أعلن
الحرس الوطني التونسي أن أكثر من 14 ألف مهاجر غير نظامي معظمهم من إفريقيا جنوب
الصحراء، تم اعتراضهم أو إنقاذهم في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري قاصدين
المدن الساحلية التونسية كمحطة عبور وبوابة نهائية نحو أوروبا ولاسيما لامبيدوزا
الإيطالية.
تُعد
الأرقام المعلنة أكبر بخمسة أضعاف من تلك المسجّلة في الفترة نفسها من العام
الماضي. الأمر الذي أشعل أزمة سياسية على الجانبين في الداخل التونسي وعلى مستوى
الاتحاد الأوروبي. وهو ما أدى إلى تسليط الضوء مرة أخرى على ملف موجات الهجرة غير
النظامية واللجوء عبر القوارب المطاطية، وطرح تساؤلات مختلفة حول الجوانب
القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى رأسها الجوانب الإنسانية لهذا
الملف المعقد الذي لن يُحل في المستقبل القريب طالما أن الأسباب المؤدية للهجرة
غير النظامية واللجوء ما زالت حاضرة بقوة في الدول المُصدرة لهذه الموجات
اللانهائية. وفي هذا الإطار، يتناول هذا التحليل التأثيرات الهيكلية لظاهرة الهجرة
غير النظامية على دول العبور وكيف أثارت أزمات سياسية واقتصادية اجتماعية في
الداخل المجتمعي ومع سلطات دول العبور ذاتها؟ وكيف تعاطى الاتحاد الأوروبي مع تلك
الظاهرة؟
أزمة
صفاقس الساحلية
في
الثالث من يوليو 2023، قُتل شاب تونسي على يد أحد المهاجرين غير النظاميين في
ولاية القصرين بتونس طعناً إثر مشاحنات بينهما، وهو ما أشعل العديد من الاحتجاجات
من قِبل السكان المحليين، رافعين شعارات تطالب بطرد المهاجرين غير النظاميين من
تونس، وانتشرت هذه الاحتجاجات في مدن ساحلية عديدة من بينها مدينة صفاقس وعدد من
الأحياء المحلية الأخرى. وتصاعدت وتيرة الاحتجاجات على نحو هدد بمخاطر أمنية
داخلية على المجتمع التونسي، خاصة مع زيادة الصدامات بين السكان المحليين بمدينة
صفاقس ومدن ساحلية أخرى من جانب، والمهاجرين غير النظاميين القادمين من إفريقيا
جنوب الصحراء من جانب آخر.
في
الوقت نفسه، عكست روايات الجانبين، السكان المحليين والمهاجرين الأفارقة، حالة
احتقان واضحة تُنذر بحتمية سوء الوضع الحالي والمستقبلي. فروايات الجانب المحلي
التونسي تشي بتخوفه من أن ثمة وضعاً خطراً وحرجاً على أوضاعه الاقتصادية التي هي
بالأساس متأزمة، بالإضافة إلى الخطر الأمني الذي يشكله المهاجرون الأفارقة على
المجتمع التونسي. بينما يرى مجتمع المهاجرين الأفارقة غير النظاميين في هذا المشهد
صورة واضحة من العنف والعنصرية ضده، خاصة مع تأكيده أنه يتخذ تونس كمعبر دون وجود
نيات للمكوث فيها لأن الوضع الاقتصادي بها لن يساعده على الخروج من أزماته التي
دفعت به إلى هذا الوضع المزري. وأشار المهاجرون الأفارقة إلى أنهم منذ وصولهم إلى
تونس عبر منافذ عدة سواءً من ليبيا أو الجزائر أو حتى من النيجر، واجهو العديد من
مظاهر العنف والعنصرية والتعرض لضغوط اقتصادية ومجتمعية وبيروقراطية عدة.
كما تعرض العديد منهم، على حسب رواياتهم، إلى
عمليات إجلاء قسرية من السلطات التونسية نحو معبر رأس جدير الحدودي مع ليبيا
لترحيلهم نهائياً من تونس نحو ليبيا أو تركهم في الصحاري الواقعة بين ليبيا
والجزائر والنيجر ليواجهوا مصيراً غير معلوم هناك من موت أو التجنيد القسري من قبل
شبكات الجريمة المنظمة والتجارة غير الشرعية، المنتشرة في منطقة الساحل الإفريقي،
التي تعمل في التهريب والمخدرات والسلاح وتجارة الأعضاء وغيرها من أنماط الجريمة
المنتشرة في تلك المنطقة.
وعلى
مستوى منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال اللجوء والهجرة، رصد العديد منها أن
هناك تزايداً مُضاعفاً منذ بداية العام الجاري في حجم موجات الهجرة غير النظامية
من مختلف البلدان الإفريقية في منطقة الساحل وجنوب الصحراء خصوصاً من نيجيريا،
ومالي، وغامبيا، وتشاد، وغيرها إلى شمال إفريقيا. ومن ناحية أخرى، جاء بيان من
المتحدّث الرسمي باسم الإدارة العامة للحرس الوطني التونسي بأن "الوحدات
العائمة التابعة للأقاليم البحرية للحرس الوطني بالوسط، والساحل، والشمال والجنوب
تمكّنت خلال الفترة الممتدة بين يناير إلى مارس 2023 من إحباط أكثر من 500 عملية
اجتياز للحدود البحرية خلسة ونجدة وإنقاذ أكثر من 14400 مجتاز من بينهم ما يفوق
13000 من جنسيات إفريقيا جنوب الصحراء"، وأشار المتحدّث في بيانه إلى أنّ
البقية هم تونسيون.
في
هذا السياق، تحولت مدينة صفاقس الساحلية خلال الثلاثة أشهر الماضية إلى أكبر نقطة
لتجمع المهاجرين غير النظاميين الأفارقة إلى أوروبا. وعلى إثر ذلك، تعرضت حكومة
نجلاء بودن إلى العديد من الانتقادات من السكان المحليين وكانت ذروتها الاحتجاجات
الواسعة التي شهدتها المدن التونسية التي طالبت بضرورة اتخاذ إجراءات، وحلول سريعة
للتصدي لظاهرة الهجرة غير النظامية.
وعليه،
صرحت السلطات الرسمية التونسية بعدم قبول الوضع الراهن، وأن تونس لن تكون دولة
عبور أو أرضاً لتوطين الوافدين عليها وأنه من الواجب قانونياً حماية الحدود
التونسية، كما وصفت السلطات موجات الهجرة غير النظامية أنها مؤامرة لتغيير
التركيبة الديمغرافية لتونس والشرارة الأولى لأعمال عنف وتخريب مفتوحة النهاية.
رغم
ذلك، لم تتوقف موجات الهجرة غير النظامية عبر تونس بعد، حيث سجلت الإدارات الجهوية
التابعة لوزارة الصحة في صفاقس أن المدينة شيدت منطقة مقابر خاصة لضحايا الهجرة
غير النظامية الغارقين في المتوسط، ففي خلال الأشهر القليلة الماضية دفنت صفاقس
أكثر من 600 جثة لقيت مصرعها في المتوسط وقذفتها الأمواج إلى سواحل المدينة التي
صارت تشتكي من الضغط على مشارح مستشفياتها، التي تجاوزت الحد الأقصى لقدراتها الاستيعابية
للاحتفاظ بالموتى، وهو ما يكشف عن استمرار الأزمة، وأن صفاقس لن تحل ظاهرة الهجرة
غير النظامية في المستقبل القريب، وإنما تسير الأمور نحو تداعيات وآثار أكثر
تعقيداً.
مسؤولية
دول العبور!
ظهر
في تونس اتجاهان للتعامل مع ظاهرة الهجرة غير النظامية، تمثل الأول في الاتجاه
الإنساني الذي تبناه الحقوقيون والنشطاء في مجال اللجوء والهجرة، حيث حاججوا بأن
الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإنسانية الضاغطة على مواطني الساحل
وجنوب الصحراء هي المسبب الأول لتلك الموجات اللانهائية. وأن من يدفع الثمن
بالأخير هم هؤلاء المهاجرون غير النظاميين أنفسهم، وبالطريق تتورط تونس كدولة عبور
ما يحملها أعباءً إضافية داخلية، فضلاً عن المسؤوليات الملقاة على عاتقها من
المستوى الإقليمي الأوسع مع دول الجوار الليبي والجزائري من جانب والمستوى
الأوروبي من جانب آخر.
أما
الاتجاه الثاني فقد تبنته سلطة قرطاج والحكومة الحالية، بعد تصريحات وزارة
الداخلية الإيطالية التى أعلنت عن وصول أكثر من 15 ألف مهاجر عبر المتوسط إلى
إيطاليا منذ مطلع العام، حيث عزت تلك الأرقام إلى نقص التنسيق مع دول العبور،
ولاسيما تونس، لوضع سياسات تحد من موجات الهجرة غير النظامية وتنظم إجراءات العودة
وإعادة التوطين "Return
and Repatriation Policies"
إلى الدول الأم. فعلى إثر تلك التصريحات التي ألقت بالمسؤولية على كاهل الدولة
التونسية، ندّد الرئيس التونسي في نهاية فبراير الماضي بوصول "موجات من
المهاجرين غير القانونيين" إلى تونس من دول إفريقيا جنوب الصحراء، ومنذ
خطابه، أعيد مئات المهاجرين من تونس إلى دولهم في رحلات نظمتها سفاراتهم. وأشار
كثير منهم إلى مخاوفهم من العودة إلى البلد الأم، ودعوا الأمم المتحدة إلى تنظيم
رحلات إجلاء إلى بلدان أخرى آمنة.
في
المقابل، تنحصر رؤية الاتحاد الأوروبي للهجرة غير النظامية في إطارها الأمني فقط،
ورأت أن الظاهرة وتداعياتها على دول العبور مسؤولية تلك الدول بالأساس، وأن أي
اضطرابات داخلية أو تداعيات اجتماعية واقتصادية أو سياسية وأمنية تتحملها بلدان
العبور فقط.
في
هذا الإطار، تم عقد اتفاق "الشراكة الاستراتيجية والشاملة" بين الاتحاد
الأوروبي وتونس، وأصرت تونس على وضع قضايا الهجرة غير النظامية ضمن بنود الاتفاق
التي تم توقيعها في 16 يوليو 2023، بتونس. وهدف الاتفاق إلى مكافحة عصابات تهريب
البشر، والحد من التدفق الكبير للمهاجرين من سواحل تونس، والتعاون في مجال تسريع
عمليات الترحيل. في المقابل، يتضمن الاتفاق مساعدة لتونس بقيمة 105 ملايين يورو
لمكافحة الهجرة غير النظامية، إضافة إلى 150 مليون يورو لدعم ميزانية البلد الذي
يعاني من ديون تناهز 80% من ناتجه المحلّي الإجمالي ويواجه نقصاً في السيولة.
أما
على مستوى الداخل التونسي، واجه الاتفاق تحفظات كبيرة من فواعل سياسية ومنظمات
حقوقية في تونس. فعلى سبيل المثال، طالب "الاتحاد العام التونسي للشغل"
بالشفافية حول بنود الاتفاق وبضرورة عرضه على الاستفتاء العام؛ باعتبار أن تلك
القروض المُقدمة هي التزامات وضغوط على أجيال قادمة. كما رأى عدد من المنظمات
الحقوقية أن "تسريع عمليات الترحيل" انتهاك واضح لقوانين اللجوء التي من
المفروض أنها قائمة على مقاربات إنسانية في المقام الأول، ويجب ألا تخضع للرؤية
الأوروبية التي تضع أمنها في المقام الأول.
دول
مصدرة أيضاً
كشفت
قوات حرس الحدود الليبية مخازن سرية لمهربي البشر، حَوَت أكثر من 12 ألف مهاجر غير
نظامي من جنسيات آسيوية وإفريقية مختلفة، فروا إلى ليبيا كمحطة عبور نحو أوروبا.
أعقب ذلك عمليات ترحيل جماعية كثيفة عبر منفذ منطقة مساعد الحدودية.
لم
تكن دول شمال إفريقيا منطقة عبور فقط، إنما تُصدر هي الأخرى أعداداً متزايدة من
المهاجرين غير النظاميين. ففي العامين الماضيين، وضعت العديد من التحقيقات الصحفية
والإعلامية تقارير وتساؤلات حول مستقبل منطقة شمال إفريقيا مع ظاهرة الهجرة غير
النظامية واللاجئين عبر القوارب المطاطية من خلال المتوسط إلى أوروبا. وأقرت تلك
التقارير أن منطقة شمال إفريقيا لم تعد فقط من أكبر مناطق العبور للمهاجرين غير
النظاميين فحسب بل كانت جنسيات دول شمال إفريقيا الأكثر هجرة بشكل غير نظامي.
وقد
أصبحت ليبيا ضحية لهذه الظاهرة بسبب ما تواجهه من مشاكل جراء كثافة تدفق المهاجرين
عبر حدودها الأفريقية والشمالية المتمثلة في دول الاتحاد الأوروبي حيث تتم إعادة
المهاجرين من عرض البحر إلى الشواطئ الليبية. لذا نطالب دول الاتحاد الأوروبي
بتحمل مسؤولياتهم الأخلاقية بسبب إغلاق أبوابها أمام المهاجرين وإعادتهم إلى ليبيا،
فعلى الجميع العمل من أجل معالجة هذه المعضلة المعقدة وذلك من خلال معرفة مفصلة
لأسبابها، وهي باختصار: سياسية كعدم استقرار بلدان المصدر أو أسباب اقتصادية
كالفقر. ولمعالجة المشكلة يجب إزالة الأسباب أو التقليل منها وبالتالي على الدول
الأوروبية دعم الدول الفقيرة بإقامة مشاريع تنموية في بلدان دول المصدر للحد من
ظاهرة الهجرة.
على
الجانب الآخر، لم تخل المغرب هي الأخرى من موجات الهجرة غير النظامية، ففي العامين
الماضيين أعلنت وثيقة من المفوضية الأوروبية أن المغرب سجلت بعد جائحة
"كورونا" تزايد أعداد المهاجرين غير النظاميين. وقد تعاملت السلطات
الإسبانية مع تلك الموجات بموجات ترحيل مضادة. ولم يختلف الوضع كثيراً بالنسبة
للجزائر أيضاً.
ختاماً،
ربما جاءت أحداث العنف الأخيرة في صفاقس للتنبيه على ضرورة إعادة النظر في ملف
الهجرة غير النظامية واللجوء بشكل حاسم وطرح مقاربات وحلول للحد من حتميات الصدام
والعنف بين المجتمعات المحلية ومجتمع المهاجرين غير النظاميين في دول شمال إفريقيا
كدول عبور في المقام الأول. فمع تصاعد الأزمات الاقتصادية والنزاعات المسلحة نتيجة
التغيرات المناخية ونقص الغذاء والطاقة، خاصة في دول الساحل وجنوب الصحراء، من
المتوقع أن يشهد العالم طوفاناً من موجات جديدة من الهجرة غير النظامية إلى
الشمال.
المراجع:
ماهيتاب
علي ،14.8.2024، أزمة دول العبور للهجرة غير النظامية.. هل يحلها التمويل؟،مركز المستقبل.
ب،
ن ،9.10.2021، 12 دولة من
الاتحاد الأوروبي تطلب تمويل بناء حواجز على حدودها لمنع دخول المهاجرين، الجزيرة نت.