اتخذ
مسار التصعيد الإسرائيلي تجاه الجبهة اللبنانية منعطفات جديدة خلال الأيام
الماضية، وخصوصًا خلال الـ 24 ساعة الماضية، وذلك على وقع انتفاء كل قواعد
الاشتباك بالنسبة لإسرائيل، والشروع في عمليات عسكرية هي الأوسع نطاقًا والأكثر
تدميرًا تجاه الأراضي اللبنانية منذ 8 أكتوبر 2023 وحتى اليوم، وهي العمليات التي
أطلق عليها الجيش الإسرائيلي اسم “سهام الشمال”، مما عكس أن الاحتلال الإسرائيلي
يعمل حاليًا وفق استراتيجية كبرى غير معلنة بدأت في غزة، ثم نقلت مركز الحرب نحو
الشمال، وربما تمتد لتشمل لاحقًا إيران، وفي ظل هذه التطورات المتسارعة تصاعدت
التساؤلات المرتبطة بالمدى والطبيعة المحتملة للعملية الإسرائيلية تجاه لبنان، وما
إن كان لبنان سيتحول إلى غزة ثانية، في إشارة إلى إعادة سيناريو الأرض المحروقة في
لبنان، وطبيعة وأنماط تعاطي حزب الله اللبناني مع هذا التصعيد الكبير، وكذا موقف
الجبهة الداخلية اللبنانية من هذا المسار، جنبًا إلى جنب مع موقف الأطراف الخارجية
الفاعلة والمنخرطة في الملف اللبناني، كلها أسئلة أصبحت تفرضها الضرورة، وتسهم في
بناء رؤية تجاه مسارات الأحداث المرتبطة بالعدوان الإسرائيلي على الأراضي
اللبنانية.
طبيعة
الأهداف الإسرائيلية
اعتمدت
إسرائيل خلال الأسبوع المنصرم على ما يمكن تسميته بـ “استراتيجية الصدمة”، بمعنى
توسيع دائرة العدوان والعمليات العسكرية بشكل يتجاوز حدود تقدير حزب الله اللبناني
لذلك، وبشكل يُحدث حالة من الإرباك الداخلي للحزب، وقد تجسد ذلك في مجموعة من
المؤشرات الرئيسية، ابتداءً من تفجيرات البيجر يومي 17 و18 سبتمبر، مروراً
بالاستهداف الذي حدث لأحد المباني بالضاحية الجنوبية لبيروت في 20 سبتمبر وبالوقوف
عند مجمل التطورات التي تشهدها الجبهة اللبنانية، وهذا التصعيد النوعي المتلاحق،
يبدو أن إسرائيل تسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسية:
-
إحداث حالة من الارتباك الداخلي لحزب الله: تسعى إسرائيل من خلال “استراتيجية
الصدمة” التي تبنتها خلال الأيام الماضية إلى تجاوز كافة التقديرات التي رسمها حزب
الله لمسار التصعيد الثنائي، خصوصًا في ضوء وقوف الحزب عند مقاربة “قواعد
الاشتباك”، وهي المقاربة التي تجاوزتها إسرائيل عمليًا وانتهت بالنسبة لها.
-
السعي لتغيير الواقع الأمني للحدود الشمالية: بتحليل الخطاب الإعلامي
الرسمي للمسئولين في الاحتلال الإسرائيلي، سوف نجد أن هناك مجموعة من الأهداف
الاستراتيجية والأمنية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها من جراء التصعيد النوعي الذي
حدث؛ وأولها: استنزاف قدرات حزب الله العسكرية، والقضاء على قدراتها القتالية، بما
يحيد تهديده نسبيًا. وثانيها: الدفع باتجاه تراجع حزب الله إلى ما وراء نهر
الليطاني. وثالثها: بناء منطقة عازلة جديدة على الحدود مع لبنان. ورابعها: الدفع
باتجاه عودة المواطنين الإسرائيليين تدريجيًا إلى المناطق الشمالية للأراضي
المحتلة. ويبدو أن إسرائيل وبعد فشل الجهود الدبلوماسية الرامية إلى الوصول
لتفاهمات بخصوص هذه الملفات.
-
التمهيد لعملية عسكرية تجاه لبنان: أحد الافتراضات المطروحة في إطار فهم طبيعة
الأهداف الإسرائيلية من جراء هذا التصعيد تتمثل في أن عمليات القصف الضخمة التي
تتم خصوصًا في مناطق الجنوب اللبناني تستهدف تهيئة منطقة الجنوب لعملية برية
إسرائيلية (ليس بالضرورة عملية اجتياح شامل
-
تدحرج كرة الثلج نحو الشمال: تزامنت حالة التصعيد العسكري الراهنة على الجبهة
الشمالية، مع مجموعة من المتغيرات المرتبطة بالجبهة الجنوبية أو جبهة قطاع غزة،
خصوصًا ما يتصل بتراجع وتيرة العمليات القتالية داخل القطاع، ومن هنا بدأت إسرائيل
في نقل كرة الثلج الخاصة بالحرب إلى فضاءات أخرى، وعلى رأسها جبهة الشمال، فضلًا
عن متغير مهم تمثل في إشارة تقارير عبرية إلى تنفيذ فرقة إسرائيلية خاصة لعملية
نوعية برية في سوريا ضد مجموعة تابعة لحزب الله اللبناني، في أواخر أغسطس الماضي
-
حسابات الجبهة الداخلية الإسرائيلية: لا يمكن فصل هذا التصعيد النوعي من قبل
إسرائيل تجاه لبنان، عن الحسابات الداخلية الخاصة بالائتلاف الحاكم في إسرائيل،
والحسابات الشخصية لبنيامين نتنياهو وليس من قبيل المبالغة القول إن “نتنياهو”
يسعى إلى توظيف هذه الحالة التصعيدية كغطاء لمواجهة الضغوط الداخلية
اتجاهات
الجبهة الداخلية اللبنانية
كانت
الحرب الدائرة بين حزب الله اللبناني وإسرائيل، مدخلاً للعديد من الأزمات الداخلية
في لبنان، وذلك على أكثر من مستوى، أولها أنها زادت من حدة الاستقطاب السياسي
والطائفي، وثانيها أنها دفعت باتجاه المزيد من التعطيل لبعض الاستحقاقات
المهمة وأبرزها الفراغ الرئاسي المستمر
منذ انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال عون في 31 أكتوبر 2022، وثالثها أن
التداعيات الأمنية والإنسانية الكبيرة لحالة التصعيد الراهن على الداخل اللبناني
المأزوم بالأساس، وقد بدأت مظاهر هذه الأزمات في التجلي من خلال موجات النزوح من
مناطق الجنوب اللبناني سواءً نحو العاصمة بيروت أو تجاه الأراضي السورية عبر معبري القصير (شرق لبنان) والدبوسية (شمال)
وعبر معبر المصنع الذي يربط بيروت بدمشق.
وفي
هذا الإطار يوجد حاجة إلى رصد اتجاهات ومواقف القوى اللبنانية من مسألة التصعيد
الراهن، على اعتبار أن الجبهة الداخلية تمثل معيارًا مهمًا لمآلات التطورات في
الفترات المقبلة، ويمكن في هذا الإطار التفرقة بين اتجاهين رئيسيين في الداخل
اللبناني:
-
الاتجاهات الموالية لحزب الله: كان هناك العديد من الاتجاهات اللبنانية، المؤيدة
لحزب الله في تصعيده ضد إسرائيل وانخراطه في تداعيات “طوفان الأقصى”، وتجسدت هذه
الاتجاهات بشكل رئيسي في البيئة الحاضنة للحزب خصوصًا في الضاحية الجنوبية لبيروت،
وحركة “أمل” الحليف السياسي للحزب، التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري، فضلًا
عن بعض القطاعات الدرزية، مما تجسد في حالة التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط،
فضلًا عن بعض القطاعات السنية ومنها “قوات الفجر” ودائرة الإفتاء اللبنانية وبعض
قواعد تيار المستقبل.
-
الاتجاهات الرافضة لمبدأ “وحدة الساحات”: في المقابل كان هناك اتجاه لبناني يُعبر
عن رفضه لحالة التصعيد الراهنة، ورفض مبدأ “وحدة الساحات” الذي تبناه حزب الله منذ
8 أكتوبر 2023، وعلى رأس هذه القوى أحزاب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع، وحزب
الكتائب اللبنانية برئاسة سامي الجميل، فضلًا عن التيار الوطني الحر بقيادة جبران
باسيل والذي كان متحالفًا مع حزب الله من قبل، لكن تصريحات مسئولي التيار كانت
تؤكد دائمًا على “رفض مبدأ وحدة الساحات والتصعيد في الجنوب”، وأن “لبنان غير
مرتبط بمعاهدة دفاع مع غزة”وفق ما صرح الرئيس الأسبق والزعيم الروحي للتيار العماد
ميشال عون.
وفي
هذا السياق يمكن إبداء مجموعة من الملاحظات الرئيسية بخصوص موقف الجبهة الداخلية
اللبنانية تجاه انخراط حزب الله في التصعيد الراهن، وذلك على النحو التالي:
كانت
الجبهة الداخلية اللبنانية أحد العوامل والمحددات الرئيسية التي قيدت تحركات الحزب
على مستوى التصعيد ضد إسرائيل منذ 8 أكتوبر وحتى اليوم، والتزامه بما أطلق عليه
“قواعد الاشتباك
أدى
التصعيد الراهن بين حزب الله وإسرائيل إلى تغيرات نسبية على خريطة التحالفات
الداخلية الخاصة بحزب الله اللبناني؛ إذ إن الحرب دفعت من جانب بشكل كبير إلى
زيادة حجم التقارب بين حزب الله مع الظهير السني، خصوصًا بعد انخراط الجماعة
الإسلامية ممثلة في قوات الفجر في إطار التصعيد
أدت
الحرب الجارية عمليًا إلى تعميق الفجوة بين الحزب وبين المكونات السياسية المسيحية
في لبنان وبعيدًا عن كون مسألة الاستقطاب السياسي كانت السمة التقليدية للعلاقات
بين الحزب وكلٍ من القوات والكتائب اللبنانية، إلا أن الحرب دفعت باتجاه زيادة
الفجوة بين حزب الله وبين حليفه المسيحي خلال الفترة من 2006 “اتفاق مار مخايل”،
وحتى اليوم ممثلًا في التيار الوطني الحر
مواقف
الأطراف الخارجية الفاعلة في لبنان
بشكل
عام يوجد العديد من الأطراف الخارجية المؤثرة بشكل كبير في الملف اللبناني
والفاعلة به، بما يعني أن استقراء مواقف وحسابات هذه الأطراف تجاه التصعيد الراهن،
يعد أمرًا مهمًا على مستوى استقراء المشهد خلال الفترات المقبلة، وفي هذا السياق
يوجد مجموعة من الاتجاهات الرئيسية للتعامل مع التصعيد الراهن، وذلك على النحو
التالي:
-
الموقف الغربي من التصعيد في لبنان: ويُقصد بالموقف الغربي الموقف الأمريكي
الأوروبي (خصوصًا الفرنسي) على وجه التحديد، على اعتبار الارتباط الكبير لهذا
المحور بالعديد من المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية في لبنان، خصوصًا في ضوء
مجموعة من الاعتبارات الرئيسية التي تفرض على هذا المحور الانخراط بفاعلية في إطار
تطورات الجبهة اللبنانية.
-
إيران ومتلازمة “التراجع التكتيكي”: كانت تصريحات المرشد الأعلى الإيراني على
خامنئي في منتصف أغسطس الماضي ()، تعبيرًا في أحد أبعادها عن الاستراتيجية
الإيرانية تجاه “الرد الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية” واستهداف إسرائيل لعمق
طهران، وكذا الموقف الإيراني من التصعيد الواسع ضد حزب الله، حيث أشار “خامنئي”
إلى أن “التراجع أمام الأعداء في بعض الأوقات قد يكون تكتيكيًا، وقد يكون تطويرًا
لتكتيك ما، ولا حرج في ذلك” وفق تعبيره.
-
الموقف العربي من التصعيد على الجبهة اللبنانية: تظل الدول العربية خصوصًا مصر
والسعودية والإمارات تحظى بهامش حضور كبير في إطار التصعيد الذي تشهده الجبهة
اللبنانية، حتى وإن كان ذلك بوتيرة أقل من تأثير الجانبين الغربي والإيراني، إما
لجهة العلاقات الكبيرة التي تربط الدول العربية بالأطراف الغربية، أو لجهة الحضور
العربي القوي في إطار التفاعلات الداخلية اللبنانية، ويوجد ما يشبه الإجماع لدى
الدول العربية على بعض الأولويات الرئيسية، وفي القلب منها ضرورة تجنب سيناريو
التصعيد الشامل بين حزب الله اللبناني وإسرائيل، وضرورة وقف إطلاق النار في قطاع
غزة بما يضمن وقف حالة التصعيد الإقليمي الراهنة
من
خلال كل ما سبق و في ضوء استقراء كل الاعتبارات والسياقات السالف ذكرها، يبدو أن
تطورات الجبهة اللبنانية، سوف تكون محكومة بأحد السيناريوهات التالية خلال الأيام
المقبلة:
-
المواجهات البرية المحدودة: ويُقصد بهذا السيناريو أن تكون الضربات الجوية
الإسرائيلية العنيفة الأخيرة على لبنان، تمهيدًا لعملية برية ستجري في الأيام
المقبلة، على أن تكون هذه العملية محدودة النطاق، ويبدو أن إسرائيل تركز حاليًا
على تكبيد حزب الله خسائر موجعة خصوصًا على مستوى الصف القيادي له، وعلى قواعد
الصف الثالث، جنبًا إلى جنب مع البنى التحتية الخاصة بالحزب، وبناءً عليه سوف
تُحدد أولويات تحركها على المستوى البري.
-
سيناريو المواجهات الشاملة: ويعد هذا السيناريو هو الأكثر تشاؤمًا، فرغم استبعاده
بنسبة كبيرة بفعل تداعياته وتكلفته الكبيرة بالنسبة للجانبين، فإنه يظل مطروحًا
كأحد السيناريوهات، خصوصًا مع الاعتداءات الإسرائيلية المتنامية والتي خرقت كل
قواعد الاشتباك، جنبًا إلى جنب مع دفع الائتلاف الحكومي في إسرائيل باتجاهه، ورغبة
إسرائيل في فرض واقع أمني جديد على حدوده الشمالية، وهو الأمر الذي سيفرض الحزب
التعامل بمقتضيات وأنماط تحرك جديدة، وصفها الأمين العام لحزب الله بأنها ستكون
“غير خاضعة لأي قواعد، وحيفا وما بعد حيفا”.
-
استمرار نمط التصعيد التدريجي: يفترض هذا السيناريو استمرار الطرفين في تبني أنماط
من التعصيد تتجاوز أي قواعد اشتباك كان معمولًا بها منذ 8 أكتوبر 2023، مع الحفاظ
على عدم الوصول إلى مرحلة المواجهة الشاملة، ويدعم فرص هذا السيناريو العديد من
الاعتبارات؛ أولها: حفاظ حزب الله حتى اللحظة على العمل وفق قواعد اشتباك رسمها
لنفسه. وثانيها: ما يبدو أنه مباحثات غير معلنة تجري بين طهران وبين الولايات
المتحدة بخصوص الجبهة اللبنانية، واحتمالية تقديم إيران بعض التنازلات التي تضمن
عدم الوصول إلى نقطة الانفجار. وثالثها: الرغبة الغربية في عدم الوصول إلى سيناريو
الحرب الشاملة.
إجمالًا
يمكن القول إن مآلات التصعيد في الجبهة اللبنانية، تظل غير معلومة، في ضوء حالة
السيولة التي تطغى على تفاعلاتها، وتحرر هذه الجبهة تدريجيًا من كافة الأطر
والمحددات والقواعد التي كانت حاكمة لها، لكن وبشكل عام سوف يكون مدى التصعيد الذي
تشهده الجبهة اللبنانية مرتبطًا بمجموعة من المحددات الرئيسية؛ ومنها حدود رد فعل
حزب الله على الاستهدافات الأخيرة للأراضي اللبنانية، ومآلات المباحثات الإيرانية
مع بعض الأطراف الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وكذا طبيعة التفاهمات التي
قد تتم بخصوص البيئة الأمنية في منطقة الحدود اللبنانية مع الأراضي الإسرائيلية؛
إذ إن إسرائيل تحاول تخيير حزب الله بين أمرين؛ فإما أن يتم فك الارتباط بين
الجبهة الشمالية والحرب في قطاع غزة واتخاذ ضمانات لعودة المستوطنين إلى مناطق
الشمال، وانسحاب مقاتلي الحزب إلى شمال نهر الليطاني، وإما أن يتم الذهاب نحو
مواجهة شاملة، ويظل سيناريو التراجع التكتيكي من الحزب مطروحًا في هذه الثنايا،
بالقدر الذي يُطرح به سيناريو استمرار حالة التصعيد.
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات
الاستراتيجية
الكاتب : محمد فوزي
التاريخ : 24/9/2024