف حرج: فقد تجنب "جو بايدن" الإدلاء
بتصريحات تدين "ماسك" في نوفمبر 2022، عندما سئل خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض عما إذا كان يعتقد أن
"ماسك" يمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، وهل ينبغي للولايات
المتحدة، باستخدام الأدوات المتوفرة لديها، التحقيق في استحواذه المشترك على تويتر
آنذاك مع حكومات أجنبية؟ وحينها اكتفى "بايدن" بالرد بأنه يرى "أن
تعاون "إيلون ماسك" و/أو علاقاته مع الدول الأخرى يستحق النظر فيه".
وأضاف: "سواء كان يفعل أي شيء غير مناسب أم لا، أنا أقترح أن الأمر يستحق
النظر فيه. هذا كل ما سأقوله".
3-
اتهامات لواشنطن بتعميق الأزمات السياسية داخل الدول الأخرى: لم تنجح محاولات
"ماسك" في دعم الرئيس البرازيلي السابق "بولسونارو" من خسارة
الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس اليساري "لولا دا سيلفا" في أكتوبر 2022. ولكن في غضون أسابيع، حاول ماسك مساعدة "بولسونارو"
مرة أخرى، حيث بدأ أنصار الرئيس السابق في توجيه الاتهامات على موقع تويتر بأن
القضاة البرازيليين قاموا بترجيح كفة الانتخابات من خلال إصدار أوامر لشبكات
التواصل الاجتماعي بإزالة المنشورات والحسابات اليمينية. وغذى "ماسك" من
شكوكهم من خلال الإشارة إلى أن رؤساء تويتر السابقين ساهموا في هزيمة
"بولسونارو"، ونشر في ديسمبر 2022 منشوراً بأنه "من المحتمل أن موظفي تويتر أعطوا الأفضلية
للمرشحين اليساريين".
بينما
قام هو على الجانب الآخر بتحديد المنشورات المتعلقة بنتائج الانتخابات البرازيلية
التي يجب أن تظل مرفوعة أو تتم إزالتها، وأمر الموظفين بالتوقف عن تطبيق قواعد
تويتر الانتخابية في البرازيل، بما في ذلك السياسة التي تحظر على المستخدمين نشر
ادعاءات مضللة حول نتائج الانتخابات. وطلب منهم فقط إزالة المنشورات التي تحرض
بشكل مباشر على العنف أو التي تخضع لأمر من المحكمة.
وفي
يناير 2023، اقتحم الآلاف من أنصار
"بولسونارو" الكونجرس البرازيلي والمحكمة العليا والمكاتب الرئاسية، تحت
اعتقاد خاطئ بأن الانتخابات قد سُرقت. ومنذ ذلك الحين، استخدم "ماسك"
منصة (X) لمهاجمة "ألكسندر دي مورايس"، قاضي المحكمة العليا
البرازيلية الذي أشرف على التحقيقات مع الرئيس السابق وأنصاره. وقامت المنصة بحظر
أكثر من (100) حساب بناءً على أوامر من القاضي
"مورايس"، الذي قال إن العديد منها يهدد الديمقراطية البرازيلية. حيث
نشر ماسك في أبريل 2024 عبر المنصة: "لقد خان هذا القاضي
بوقاحة وبشكل متكرر دستور البرازيل وشعبها"، وأضاف: "يجب أن يستقيل أو
يُعزل". وفي تجمع حاشد دعا إليه "بولسونارو" في ريو دي جانيرو، حمل
أنصاره لافتات تشكر "ماسك"، وعندما خاطب "بولسونارو" الحشد،
أشاد بالملياردير ووصفه بأنه "الرجل الذي يحافظ حقاً على الحرية الحقيقية لنا
جميعاً".
4-
الترويج لدور شركات التكنولوجيا الأمريكية في نشر خطاب الكراهية: وفقاً لتقرير
أعدته مجموعة مساءلة الشركات، Ekō،
بالتعاون مع مجموعة الهند الدولية لمراقبة الحقوق المدنية، في شهر مايو 2024، فقد فشلت شركة Meta
المالكة لفيسبوك وإنستجرام في اكتشاف وحظر الإعلانات التي تحتوي على صور تم
إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي تروج لخطاب الكراهية والمعلومات المضللة
الانتخابية والتحريض على العنف، وبصفة خاصة تجاه المسلمين في الهند، بالإضافة إلى
المعلومات المضللة عن القادة السياسيين، وذلك في خضم الانتخابات الحاسمة في الهند.
ووفقاً للتقرير، فإنه خلال الفترة ما بين 8 و13 مايو 2024، وافقت "ميتا" على (14) إعلاناً محرضاً على الكراهية.
وختاماً، يمكن القول إن هناك توجهاً من جانب بعض رؤساء الشركات التكنولوجية الكبرى نحو ممارسة دور أكبر في المجال الخارجي بهدف تحقيق أكبر قدر من الاستفادة لشركاتهم، وبصفة خاصة من جانب رجل الأعمال "إيلون ماسك"، وهو الأمر الذي ينطوي على العديد من التداعيات الخطيرة من خلال تسييس استخدام منصة (X) بشكل علني ومتعمد، ورسم مسارات موازية قد تؤثر بشكل أو بآخر على السياسة الخارجية الأمريكية. إلا أن الأمر قد يتم استخدامه على نطاق واسع، وبدرجة أعلى من التوافق في حال إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" لفترة رئاسية ثانية.
المراجع:
سارة
عبد العزيز سالم، 27.5.2024، تصاعد دور
شركات التكنولوجيا في السياسة الخارجية الأمريكية، انترريجونال للتحليلات السياسية.
ترجمة
للغة العربية، 6.5.2024، التكنولوجيا
وتحول السياسة الخارجية للولايات المتحدة، كلمة لوزير الخارجية الأمريكية. موقع
وزارة الخارجية الأمريكية.