الحسابات الإسرائيلية واتجاهات التصعيد الإقليمي
فرع القاهرة

 

 

يتصاعد في الوقت الراهن الحديث عن اتجاه إسرائيل إلى تصعيد الجبهة الشمالية، خاصة في ظل العمليات الأخيرة التي أجرتها، حيث تتدفق تصريحات المسئولين الإسرائيليين على المستوى السياسي والعسكري بأن هذه المواجهة باتت وشيكة وضرورية، على نحو سيكون له انعكاساته على مسارات التصعيد الإقليمي بيد أن الوقوف على أبعاد وحدود هذا التصعيد من ناحية ما إذا كنا نتحدث عن تصعيد محسوب في إطار مساحات الضغط بين الجانبين لتثبيت قواعد للردع يتم بموجبها تحييد أثر الجبهة الشمالية في الضغط على تل أبيب في إطار الحرب ضد قطاع غزة، أو الذهاب لمواجهة شاملة ستكون تداعياتها وخيمة على استقرار المنطقة بأكملها، على نحو يتطلب فهمًا لمتغيرات السياق الراهن على المستويات المختلفة لبيان حدود هذا التصعيد ومساراته المحتملة.

حسابات الموقف الإسرائيلي

تتقيد تل أبيب في اللحظة الراهنة بجملة من الحسابات المعقدة الخاصة بالتصعيد ضد الجبهة الشمالية، وذلك ارتباطًا بمجموعة من الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية التي تسعى إلى تحقيقها في ضوء المعطيات المتشكلة في الوقت الراهن، وهو ما يمكن إجماله على النحو التالي:

- إعادة ترميم معادلة الردع الإقليمي: تجد تل أبيب في بيئة التصعيد الحالية في المنطقة على وقع الحرب ضد قطاع غزة فرصة لإعادة تشكيل واقع حدودها المشتركة مع دول ما عُرفت بـ “محور المقاومة” أو “الهلال الشيعي”، وخاصة الحدود الشمالية مع لبنان، وذلك في محاولة لتقويض النفوذ الإيراني في المحيط الحيوي لها وتقليص هامش المناورة لطهران في مواجهة الضغوط الغربية ضد مصالحها خاصة فيما يتعلق بتعزيز قدراتها النووية والوصول إلى معادلة “الردع النووي”.

- تحييد أثر مبدأ “وحدة الساحات” في المواجهات المستقبليةتعمل تل أبيب في إطار استراتيجيتها العامة والدروس المستفادة من الحرب متعددة الجبهات التي تشهدها في الوقت الراهن إلى اتخاذ خطوات جذرية لتحييد آثار مبدأ “وحدة الساحات” في أي مواجهات مستقبلية، وهو ما ثبتت فاعليته بشكل أو بآخر خلال الحرب الجارية في فرض مزيد من الضغط والاستنزاف ضد القوة الإسرائيلية.

- توحيد الجبهة الداخلية وتخفيف الضغوط: توفر هذه الأهداف السابقة مظلة لشرعية الفعل (فتح الجبهة الشمالية) على مستوى الداخل الإسرائيلي بالنسبة للأهداف التكتيكية الناشئة في الوقت الراهن الخاصة بحسابات المستوى السياسي، والمرتبطة بتخفيف الضغوط الداخلية التي يواجهها الائتلاف الحكومي للذهاب إلى صفقة تفاوض تقود إلى وقف كامل لإطلاق النار في قطاع غزة.

 

 

معوقات تطبيق الرؤية الإسرائيلية

رغم كون هذه الأهداف السابقة يتوفر لها بعض مُهيآت السياق التي تساعد تل أبيب على المضي قدمًا في تحقيقها على النحو المُشار إليه سلفًا، بيد أنها تضمر بين ثناياها بعض المعوقات التي تشكل قيدًا على تطبيقها بشكل آني، بحيث يتم العمل على تحقيقها بشكل مرحلي تدريجي، ومن أبرز هذه المعوقات التالي:

القدرة التشغيلية المتراجعة للجيش الإسرائيلي: يعاني الجيش الإسرائيلي في الوقت الراهن من تراجع ملحوظ في قدراته التشغيلية نظرًا لانخراطه في عدة جبهات مواجهة (قطاع غزة – الضفة الغربية – سوريا – لبنان – اليمن)، وهو ما يجعله -بحسب ما يتدفق من تقارير إسرائيلية– يعاني من تراجع في أعداد القوات المطلوبة للإبقاء على حالة الجاهزية لتطوير المواجهة وفتح جبهة جديدة على الشمال.

غياب شرعية الفعل للتصعيد الواسع: يواجه الموقف الإسرائيلي غياب أحد أهم عناصر تطوير المواجهة والانتقال من قواعد الاشتباك المحددة بنطاق إدارة الردع بين الجانبين، إلى المواجهة الشاملة التي تتطلب دعمًا غربيًا على المستوى السياسي في المؤسسات الدولية، وكذلك على مستوى الدعم العسكري اللوجستي.

تعقيدات السياق الإقليمي: تفرض البيئة الإقليمية في اللحظة الراهنة درجة من عدم اليقين لدى الوحدات الإقليمية الفاعلة بشأن نظام الأمن الإقليمي، وذلك نتيجة الحرب الإسرائيلية التي تقوم بها ضد قطاع غزة، والتي كانت لها ارتدادتها السلبية على الاستقرار الإقليمي، وتهديد مصالح العديد من الدول.

حسابات الموقف (الأمريكي – الأوروبي): تفرض معطيات السياق الراهن حسابات دقيقة للموقف الغربي بشقيه (الأمريكي – الأوروبي) فيما يتعلق بتصعيد الحرب على الجبهة الشمالية، فإذا نظرنا للموقف الأمريكي، نجد أن هناك بعض الاعتبارات الحاكمة في الوقت الراهن، من أبرزها:

(1) سياق الانتخابات الرئاسية التي يفصلنا عنها أقل من شهرين، والتي تشكل بدورها قيدًا على الإدارة الحالية ما بين الحفاظ على مستويات الدعم الواسع لتل أبيب من ناحية. ومن ناحية أخرى، منع انزلاق التصعيد إلى حرب واسعة ستكون لها آثار سلبية في فرص وحظوظ المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس، حيث من شأن هذا التصعيد أن يعزز من حظوظ المرشح الجمهوري دونالد ترامب.

(2) تأثير تصاعد التوترات الإقليميةخلال الفترة الماضية والتي استوجبت شكلًا من التحشدات العسكرية الواسعة للولايات المتحدة الأمريكية وشركائها الأوروبيين بالمنطقة، على عمليات انتشارها الجغرافي الواسع من الناحية الجيوسياسية في إطار استراتيجيتها الكبرى لموازنة الخصوم في مناطق الإندوباسيفيك، على نحو تسبب في إحداث فجوة حرجة في غرب المحيط الهادئ، وذلك وفقًا للتقارير المُشار إليها سلفًا.

(3) تزايد القلق لدى واشنطن بشأن اتساع الحركة المستقلة نسبيًا لبعض الحلفاء بالمنطقة لتأمين وحماية مصالحها بمعزل عن مظلة الحماية الأمريكية التقليدية نتيجة حالة عدم اليقين المتولدة في الوقت الراهن ارتباطًا باتساع رقعة الصراع واحتدام التنافس بين القوى الإقليمية والدولية في مناطق الصراع بالمنطقة.

 

 

سيناريوهات ومسارات التصعيد المحتملة

عكست المعطيات السابقة للسياق الراهن، جملة من التعقيدات والمحددات التي ستكون حاكمة لمواقف أطراف الأزمة بشأن سيناريوهات ومسارات التصعيد المحتملة، التي يمكن إجمالها على النحو التالي:

إدارة التصعيد في إطار المناطق الرمادية (Gray Zones) دون الحرب الشاملة: ظل هذا السيناريو حاكمًا للتصعيد المتبادل بين الجانبين خلال الفترة الماضية؛ نظرًا للتكلفة المرتفعة بالتدمير والأضرار المتبادلة بين الطرفين في حال إذا ما تم الذهاب لسيناريوهات تصعيد أخرى. لذا عمل الطرفان على إدارة التصعيد في إطار المناطق الرمادية دون الحرب الشاملة، والتي يتخللها بعض الاستهدفات النوعية التي يتعمدها بدرجة أكبر الجانب الإسرائيلي سواء على مستوى الأصول العسكرية أو القيادات لإضعاف قدرات الردع لدى الحزب.

التصعيد الإسرائيلي بجولة حرب خاطفة: تعكس عدد من المؤشرات إلى توجه إسرائيل نحو مرحلة جديدة من التصعيد قد تدفعها نحو القيام بجولة تصعيد خاطفة ليست على المستوى المحدود النطاق في إطار المناوشات التي تقوم بها بشكل شبه يومي.

توسيع رقعة التصعيد إلى مواجهة شاملة: يعد هذا السيناريو الأكثر تشاؤمًا، إلا أنه يظل قائمًا في ظل سيولة المشهد الراهن بشأن مواقف أطراف الأزمة وضيق مساحات المسار السياسي لصالح العمل العسكري وفق السيناريو السابق الذي يدعمه الائتلاف الحكومي الإسرائيلي.

ختامًا، يمكن القول إن حالة عدم اليقين التي تعتري مشهد التصعيد الراهن، خاصة فيما يتعلق بمواقف أطراف النزاع، تجعل مسارات التصعيد المحتملة مفتوحة على كافة السيناريوهات السابقة، إلا أن المؤكد واليقيني في مواقف هذه الأطراف هو الإدراك المتزايد لديها بفداحة الخسائر المتوقعة التي سيُمنى بها كل طرف؛ وهو ما تعوّل عليه الأطراف الدولية والإقليمية في الوقت الراهن بحيث يكون ذلك هو الرادع للذهاب إلى سيناريو التصعيد الشامل الصفري، وأن يُغلّب مبدأ الرشادة والعقلانية في اتخاذ قرارات مصيرية سيكون لها تداعياتها الكارثية، ليس فقط على أطراف النزاع ولكن على استقرار المنطقة بأكملها.



 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : مهاب عادل

التاريخ : 23/9/2024

 

 

المقالات الأخيرة