على
مدار عقود، كانت وكالة الاستخبارات المركزية واحدة من الفاعلين الرئيسيين في صنع
السياسة الأمريكية، من خلال قدرة الوكالة على مراقبة التهديدات المختلفة، ومحاولة
التعاطي مع خصوم واشنطن، والقيام بعمليات الإنذار المبكر والتنبؤ بأي مخاطر تواجه
الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن الأدوار التي اضطلعت بها الوكالة، استدعت معها
إشكاليات عديدة، قد يكون أهمها الشكوك حول كفاءتها، لا سيما مع عدم قدرتها على
استباق بعض التهديدات التي واجهتها الولايات المتحدة، وفي مقدمتها هجمات 11 سبتمبر التي كشفت عن عجز استخباراتي وأمني كبير للمؤسسات
الأمريكية، ناهيك عن التحديات المتعلقة بالهيكل الداخلي للوكالة والقدرات البشرية
للعناصر الاستخباراتية. وهذه الإشكاليات أفضت إلى تصاعد المطالب بضرورة تطوير عمل
أجهزة الاستخبارات وتعزيز كفاءتها.
وفي
هذا الصدد، نشرت مجلة "فورين أفيرز"، في 30 يناير 2024، مقالاً مهماً لـ"وليام بيرنز"
مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إيه"؛ وذلك بعنوان
"فن التجسس وفن الحكم: تحويل وكالة المخابرات المركزية لعصر المنافسة"؛
إذ أكد بيرنز أن التجسس كان وسيظل جزءاً لا يتجزأ من فن الحكم، حتى مع تطور
تقنياته باستمرار. ويرى بيرنز أن الاختبار الدقيق للاستخبارات كان دائماً يتلخص في
التوقع الصحيح ومساعدة صناع السياسات على اجتياز التحولات العميقة في المشهد
الدولي، واللحظات النادرة التي لا تأتي إلا بضع مرات في كل قرن. واعتبر بيرنز أن
الولايات المتحدة تشهد اليوم واحدة من تلك اللحظات النادرة، التي لا تقل أهميةً عن
فجر الحرب الباردة أو فترة ما بعد 11 سبتمبر؛ إذ يفرض صعود الصين والنزعة
الانتقامية الروسية تحديات جيوسياسية هائلة في عالم يتسم بالمنافسة الاستراتيجية
الشديدة؛ حيث لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بأولوية لا تقبل المنافسة، وحيث
تتصاعد التهديدات المناخية الوجودية. ومما يزيد الأمور تعقيداً حدوث تطورات
تكنولوجية أكثر شمولاً من الثورة الصناعية أو بداية العصر النووي. ومن نواحٍ
عديدة، تجعل هذه التطورات مهمة وكالة المخابرات المركزية أكثر صعوبةً من أي وقت
مضى؛ ما يتطلب ضرورة التكيف معها. ومع ذلك، يرى بيرنز أنه بقدر ما يتغير العالم،
يظل التجسس تفاعلاً بين البشر والتكنولوجيا.
ويكتسب
المقال أهميته من الخبرات التي يمتلكها الكاتب؛ فهو مدير وكالة الاستخبارات
المركزية الأمريكية منذ عام 2021، وقد شغل سابقاً منصب رئيس مؤسسة كارنيجي
للسلام الدولي، وهو أيضاً دبلوماسي سابق، ونائب سابق لوزير الخارجية الأمريكي (2011–2014). تقاعد السفير بيرنز من وزارة الخارجية في 2014، بعد عملٍ دبلوماسي دام أكثر من ثلاثين عاماً، وهو يحتل أعلى رتبة
في السلك الدبلوماسي الأمريكي، بصفته سفيراً متمرِّساً، وهو السفير المتمرِّس
الثاني فقط في التاريخ الذي أصبح نائباً لوزير الخارجية، كما شغل بيرنز بين 2008 و2011 منصب وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية،
وكان سفيراً لدى روسيا من عام 2005 إلى عام 2008، ومساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بين 2001 و2005، وسفيراً لدى الأردن من 1998 حتى 2001.
الصراع
الأوكراني
تطرق
بيرنز إلى أهم القضايا المحورية على الساحة الدولية، وعلى رأسها الحرب الروسية على
أوكرانيا؛ وذلك على النحو التالي:
1–
إنهاء الحرب الأوكرانية حقبةَ ما بعد الحرب الباردة: اعتبر المقال أن حقبة ما بعد
الحرب الباردة انتهت نهائياً في اللحظة التي غزت فيها روسيا أوكرانيا في فبراير 2022؛ فمن وجهة نظره، شكَّلت الحرب خروجاً عن القواعد التي صاغت
العلاقات الدولية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي.
2–
مساهمة الحرب في كشف نقاط ضعف روسيا: اعتبر بيرنز أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
يجسد انعدام الأمن الحالي؛ إذ إن إصراره "المأساوي والوحشي" على السيطرة
على أوكرانيا وأن تصبح روسيا قوة عظمى أو أن يكون زعيماً روسياً عظيماً، قد جلب
العار لبلاده، وكشف نقاط ضعفها؛ بدءاً من اقتصادها الأحادي البعد إلى براعتها
العسكرية المنهكة، وصولاً إلى نظامها السياسي الفاسد، كما أثار غزو بوتين عزيمة
مذهلة لدى الشعب الأوكراني للتحرر. ومن ناحية أخرى، عانى الاقتصاد الروسي من
انتكاسات طويلة الأمد، وأصبحت البلاد تابعة اقتصادياً للصين، كما دفعت الحرب حلف
الناتو إلى النمو بشكل أكبر وأقوى.
3–
تسبُّب الحرب الأوكرانية في تآكل سلطة بوتين في الداخل: رغم أنه من غير المرجح أن
تضعف قبضة بوتين في أي وقت قريب، يشير المقال إلى أن حربه في أوكرانيا تؤدي
تدريجياً إلى تآكل سلطته في الداخل؛ إذ ألقى التمرد الذي بدأه زعيم المرتزقة
يفجيني بريجوجين في يونيو الماضي، لمحة عن بعض الخلل الوظيفي الكامن وراء صورة
بوتين المصقولة بعناية للسيطرة. ورغم مقتل بريجوجين، يرى بيرنز أن انتقاداته
اللاذعة للأكاذيب وسوء التقدير العسكري التي كانت في قلب الحرب، وللفساد الكامن في
قلب النظام السياسي الروسي، لن تختفي قريباً.
4–
تزايد تعقيدات الصراع الأوكراني في 2024: يرجح المقال أن يكون العام الحالي عاماً
صعباً على ساحة المعركة في أوكرانيا، وأن يكون اختباراً للبقاء في السلطة؛ فبينما
يعمل بوتين على تجديد الإنتاج الدفاعي الروسي – وذلك بمكونات بالغة الأهمية من
الصين، فضلاً عن الأسلحة والذخائر من إيران وكوريا الشمالية – فإنه يواصل الرهان
على أن الوقت في صفه، وأنه قادر على سحق أوكرانيا وإرهاق مؤيديها الغربيين. ويتمثل
التحدي الذي تواجهه أوكرانيا في تحطيم غطرسة بوتين وإظهار التكلفة الباهظة التي
تتحملها روسيا نتيجة للصراع المستمر؛ ليس فقط من خلال إحراز تقدم على الخطوط
الأمامية، بل أيضاً من خلال شن ضربات أعمق خلفها وتحقيق مكاسب متزايدة في البحر
الأسود.
5–
استمرار احتمالية تصعيد روسيا نووياً: شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب تهديدات
متكررة من جانب المسؤولين الروس. وفي هذا الصدد، يرى بيرنز أنه قد ينخرط بوتين مرة
أخرى في التهديد بالأسلحة النووية؛ لذلك "سيكون من الصعوبة استبعاد المخاطر
التصعيدية بالكامل".
6–
ضرورة استمرار المساعدات الغربية لكييف: يؤكد المقال أن مفتاح النجاح يكمن في
الحفاظ على المساعدات الغربية لأوكرانيا؛ فهو يمثل أقل من 5% من ميزانية الدفاع
الأمريكية، وهو استثمار متواضع نسبياً له عوائد جيوسياسية كبيرة للولايات المتحدة
وعوائد ملحوظة للصناعة الأمريكية، كما أن الاحتفاظ بالسلاح من شأنه أن يضع
أوكرانيا في موقف أقوى إذا أتيحت الفرصة لإجراء مفاوضات جادة؛ فهو يوفر فرصة لضمان
فوز طويل الأمد لأوكرانيا وخسارة استراتيجية لروسيا. وأضاف بيرنز أن "انسحاب
الولايات المتحدة من الصراع في هذه اللحظة الحاسمة وقطع دعمها لأوكرانيا سيكون
هدفاً ذا أبعاد تاريخية".
صعود
الصين
ركز
المقال أيضاً على صعود الصين، ومحددات التهديد والتنافس الجيوسياسي مع واشنطن؛
وذلك على النحو التالي:
1–
طموحات بكين لإعادة تشكيل النظام الدولي: اعتبر بيرنز أن الصين هي المنافس الوحيد
للولايات المتحدة الذي لديه النية في إعادة تشكيل النظام الدولي والقوة الاقتصادية
والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك؛ إذ يعتقد المقال أن القضية لا
تتعلق بصعود الصين في حد ذاته، بل بالتصرفات التهديدية التي تصاحبه على نحو
متزايد؛ إذ بدأ الزعيم الصيني شي جين بينج فترة ولايته الرئاسية الثالثة بسلطة
أكبر من أيٍّ من أسلافه منذ ماو تسي تونج. وبدلاً من استخدام هذه القوة لتعزيز
وتنشيط النظام الدولي الذي مكَّن تحول الصين، يسعى شي إلى إعادة كتابته.
2–
تعزيز الدعم الأمريكي لأوكرانيا من مخاوف بكين: قال بيرنز إنهم في مهنة
الاستخبارات، يدرسون بعناية ما يقوله القادة، لكنهم يولون المزيد من الاهتمام لما
يفعلونه داخل بلدانهم وخارجها. وبالنسبة إلى الرئيس الصيني شي جين بينج، الذي وصفه
بأنه يميل إلى رؤية الولايات المتحدة قوةً متلاشيةً، فإن الدعم الأمريكي القوي
لأوكرانيا كان بالتأكيد مفاجئاً؛ إذ إن استعداد الولايات المتحدة للتأثير على
الألم الاقتصادي واستيعابه لمواجهة عدوان بوتين، وقدرتها على حشد حلفائها لفعل الشيء
نفسه، يتناقض بقوة مع اعتقاد بكين بأن واشنطن كانت في حالة انحدار نهائي. وفي هذا
الصدد، يرى بيرنز أن أحد أفضل الطرق لإشعال التصورات الصينية حول الضعف الأمريكي
وتأجيج العدوانية الصينية هو التخلي عن دعم أوكرانيا. واعتبر أن الدعم المادي
المستمر لأوكرانيا لا يأتي على حساب تايوان؛ بل يبعث رسالة مهمة مفادها أن
الولايات المتحدة عازمة على مساعدة تايبيه.
3–
إثبات جائحة كورونا خطورة الاعتماد على الصين: بحسب المقال، تجري المنافسة مع
الصين على خلفية الترابط الاقتصادي الكثيف والعلاقات التجارية بينها وبين الولايات
المتحدة. وقد خدمت مثل هذه الروابط البلدين وبقية العالم بشكل ملحوظ، ولكنها خلقت
أيضاً نقاط ضعف بالغة الأهمية ومخاطر جسيمة تهدد الأمن والرخاء الأمريكيين؛ فقد
أوضحت جائحة كورونا لكل حكومة خطر الاعتماد على دولة واحدة للحصول على الإمدادات
الطبية المنقذة للحياة، تماماً كما أوضحت حرب روسيا في أوكرانيا لأوروبا مخاطر
الاعتماد على دولة واحدة للحصول على الطاقة. ومن ثم، فإن أفضل إجابة تتلخص – كما
زعم صناع السياسات الأمريكيون – في "إزالة المخاطر" والتنويع بشكل معقول
من خلال تأمين سلاسل التوريد في الولايات المتحدة، وحماية تفوقها التكنولوجي،
والاستثمار في قدرتها الصناعية.
4–
تزايد تحركات الدول لتنويع تحالفاتها بعيداً عن واشنطن: في هذا العالم المتقلب
والمنقسم، يتزايد ثقل "القوى المتوسطة القوة"؛ حيث إن الديمقراطيات
والأنظمة الاستبدادية، والاقتصادات المتقدمة والنامية، والبلدان في جميع أنحاء
الجنوب العالمي، عازمة بشكل متزايد على تنويع علاقاتها لتعظيم خياراتها. وترى تلك
الدول فائدة ضئيلة ومجازفة كبيرة في التمسك بالعلاقات الجيوسياسية الأحادية مع
الولايات المتحدة أو الصين. ومن المرجح أن تسعى المزيد من الدول إلى تنمية
العلاقات مع الصين؛ وذلك أعقاب مواقف الولايات المتحدة في بعض القضايا؛ لذلك فإنه
بالاعتماد على الخبرات التاريخية، يشدد المقال على ضرورة أن تكون واشنطن منتبهة
للمنافسات بين العدد المتزايد من القوى المتوسطة، التي ساعدت تاريخياً في إثارة
الاصطدامات بين القوى الكبرى.
حرب
غزة
في
الوقت الذي تظل فيه المنافسة مع الصين هي الأولوية القصوى لواشنطن، فإنها لا
تستطيع التهرب من التحديات الأخرى؛ إذ يشير بيرنز إلى أن الأزمة التي عجلت بها
الهجمات التي نفذتها حماس ضد الكيان الصهيوني في 7
أكتوبر 2023، هي تذكير "مؤلم" بتعقد الخيارات
التي لا يزال الشرق الأوسط يفرضها على الولايات المتحدة؛ وذلك على النحو التالي:
1–
تعقد الأوضاع في الشرق الأوسط بالنسبة إلى واشنطن: أضحى الشرق الأوسط أكثر تشابكاً
أو انفجاراً؛ فهناك إنهاء العملية البرية الصهيونية المكثفة في قطاع غزة، وتلبية
الاحتياجات الإنسانية العميقة للمدنيين الفلسطينيين الذين يعانون، وتحرير الرهائن،
ومنع انتشار الصراع إلى جبهات أخرى في المنطقة، وتشكيل نهج عملي لما بعد الحرب في
غزة، وكلها مشاكل صعبة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى إحياء الأمل في سلام دائم يضمن
أمن الكيان الصهيوني والدولة الفلسطينية، ويستفيد من الفرص التاريخية للتطبيع مع
المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى. ورغم صعوبة تصور هذه الاحتمالات وسط
الأزمة الحالية، فمن الأصعب تصور الخروج من الأزمة دون متابعة هذه الاحتمالات
بجدية.
2–
ضرورة تعامل واشنطن مع زيادة التهديدات الإيرانية: يشير المقال إلى أن مفتاح أمن
الكيان الصهيوني والمنطقة هو التعامل مع إيران؛ فقد شجعت الأزمة النظام الإيراني،
ويبدو أنه مستعد للقتال حتى آخر وكيل إقليمي له؛ كل ذلك مع توسيع برنامجه النووي
وتمكين العدوان الروسي؛ ففي الأشهر التي تلت السابع من أكتوبر، بدأ الحوثيون
المتحالفون مع إيران، يهاجمون السفن التجارية في البحر الأحمر، ولا تزال مخاطر التصعيد
على جبهات أخرى قائمة.
3–
استمرار مسؤولية الولايات المتحدة عن حل مشكلات المنطقة: وفي حين يرى بيرنز أن
الولايات المتحدة ليست مسؤولة حصرياً عن حل أي من المشاكل الشائكة في الشرق
الأوسط، فإنه لا يمكن إدارة أي منها، ناهيك عن حلها، من دون قيادة أمريكية نشطة؛
إذ إن الولايات المتحدة رائدة في مجال التجسس وفن إدارة الشؤون الخارجية.
أدوار
متعددة
كانت
أحداث 11 سبتمبر إيذاناً ببدء حقبة جديدة لوكالة
المخابرات المركزية، وكذلك كان الغزو الروسي لأوكرانيا؛ ما وضع العديد من
التحديات، وخلق فرصاً جديدة للوكالة للمساعدة في تقديم المشورة والمساهمة في صناعة
القرارات؛ وذلك على النحو التالي:
1–
مساعدة صانعي القرار الأمريكيين على مواجهة موسكو: لقد قامت وكالة المخابرات
المركزية وشركاء الولايات المتحدة الاستخباراتيون بمساعدة الرئيس وكبار صناع
السياسة الأمريكيين – وخاصة الأوكرانيين أنفسهم – لإحباط بوتين، وقدموا معاً
إنذاراً مبكراً ودقيقاً من الغزو القادم، كما مكَّنت هذه المعرفة الرئيس من اتخاذ
قرار بإرسال بعض الخبراء إلى موسكو لتحذير بوتين ومستشاريه في نوفمبر 2021 من عواقب الهجوم الذي كان على علم بأنهم يخططون له، لكنهم بالغوا
بشدة في تقدير موقفهم، واستهانوا بالمقاومة الأوكرانية والتصميم الغربي.
2–
المشاركة في تعبئة دولية لدعم أوكرانيا: ساعدت الاستخبارات الجيدة الرئيسَ في
تعبئة ودعم تحالف قوي من الدول لدعم أوكرانيا، كما ساعدت أوكرانيا في الدفاع عن
نفسها بشجاعة ومثابرة غير عاديتين، كما استخدم الرئيس الأمريكي بشكل مبتكر سياسة
رفع السرية الاستراتيجية. وقبل الهجوم الروسي، كشفت الإدارة، جنباً إلى جنب مع
الحكومة البريطانية، عن الخطط الروسية لعمليات "العلم الزائف" التي كانت
مصممة لإلقاء اللوم على الأوكرانيين وتوفير ذريعة للعمل العسكري الروسي، وهو ما
وضع بوتين في موقف حرِج، وعزز موقف كييف وحلفائها.
3–
المساهمة في مواجهة التحدي الصيني كأولوية أمريكية: تمثل الصين التهديد الأكبر على
المدى الطويل. وعلى مدى العامين الماضيين، أعادت وكالة المخابرات المركزية تنظيم
نفسها لتعكس تلك الأولوية. وبحسب المقال، فإن الأولويات لا تكون حقيقية ما لم
تعكسها الميزانيات. وبناءً على ذلك، خصصت وكالة المخابرات المركزية المزيد من
الموارد لجمع المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالصين، والتحليلات في جميع أنحاء
العالم؛ أي أكثر من ضعف النسبة المئوية من الميزانية الإجمالية التي تركز على
الصين على مدى العامين الماضيين فقط، كما تقوم وكالة الاستخبارات الأمريكية بتوظيف
وتدريب المزيد من المتحدثين بلغة الماندرين، بينما تكثف الجهود في جميع أنحاء
العالم للتنافس مع الصين، من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا إلى منطقة المحيطين
الهندي والهادئ.
4–
إنشاء مراكز خارجية متخصصة لمساعدة صانعي القرار: لدى وكالة المخابرات المركزية ما
يقرب من اثني عشر مركزاً من "مراكز المهام"، وهي مجموعات متخصصة في
قضايا محددة تجمع ضباطاً من مختلف مديريات الوكالة. وفي عام 2021، تم إنشاء مركز جديد للبعثات، يركز حصرياً على الصين، وهو مركز
المهام الوحيد المتخصص بدولة واحدة، ويوفر آلية مركزية لتنسيق العمل بشأن الصين،
وهي وظيفة تمتد اليوم إلى كل ركن من أركان وكالة المخابرات المركزية.
كما
تقوم الوكالة بتعزيز القنوات الاستخباراتية بهدوء مع النظراء في بكين، وهي وسيلة
مهمة لمساعدة صناع السياسات على تجنب سوء الفهم غير الضروري والاصطدامات غير
المقصودة بين الولايات المتحدة والصين. وحتى في حين تستحوذ الصين وروسيا على قدر
كبير من اهتمام وكالة الاستخبارات المركزية، فإن الوكالة لا تستطيع أن تتجاهل
تحديات أخرى؛ من مكافحة الإرهاب إلى عدم الاستقرار الإقليمي.
5–
التركيز على تحديات الإرهاب الدولي في مناطق العالم المختلفة: علاوة على ما سبق،
أظهرت الضربة الأمريكية الناجحة في أفغانستان في يوليو 2022 ضد أيمن الظواهري، أن وكالة المخابرات المركزية لا تزال تركز بشدة
على التهديدات الإرهابية، وتحتفظ بقدرات كبيرة لمكافحتها.
6–
التعامل مع مجموعة واسعة من التهديدات: تكرس وكالة المخابرات المركزية أيضاً –
بحسب المقال – موارد كبيرة للمساعدة في مكافحة "غزو الفينتانيل"؛ المادة
الأفيونية الاصطناعية التي تقتل عشرات الآلاف من الأمريكيين كل عام. وتلوح في
الأفق تحديات إقليمية مألوفة؛ ليس فقط في الأماكن التي اعتُبرت لفترة طويلة ذات
أهمية استراتيجية، مثل كوريا الشمالية وبحر الصين الجنوبي، بل أيضاً في أجزاء من
العالم لن تنمو أهميتها الجيوسياسية إلا في السنوات المقبلة، مثل أمريكا اللاتينية
وأفريقيا.
الثورة
التكنولوجية
يفترض
بيرنز أن ما يزيد الأمور تعقيداً أمام وكالة المخابرات، حدوث ثورة في التكنولوجيا
أكثر شمولاً من الثورة الصناعية أو بداية العصر النووي. من الرقائق الدقيقة إلى
الذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة الكمومية، تعمل التقنيات الناشئة على تغيير العالم،
بما في ذلك مهنة الاستخبارات. ومن نواحٍ عديدة، تجعل هذه التطورات مهمة وكالة
المخابرات المركزية أكثر صعوبةً من أي وقت مضى؛ ما يمنح الخصوم "أدوات جديدة
قوية لإرباكنا، والتهرب منا، والتجسس علينا"، لكن وكالة المخابرات الأمريكية،
تسعى – بحسب بيرنز – إلى التأقلم مع عالم الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة؛
وذلك على النحو التالي:
1–
المزج بين أدوات التكنولوجيا الحديثة والتقنيات القديمة: تعمل وكالة المخابرات
المركزية على مزج أدوات التكنولوجيا الفائقة مع التقنيات القديمة لجمع المعلومات
الاستخبارية من الأفراد (الذكاء البشري) أو من التكنولوجيا، وهو ما يجعل العديد من
جوانب التجسس أصعب من أي وقت مضى؛ ففي عصر المدن الذكية، ومع وجود كاميرات الفيديو
في كل شارع، وانتشار تكنولوجيا التعرف على الوجه في كل مكان على نحو متزايد، أصبح
التجسس أكثر صعوبةً. وبالنسبة إلى ضابط وكالة المخابرات المركزية الذي يعمل في
الخارج في بلد مُعَادٍ، ويلتقي مصادر يخاطرون بسلامتهم لتقديم معلومات قيمة، فإن
المراقبة المستمرة تشكل تهديداً حاداً. لكن التكنولوجيا نفسها التي تعمل أحياناً
ضد وكالة المخابرات المركزية – سواء كان ذلك يتعلق بالتنقيب في البيانات الضخمة
لكشف أنماط أنشطة الوكالة، أو شبكات الكاميرات الضخمة التي يمكنها تتبع كل حركة
يقوم بها العميل – يمكن أيضاً جعلها تعمل لصالحها وضد الآخرين.
2–
مواكبة المنافسين في دمج التقنيات الناشئة في عمل الوكالة: تتسابق وكالة المخابرات
المركزية مع منافسيها لاستخدام التقنيات الناشئة. وبحسب المقال، عيَّنت الوكالة
أول رئيس تنفيذي للتكنولوجيا، كما أنشأت مركزاً جديداً آخر يركز على بناء شراكات
أفضل مع القطاع الخاص؛ حيث يقدم الإبداع الأمريكي ميزة تنافسية كبيرة. وتظل المواهب
العلمية والتكنولوجية الداخلية لدى وكالة المخابرات المركزية مميزة، كما طوَّرت
الوكالة ما يُعادِل مستودعاتها من أدوات التجسس على مر السنين.
3–
تطوير مهام جديدة للذكاء الاصطناعي في عمل الاستخبارات: إن الثورة في الذكاء
الاصطناعي، وتدفق المعلومات المفتوحة المصدر، بجانب المعلومات السرية، تخلق فرصاً
تاريخية جديدة لمحللي وكالة المخابرات المركزية؛ إذ تعمل الوكالة على تطوير أدوات
جديدة للذكاء الاصطناعي للمساعدة في استيعاب كل هذه المواد بشكل أسرع وأكثر كفاءة،
وتحرير الضباط للتركيز على ما يفعلونه بشكل أفضل، مثل تقديم أحكام ورؤى منطقية حول
أكثر ما يهم صُنَّاع السياسات وأكثر ما يُعنَى بالمصالح الأمريكية.
وبحسب
المقال، لن يحل الذكاء الاصطناعي محل المحللين البشريين، لكنه يعمل بالفعل على
تمكينهم. ومن الأولويات الأخرى في هذا العصر الجديد تعميق شبكة الشراكات
الاستخباراتية التي لا مثيل لها لوكالة المخابرات المركزية في جميع أنحاء العالم،
وهو أحد الأصول التي يفتقر إليها منافسو الولايات المتحدة الوحيدون حالياً.
دبلوماسية الاستخبارات
يشير
بيرنز إلى أن مجتمع الاستخبارات الأمريكي يتعلم أيضاً القيمة المتزايدة
للدبلوماسية الاستخباراتية، ويكتسب فهماً جديداً لكيفية قيام تقاريره الإلكترونية
بدعم الحلفاء والأعداء المضادين بدعم صناع السياسات؛ وهو الأمر الذي تتجلى ملامحه
من خلال ما يلي:
1–
تعزيز الاستخبارات الأمريكية العلاقات مع الشركاء: أكد المقال أن قدرة وكالة
المخابرات المركزية على الاستفادة من شركائها – من مجموعاتهم وخبراتهم ووجهات
نظرهم وقدرتهم على العمل بسهولة أكبر في العديد من الأماكن مما تستطيع الوكالة –
أمر بالغ الأهمية لنجاحها. ومثلما تعتمد الدبلوماسية على تنشيط هذه الشراكات
القديمة والجديدة، كذلك الأمر بالنسبة إلى الاستخبارات؛ إذ إن "مهنة
الاستخبارات في جوهرها تدور حول التفاعلات البشرية، وليس هناك بديل عن الاتصال
المباشر لتعزيز العلاقات مع أقرب الحلفاء، والتواصل مع ألد الخصوم، وتنمية الجميع
بينهما".
2–
الاعتماد على العلاقات الاستخباراتية في إنجاز المهام المعقدة خارجياً: يجادل بيرنز
بأنه في بعض الأحيان، يكون من الأفضل لضباط المخابرات التعامل مع الأعداء
التاريخيين في المواقف التي قد يعني فيها الاتصالُ الدبلوماسي الاعترافَ الرسمي.
ولهذا السبب تم إرسال بعض الخبراء إلى كابول في أواخر أغسطس 2021 للتواصل مع قيادة
طالبان قبل الانسحاب النهائي للقوات الأمريكية. وفي بعض الأحيان، قد توفر علاقات
وكالة الاستخبارات المركزية في أجزاء معقدة من العالم احتمالات عملية، كما هو
الحال في المفاوضات الجارية مع مصر وإسرائيل وقطر وحماس بشأن وقف إطلاق النار
لأسباب إنسانية وإطلاق سراح الرهائن من غزة. في بعض الأحيان، يمكن أن توفر مثل هذه
العلاقات ثقلاً سرياً في العلاقات المليئة بالصعود والهبوط السياسي.
3–
دعم جهود صانعي القرارات والدبلوماسيين الرسميين: في بعض الأحيان، يمكن
للدبلوماسية الاستخباراتية أن تشجع على تقارب المصالح، وتدعم بهدوء جهود
الدبلوماسيين وصانعي السياسات الأمريكيين؛ إذ يعمل ضباط وكالة المخابرات في بيئة
معقدة، فضلاً عن التحديات المستمرة التي يواجهونها، كما يقومون بمهام صعبة في
أماكن صعبة. فهم يعملون – وخاصةً منذ أحداث 9/11 – بوتيرة سريعة بدرجة كبيرة. وفي الواقع، فإن الاهتمام بمهمة
وكالة المخابرات المركزية في هذا العصر الجديد والمرهق، يعتمد على الاهتمام بتحقيق
مصالح الشعب الأمريكي؛ وذلك بحسب بيرنز.
4–
العمل على تنمية الموارد البشرية في مؤسسة الاستخبارات: قامت وكالة المخابرات
المركزية بتعزيز مواردها الطبية في المقر الرئيسي وفي الميدان، وبتحسين البرامج للأسر،
والعاملين عن بُعد، والأزواج الذين يعملون في مهنتين، واستكشفت مسارات وظيفية أكثر
مرونة، خاصةً لمختصي التكنولوجيا؛ حتى يتمكن المسؤولون من الانتقال إلى القطاع
الخاص والعودة لاحقاً إلى الوكالة، كما قامت الوكالة بتبسيط عملية تعيين الضباط
الجدد؛ إذ يستغرق الأمر الآن – وفقاً للمقال– ربع الوقت الذي كان يستغرقه قبل
عامين للانتقال من تقديم الطلب إلى العرض النهائي والتصريح الأمني.
وقد
ساهمت هذه التحسينات في زيادة الاهتمام بوكالة المخابرات المركزية؛ ففي عام 2023، كان هناك عدد أكبر من المتقدمين مقارنةً بأي عام منذ الفترة التي
أعقبت أحداث 11 سبتمبر مباشرةً، كما تعمل الوكالة بجد
لتنويع القوى العاملة لديها؛ حيث وصلت إلى أعلى مستوياتها التاريخية في عام 2023 فيما يتعلق بالشؤون الخارجية؛ إذ تم تعيين 13 ضابطاً من النساء والأقليات، بالإضافة إلى العدد الذي تمت ترقيته
إلى أعلى الرتب في الوكالة.
التزام
وطني
وختاماً، يشير بيرنز إلى أن ضباط وكالة المخابرات المركزية يعملون في الظل، وعادةً ما يكونون بعيداً عن الأنظار، ونادراً ما تكون المخاطر التي يتحملونها والتضحيات التي يقدمونها مفهومة جيداً؛ ففي الوقت الذي تكون فيه الثقة بالمؤسسات العامة في الولايات المتحدة نادرة في كثير من الأحيان، تظل وكالة المخابرات المركزية مؤسسة غير سياسية على الإطلاق، مُلزَمة بالقسَم الذي أقسمه كل شخص في الوكالة للدفاع عن الدستور والالتزام بموجب القانون. ويرتبط ضباط وكالة المخابرات المركزية أيضاً بشعور المجتمع، وبالتزام عميق ومشترك بالخدمة العامة في هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ الأمريكي. واعتبر بيرنز أن الآلاف من ضباط وكالة المخابرات المركزية الآخرين يشعرون بالشيء نفسه، وهم يرتقون إلى مستوى التحدي المتمثل في عصر جديد.
المراجع:
وليام
بيرنز، 1.2.2024، دور وكالة
المخابرات المركزية في عصر المنافسة الجيوسياسية، إنترريجونال للتحليلات
الاستراتيجية.
ب،
ن، 31.1.2024، مقال لمدير السي آي إيه: التجسس جزء أصيل من فن الحكم، الجزيرة نت.