تجدد الأيديولوجيا ومأزق الدولة الليبرالية
فرع القاهرة

 

مثلت الأيديولوجيا أبرز سمات القرن العشرين بوصفها محددا للسياسات والتحالفات فى ظل بيئة دولية قطبية شهدت حروبا وصراعات على أساس أيديولوجى، إلا أن هذا القرن شهد أيضا أطروحة نهاية عصر الأيديولوجيا، فعندما مات ستالين ذهب رايمون آرون إلى "أن ستالين لم يحمل معه فى القبر الستالينية وحدها، بل أيضا عصر الأيديولوجيا برمته.    

كما ارتبطت أيضا أطروحة نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما بإعلان نهاية عصر الأيديولوجيات المنافسة لليبرالية، وسيادة النموذج الليبرالى الغربى، بوصفه الوحيد الذى يمتلك مقومات البقاء والاستمرارية التى لا تمتلكها الأيديولوجيات الأخرى. فيما تضمنت أيديولوجيات الحكم الأخرى أخطاء وتناقضات لا يقبلها العقل أدت إلى انهيارها، فإنه يمكن الادعاء بأن الديمقراطية الليبرالية كانت خالية من هذه التناقضات الأساسية

فى سياق مختلف، يرى لوى ألتوسير أن المجتمعات البشرية لم يكن فى استطاعتها أن تستمر فى البقاء دون هذه التمثيلات الأيديولوجية، فهى تبدو بالنسبة إليها كما لو كانت العنصر المناخى لحياتها التاريخية

فالأيديولوجيا، بحسب ما يرى كاسيرر، نوع من الأساطير السياسية الحديثة حيث تبدو فى منتهى الغرابة والتناقض، فهى نقطة التقاء أسطورة العقل وأسطورة الحياة[4]؛حيث إنها تتوفر على شحنة انفعالية كبيرة تقاربها من العاطفة الدينية، وعلى جهاز منطقى يعطيها مظهرا علميا وفلسفيا. بيد أنها لا تؤثر فى عالم دينى تقليدى، ولا فى عالم تهيمن عليه الفلسفة، لكنها تصبح فعالة ومؤثرة عندما يصل العالمان إلى طريق مسدود أى عندما تتراجع الفلسفة وتتفتت الديانة. لذلك يراها لابيير تضرب صفحا من كل ما من شأنه أن يكذب مبادئها؛ فهى فى الحقيقة ليست علما ولا فلسفة ولا دينا.

 الحرب وتجدد الأيديولوجيا

فى هذا الشأن، لم تقبل روسيا باندثار أيديولوجيتها أمام النموذج الليبرالى، فقد أعقبت مرحلة سقوط الشيوعية محاولة للاستدراك جعلتها تطرح نفسها من جديد كنموذج منافس لم يكتفِ بالتمثيل الأيديولوجى المغاير فحسب، بل تتبنى الحرب كأداة سياسية فعالة من أجل التعبير عن مصالحها وخصوصيتها الأيديولوجية،على أساس أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى، والسياسة استمرار للحرب بوسائل أخرى.

فالحرب ضرورة سياسية بحسب ما ذهب ميكيافلى لتبرير ديمومة العلاقة بينهما؛ حيث رأى الحرب وسيلة سياسية توجد ما دامت الدولة، ورأى أن الحروب الاستعمارية يجب أن تكون سياسة دائمة للدولة وليست مرحلية، باعتبار أن الحروب الاستعمارية هى مصدر أمن وسلامة الدولة داخليا وخارجيا، فالدولة التى لا تتوسع على حساب غيرها تكون عرضة لتوسع  الدول الأخرى على حسابها، وقد رأى أنها تحقق هدفين الأول خارجى هو تأمين الدولة ضد أعدائها، والثانى صرف الشعب عن أمور الحكم بانشغاله بالحروب الاستعمارية.

فى هذا السياق، تطرح الحرب الروسية الأوكرانية الكثير من التساؤلات التى تتعلق بالمبررات والدوافع وهى التى بدأت بإطلاق الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى فبراير 2022 العملية العسكرية ضد أوكرانيا المجاورة بحجة أن خطط الأخيرة تشكل تهديدا مستمرا على أمن روسيا، من خلال سعيها إلى الانضمام إلى حلف الناتو.

هذه تساؤلات لم تتوقف عن الأبعاد الاقتصادية لها ونتائجها وتأثيرها فى موازين القوى الدولية فحسب، بل إلى التساؤل حول واقع الدولة الغربية الليبرالية ومستقبلها كنموذج للحداثة الغربية، التى لم تكن تلك الحرب بعيدة عنها، وهو ما أضفى أهمية للمكون الأيديولوجى لفهم الدوافع والمبررات لها، فهذه الحرب تواكب نماء الوعى النقدى من داخل النموذج الليبرالى واعتباره يعيش حالا من التأزم ليس على الصعيد السياسى فحسب، بل على الصعيدين الثقافى والاجتماعى، كنموذج حضارى يحمل منظومة قيم تحكم المجتمعات الغربية، وفى ظل سعى الإدارة السياسية الروسية استعادة وضعيتها التاريخية التى افتقدت جزءا منها بعد تفكيك الاتحاد السوفيتى.

تعد الحرب تعبيرا عن وضعية مركبة تتشابك بها عدة عوامل، ويصعب اختزالها فى نظرة أحادية، إلا أن متغيرات الواقع وطبيعة العلاقات الدولية ونسبيتها تعطى لمحدد ما أولويةً دون غيره لتفسير البواعث وفهم طبيعة الصراع.

يمكن عدُّ أبرز دافعين إلى الحرب هما الدافع الأيديولوجى الهوياتى والدافع الاقتصادى البرجماتى، وبالطبع يصعب الفصل بينهما لتشابك البعدين، إلا أنه تتراوح نسبة حضور كل منها من حالة إلى أخرى بحسب طبيعة الصراع والعوامل المؤثرة فى مساره ونتائجه.

فالتساؤل السياسى لا يقف عند حد السياسات التى توجه مسار الحرب سواء من الطرفين المباشرين أو من الأطراف المنخرطة بها بشكل غير مباشر، هو ما يدعو إلى التعمق فى فهم المكون الأيديولوجى الذى أعادته الإدارة الروسية للحضور فى المشهد العالمى بعدما ظن بعضهم زواله فى ظل حقبة هيمنة النموذج الليبرالى بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، والتبشير بدخول العالم عصر ما بعد الأيديولوجيا.

يمكن القول: إن ثمة غلبة للدوافع الأيديولوجية فى مقابل الدوافع الاقتصادية فى مسار هذه الحرب من ناحية الإدارة الروسية التى تبنت دورا لها يتمثل فى استعادة أمجاد روسيا القيصرية من جديد فى ظل حقبة رئاسة بوتين.

 فى هذا السياق، شبّه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين سياسته بتلك التى كان يتبعها قيصر روسيا الخامس بطرس الأكبر، حين كان يقاتل السويد وغزا جزءا من أراضيها وفنلندا وأجزاء من إستونيا ولاتفيا.

الأيديولوجيا واستعادة روسيا القيصرية

أدرك الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فى وقت مبكر، أهمية وجود فكرة وطنية قوية خاصة تدعم استعادة روسيا القيصرية من جديد على الساحة العالمية، بحيث تكون بمنزلة المكون الأيديولوجى الذى يوظف داخليا وخارجيا من أجل مشروع روسيا الجديدة الذى يسعى الرئيس الروسى بوتين إلى تحقيقه، وبالطبع كان يصعب استدعاء المكون الأيديولوجى الماركسى للاتحاد السوفيتى كما هو بعد إعلان تفكيكه عام 1991 وتغير الخريطة العالمية تبعا لذلك الحدث، ومن ثم توجه بوتين إلى استعادة المكون الأيديولوجى لروسيا القيصرية بما تحمل من إرث تاريخى حقق لها  خصوصية ثقافية وضعية عالمية.

يمكن القول إن من أبرز محددات المكون الأيديولوجى بالنسبة إلى روسيا القيصرية كان الدين متمثلا فى الكنيسةالأرثوذكسيةالروسية وما تمثله من رمزية عالمية للمسيحيين الأرثوذكس فى العالم.

تمثل الكنيسة الروسية الأرثوذكسية رمزية تاريخية من خلال فكرة فى غاية الأهمية مضمونها أن موسكو أصبحت "روما الثالثة" بعد أن سقطت القسطنطينية "روما الثانية" فى يد العثمانيين عام 1453؛ فمنذ ذلك التاريخ أصبح جميع الأرثوذكس تحت سيطرة المسلمين ضمن الدولة العثمانية باستثناء موسكو ما عدَّها الوريثة الشرعية للقسطنطينية، وآخر معقل مستقل للأرثوذكس فى العالم؛ لذلك حرص الأمراء والقساوسة الروس على تأكيد الصفة المقدسة لروسيا التى تحمل رسالة الرب للعالم، وأصبح الحس بهذه الرسالة مكونا مهما فى الذاكرة الروسية.

تعرضت الكنيسة الروسية للتهميش والاضطهاد والقمع فى ظل حكم الاتحاد السوفيتى من منطلق أيديولوجى ماركسى معادٍ لأديان؛ حيث تعرض المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية للحظر بشكل تام، إلا أن هذا الموقف العدائى تجاه الكنيسة ما لبث أن تبدل خلال الحرب العالمية الثانية وفق منطق برجماتى؛ حيث سعى الحزب الشيوعى إلى توظيف الدور التعبوى للكنيسة لدعم المجهود الحربى فأعيد منصب البطريركية وفتحت الكنائس والمدارس الدينية الإسلامية.

وتسعى سياسة الرئيس الروسى بوتين إلى توظيف المكون الدينى سياسيا فى كل من الشأنين الداخلى والخارجى، فقد ارتأى الرئيس أن الكنيسة الأرثوذكسية "شريك طبيعى" للسلطة السياسية، وأنها ملأت الفراغ الأخلاقى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، مشددا على عودة الكنيسة إلى الواجهة بعد أن تعرضت للقمع خلال الحقبة السوفيتية.

سمح بوتين للكنيسة باستعادة صدارتها، وقدم لها الدعم كما لم يفعل أى حاكم روسى منذ الثورة البولشيفية، ومن جهتها مدت الكنيسة الرئيس بالدعم الفكرى والثقافى لتوفير أرضية لرؤيته الدولاتية، وتوسيع مجال نفوذ روسيا حول العالم.

فى هذا السياق، يرى بعض المحللين أن أحد العوامل الممهدة للغزو الروسى الحالى، كان انفصال الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية عام 2018؛ إذ كانت جزءا منها منذ عام 1686. وقد أدى استقلال الكنيسة الأوكرانية إلى انقسام أوسع على مستوى الكنائس الأرثوذكسية، هذا الانفصال وصفه الرئيس الأوكرانى السابق بترو بوروشينكو بأنه "انتصار للشعب المؤمن فى أوكرانيا على شياطين موسكو". وقد مثل إعلان الكنيسة الأوكرانية انفصالها عن الكنيسة الروسية، ضربة خطيرة لطموحات بوتين والكنيسة الروسية على مستويات عدة؛ إذ مثل الأوكرانيون الأرثوذكس 30% من مجمل المسيحيين التابعين لبطريرك موسكو[.

لذلك ذهب بعض المتابعين إلى أن العامل الدينى أدى دورا فى قرار الغزو، فالمؤرخة الأمريكية البارزة ديانا باتلر باس، المختصة بتأريخ المسيحية ترى أن الغزو الروسى لأوكرانيا الذى نشهده اليوم، ليس إلا فصلا جديدا من حكاية قديمة، ستكون نهايتها "السعيدة"، من وجهة نظر بوتين، الاحتفال بقداس الفصح فى كييف. وبحسب المؤرخة فإن كييف تعد بالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس بمنزلة القدس، لذلك فإن الصراع "على أوكرانيا هو أيضا صراع على أى أرثوذكسية ستطبع وجه شرق أوروبا". فبوتين كما ذكر موقع مؤسسة "هريتدج" الأمريكية ينصب نفسه كمدافع عن التقاليد المحافظة وعن مكانة الكنيسة، من خلال خطاب معلن يرفض الطلاق، والمثلية الجنسية، ويشجع قيم الأسرة التقليدية .

لذلك يبدو المكون الأيديولوجى الهوياتى أو الوجودى أحد محددات سياسة روسيا فى هذه الحرب، وهو ما ذهب إليه بعض الساسة والمحللين من أن الرئيس الروسى يريد استعادة "الأمجاد السوفيتية"، فمراقبة ما يقوم به فلاديمير بوتين فى داخل روسيا نفسها وخارجها يشير إلى أنه يريد "بعث القيصرية الروسية القديمة". هذا إلى جانب سعيه إعادة الاعتبار للكنيسة الأرثوذكسية الروسية بعد فترة من العزلة فى ظل حكم الاتحاد السوفيتى المنحل، بل توظيفها سياسيا فى الداخل والخارج. هذا المحدد الأيديولوجى يجعل الحرب تمثل تحديا للدول الغربية الداعمة لأوكرانيا،   ولنموذجها الليبرالى فى ظل تعرضه للنقد من قبل فلسفة ما بعد الحداثة.

النموذج الليبرالى وما بعد الحداثة

فى ظل توظيف المكون الأيديولوجى فى السياسات الروسية، تعيش الدولة الليبرالية الغربية حالة من التأزم تتعلق بمكونها الفكرى، تمثل فى اللامبالاة والإحباط من قدرة هذا المشروع الليبرالى من أن يفى بوعوده التى من أبرزها تحرير الإنسان نفسيا واجتماعيا.

إن الليبرالية التى أضحت أيديولوجية الدولة الحديثة فى القرن التاسع عشر، أصبحت تعبيرا عن تأزمها فى القرن العشرين؛ فبحسب مانهايم مثلت الليبرالية قناعا للدفاع عن مصالح اقتصادية ضيقة، لذلك دعا إلى ديمقراطية سياسية مبنية على اقتصاد منظم وموجه، وفى هذا الشأن ميز مانهايم بين اليوتوبيا والأيديولوجيا، فاليوتوبيا نوع من التفكير يتركز نحو المستقبل بصورة مستمرة، وعرف الأيديولوجيا بأنها التفكير الذى يهدف إلى استمرار الحاضر، ونفى بذور التغير الموجود فيه. فالليبرالية كانت يوتوبيا فى القرن الثامن عشر، ثم انتقلت إلى أيديولوجيا فى القرن اللاحق. بيد أن مفهومى اليوتوبيا والأيديولوجيا يندرجان تحت مفهوم واحد وهو الوعى الزائف الذى يقابله الوعى الصادق الذى يتمثل فى الشخص المثقف المتحرر من كل انتماء طبقى ولا يعتنق أيديولوجية معينة بصورة تزمتية.

فالحداثة الغربية تعيش حالة من التعثر على المستوى الإنسانى الذى بدا بالشعور المتولد بالاغتراب عن مشروعها وقيمها، وقد تمثل فى أطروحة ما بعد الحداثة كتعبير عن هذا الاغتراب الذاتى تجاه مشروع الحداثة، فالحداثة هى مشروع الفرد والدولة على السواء؛ حيث إن الفرد هو حامل ثقافة الحداثة المؤمن بمقولاتها المتطلع إلى مآلاتها المستقبلية.

يمكن القول إن العلاقة العضوية الثلاثية (الحداثة – الدولة – الفرد) هى أبرز إنجازات الحداثة السياسية وقد تجسد فى ثقافة المواطنة التى جعلت الفرد يعيش حالة الانتماء للدولة وفق أطر دستورية وقانونية خرج منها من وضعية التابع إلى وضعية المواطن، فالحداثة لها أيديولوجيتها السياسية العامة التى جعلت للدولة أهميتها الخاصة.

لعل من أبرز إنجازات الحداثة على المستوى السياسى هى معالجة حالة الاغتراب  بين الفرد والدولة التى شهدتها العصور الوسطى نتيجة التقليد الكهنوتى للدولة، فالفرد فى عصر الحداثة أصبح يشارك الدولة مشروعها السياسى ليس على المستوى الأيديولوجى فحسب، بل على مستوى الممارسة السياسية كشريك فى الدولة الليبرالية المؤسسة على قيم المواطنة، والعقد الاجتماعى، والحرية الفردية.

فالدولة باتت هى قلب مشروع الحداثة المعبرة عن قيمها والحارسة لمؤسساتها، لذلك عدَّ هيجل الدولة هى الفكرة المقدسة كما توجد فى الأرض التى يستمد منها الفرد كل ماله من قيمة حقيقة روحية،وقد جسدت فكرة حلول المقدس من السماء إلى الأرض وفق رؤيته، كما يرى هوبز أن الإنسان كائن منطوى على الشر، وأنه إذا ترك إلى أعماله فهو لا محالة محطم لحياته وحياة الآخرين، لذلك فلابد من مخلص، غير أن هذا المخلص الهوبزى ليس المسيح وفق منطق المسيحية بل (الدولة) ذات السلطة المطلقة.

فى هذا السياق، ذهب رؤية الفيلسوف الألمانى كارل شميت إلى أن مفاهيم النظرية الحديثة للدولة كلها ذات دلالة لاهوتية معلمنة؛ حيث نقلت المفاهيم من اللاهوت إلى نظرية الدولة، فقد انتصرت فكرة الدولة الدستورية الحديثة جنبا إلى جنب مع الإيمان بالله، فالنظرية العضوية للدولة هى بالضبط لاهوت.

 لعل البعد الأيديولوجى فى فهم السياسية وفق منطق الدولة الحديثة ودوافع الحرب يتجلى لدى شميت فى توصيفه لمفهوم السياسى، الذى يطرح التساؤل عن أهم ما  يميزه، هل هى قدراته البرجماتية وفق منطق حساب المنافع والمفاسد أم منطقه الأيديولوجى النابع من هويته ورؤيته للآخر وفق هذا المنطق؟

بحسب ما يرى كارل شميت فإن السياسى هو من يمتلك أدوات التمييز بين العدو والصديق، إن هذا التمييز النوعى الذى يمكن أن تُعزى إليه الأفعال والبواعث السياسية، ومقابلة الصديق والعدو تختلف عن مقابلة الحسن والقبيح أو النافع والضار، فالتمييز بين الصديق والعدو يدل على مستوى شدة أو انفصال ما، ويمكن لهذا التمييز أن يؤسس لحالة صداقة أو حرب دون الاضطرار إلى استخدام التميزات الاقتصادية والأخلاقية والجمالية، فلا يحتم أن يكون العدو بالمعنى السياسى شريرا أخلاقيا أو مضرا اقتصاديا، فالعدو هو ذلك الآخر والغريب؛ حيث يكفى لاكتمال ماهيته كعدو أن يكون بالمعنى الوجودى شيئا مغايرا، بحيث تغدو النزاعات معه فى الحالات القصوى ممكنة، ومن ثم يطرح كارل شميت تصورا للعدو يتجاوز منطق المنفعة والمصالح الاقتصادية إلى شكل للصراع السياسى المفضى إلى العداوة والحرب على أساس أيديولوجى قائم على الاغتراب الوجودى والهوية الثقافية وهو ما يراه كافيا فى توصيف العدو السياسى.

ينتقد شميت التوصيف الليبرالى للعدو بوصفه منافسا على الصعيد الاقتصادى وخصم حوار على المستوى الروحى، بيد أنه ليس ثمة أعداء فى مجال الاقتصاد، بل منافسون فقط، وإذا كانت الحرب كمظهر للعداء فإنه يجب أخذ مفهومى الصديق والعدو بمعناهما الوجودى، كما لا يجوز خلطهما أو إضعافهما بتصورات اقتصادية وأخلاقية وسيكولوجية .

بيد أنه تولد حالة من الاغتراب بين الفرد والدولة داخل النموذج الليبرالى الرأسمالى، الذى عده ماركيوز نوعا من أنواع القهر الحداثى بل أعجبها وأقواها تسلطًا تلك التى تمارس فى عصرنا الحالى، ففى العصور الماضية كان يمارِس القهرَ والسيطرة طاغيةٌ أو حاكم مطلق، يعترف صراحة بأن تصرفاته لا تقوم على أساس من العقل أو المنطق، بل على أساس من الانفعالات الوقتية العابرة، أما فى المجتمع الصناعى الذى بلغ أقصى درجات تقدمه فى البلاد الرأسمالية الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة، فإن الطغيان يمارس على أساس من المعقولية التامة؛ فالتسلط على الإنسان لم يكن حتى عهد قريب، بل حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية على وجه التحديد، يمتد ليهدد حرية الإنسان الداخلية، فلم تكن القوى الإنتاجية قد بلغتْ بعد مرحلةَ التطور التى أصبح فيها بيع نواتج العمل الاجتماعى يقتضى تنظيما للحاجات والرغبات، حتى العقلية منها، فعندما كان المجتمع البورجوازى على مستوى منخفض من حيث قواه الإنتاجية، لم تكن توافرت لديه بعد الوسائل التى تتيح له التحكم فى الروح والعقل. أما اليوم، فإن التحكم التام ضرورى ووسائله متوافرة متمثلة فى أبحاث التسويق، وعلم النفس الصناعى، ورياضيات العقول الإلكترونية، وما يسمى بعلم العلاقات الإنسانية. وبفضل هذه الوسائل كلها يتم تحقيق الانسجام والتناسق بين الفرد والرغبات الضرورية للمجتمع أى بين الاستقلال والخضوع، بطريقة غير إرهابية وديمقراطية تلقائية آلية.

فى هذا الشأن، بشرت فلسفة ما بعد الحداثة بخسوف شغف السياسى الذى يواكب الدولة الحديثة والتحولات التى صاحبتها وقيمها التى ترسخت فى وعى الأفراد، وذلك بدخول السياسية (عصر الفتور) عن طريق إلغاء الوعى الصارم الأيديولوجى تجاه الدولة، وباللامبالاة تجاه المثل الأعلى للرأسمالية الغربية، وبانفصال الرغبة الشخصية عن التدابير الجماعية والتخفيف من حدة الجماعة بما هو اجتماعى. ونجد هذا الفتور فى حقل السياسة؛ حيث لم يعد من النادر أن نرى فى الولايات المتحدة الأمريكية معدلات امتناع عن التصويت تبدأ من 40% وتصل إلى 45% وحتى عندما يتعلق الأمر باستحقاقات رئاسية. وهذا لا يعنى ابتعادا عن السياسة بالمعنى الدقيق للكلمة، فالأحزاب والانتخابات لا تزال تحظى باهتمام المواطنين، ولكن بشكل أقل مقارنة ببرامج الطقس فى عطلة نهاية الأسبوع واليانصيب ونتائج الألعاب الرياضية، لقد انتقلت السياسة من عصر الالتزام الأيديولوجى الصارم إلى عصر الإدهاش، بجعل الحضور السياسى يرتكز أكثر على وسائل الإعلام وما تطرحه من حوارات مشخصنة أكثر من الالتزام الأيديولوجى. فقد وصل الانسحاب من السياسة والنقابات إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبحت القضايا الكبرى الفلسفية أو الاقتصادية أو السياسية تثير الفضول العرضى نفسه الذى يثيره أى حادث من الحوادث .

عبر باتريك دينين عن تأزم المشروع الليبرالى الغربى فى كتابه "لماذا فشلت الليبرالية؟"، فذكر أن الليبرالية فشلت ليس لأنها لم تبلغ غايتها، ولكن لأنها كانت متسقة مع نفسها، لقد فشلت الليبرالية لأنها قد نجحت فبينما صارت الليبرالية بنحو أكثر اكتمالا أصبح منطقها الداخلى أكثر وضوحا وتناقضاتها الذاتية أصبحت ظاهرة للعيان؛ فقد أنتجت أمراضا حادت بها عن غايتها؛ إذ تنبت فلسفتها السياسية تعزيز أكبر قدر من العدالة والإنصاف، والدفاع عن نسيج تعددى من ثقافات ومعتقدات مختلفة، لكنها فى الواقع والممارسة ولدت لا مساواة هائلة، أنتجت تدهورا ماديا وروحيا وتقوضيا للحرية .

 هذا الإنسان يعيش حالة من التشاؤم، والاغتراب تجاه القيم والمؤسسات الاجتماعية، يريد أن يعيش الحاضر فحسب، فلم يعد يرغب فى العيش وفقا للماضى والمستقبل .

فالفردانية المحملة باللامبالاة تجاه المجال العام تفتح عصر ما بعد الحداثة، التى من رحم هجران السياسة حملت دعوة نهاية الإنسان السياسى وقدوم الإنسان النفسى الباحث عن كينونته، لقد أصبح العيش دون مثل أعلى ممكنًا؛ حيث اقتصر الاهتمام الناس على تأمين الصحة وحماية الحالة المادية

فلسفة ما بعد الحداثة تجعل من مفهوم الذات المتماسكة التى تمثلها الأمة أو الشعوب أو الأحزاب وفق تطلعات عامة موضع شك، وتطلعاتها الشاملة موضع ارتياب؛ حيث إنها تبشر بأنها إلى زوال، فالمثل الأعلى للذات المتماسكة متمثلا فى الدولة الحديثة بات موضع اشتباه .

فالحرب الروسية الأوكرانية تطرح التساؤل عن تشكل الخريطة العالمية ما بعد الحرب، وهل يشهد العالم صراعا سياسيا قطبيا يكون أحد طرفيه الولايات المتحدة الأمريكية، والثانى تقوده روسيا، وتكون الأيديولوجيات أبرز أدواته على غرار الخريطة العالمية ما قبل تفكيك الاتحاد السوفيتى؟

يمكن القول: إن الحرب أعادت تموضع السياسة فى الوعى الغربى الجمعى بعدما تراجعت فى ظل تأزم مشروع الدولة الليبرالية، وما أخفقت فيه من وعود وما ولدته من معاناة، عبرت أطروحة ما بعد الحداثة عن هذا الاغتراب الذاتى تجاه مشروع الحداثة، وتجسد فى سياسات التحرير الاقتصادى للنيو ليبرالية الغربية، بما تضمنت من الخصخصة وإلغاء التنظيم والعولمة والتجارة الحرة والتقشف والتخفيضات فى الإنفاق الحكومى من أجل زيادة دور القطاع الخاص فى الاقتصاد والمجتمع، هذه السياسات تسعى إلى تحييد دور الدولة عن المجال العام، الأمر الذى عزز اغتراب الفرد عن الدولة وواكب رؤية ما بعد الحداثة التى بشرت بإنسان يختلف عن إنسان الحداثة من حيث علاقته بالمجال العام والدولة ومدى انتمائه إلى مشروع الحداثة ذاته، إلا أن هذا الحراك الفكرى بين الحداثة وما بعدها لا يعنى بالضرورة انتصارا حاسما للأخيرة وانتفاء الحداثة بالكلية، فعلى الرغم من تأزم مشروع الليبرالية الغربية فإنه يتميز بالقدرة على التجدد واستيعاب المتناقضات بداخله، بل توظيفها لخدمة مشروعه، كما حدث عندما حل الكساد العالمى فى الثلاثينيات من القرن العشرين الذى أدى إلى إعادة النظر فى الليبرالية الاقتصادية الكلاسيكية، وهو ما يمكن أن يجعل أطروحة ما بعد الحداثة أحد مكونات الترشيد والتصويب واستدراك عثرات الفكرة عبر تاريخها.

إذا كانت إحدى وسائل الأنظمة السياسية التقليدية عبر التاريخ فى مواجهة إخفاقها الداخلى هى الحرب، فإن الحرب باعتباراتها الأيديولوجية بدت لليبرالية الغربية مسوغا لتفادى مقولات فشلها والتبشير بخسوفها حيث أعادت الحرب الاعتبار للدولة وحاجة الإنسان إليها كفكرة أيديولوجية فى ظل هذه المواجهة التى تشهدها الأراضى الأوروبية، فهى إن كانت ليس أفضل ما يكون فإن بعضهم يعدها أفضل ما هو موجود وفق صيرورة الواقع.

 

 

المصدر: مجلة السياسة الدولية

الكاتب : حسن محمد شافعي

التاريخ : 22-2-2024 

المقالات الأخيرة