السياسة النقدية العالمية وكبح جماح التضخم
فرع بنغازي


بعد عقود من السكون، يطل التضخم من جديد؛ ولمواجهته، يتعين أن تغير البنوك المركزية منهجها.

النظرية النقدية في الاقتصاد تألفت من طائفة متنوعة من المدارس الفكرية ولم تقتصر على نموذج موحد. وكل من هذه المدارس تؤكد على قوى مختلفة ترى أنها تدفع التضخم، وتوصي باستجابة مختلفة للتعامل معها من خلال السياسة النقدية. وقد فرضت كل فترة زمنية تحديات مختلفة – وكل منها تطلَّب اتباع منهج خاص لمواجهته من خلال هذه السياسة.

واليوم، تتطلب مواجهة التضخم الذي عاود الظهور تحولا آخر في موضع تركيز السياسة النقدية. فالإطار الفكري السائد لدى البنوك المركزية منذ الأزمة المالية العالمية التي بدأت في عام 2008 لا يحمل تركيزا على ما يلوح في الأفق من قضايا هي الأشد إلحاحا، ولا يخفف من تداعياتها الوخيمة المحتملة في هذا المناخ الجديد.

وبعد سياسات نقدية متشددة من البنوك المركزية، برفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، تباينت السياسات النقدية لعدد من البنوك المركزية خلال الأيام الماضية، حيث اكتفى بعضها بتثبيت أسعار الفائدة، مع حديث عن خفض مرتقب، في حين عمد بعضها بالفعل إلى الخفض.

وعقب فترة مطولة من الانخفاض في أسعار الفائدة والتضخم، بدأ الاقتصاد العالمي يدخل مرحلة تتسم بارتفاع التضخم وارتفاع مستويات كل من الدين العام والخاص. فمنذ خمسين عاما، ارتأت البنوك المركزية أن الحاجة ملحة لإدراج الاستقرار المالي وبواعث القلق بشأن الانكماش ضمن نماذجها الاقتصادية التقليدية، واستحدثت أدوات غير تقليدية للتعامل مع المسألتين.

تلعب السياسة النقدية للبنوك المركزية دورا أساسيا لمحاولة السيطرة على مستويات التضخم العالمية، والتي ساهمت في تراجع التضخم عالميا إلى مستويات 5.9% في أبريل لعام 2024 وفقًا لصندوق النقد الدولي، ولكن ما زالت هذه المستويات أعلى من مستهدفات أغلب البنوك المركزية، ويأتي ذلك في ظل حالة التشرذم العالمية واستمرار التوترات الجيوسياسية والمخاطر التي تعيشها التجارة العالمية من تفكك تدريجي في نظام التجارة متعدد الأطراف؛ مما يشكل مصدر قلق رئيسي، حيث يسلك المزيد من البلدان حاليا مسارات منفردة نحو تطبيق تعريفات من جانب واحد؛ مما يؤدي إلى تقويض النمو العالمي ويهدد برفاهية الشعوب، بالإضافة لأزمة تغير المناخ، والتي انعكست على تراجع المعروض من السلع وارتفاع أسعارها, ولكن الأمر الجيد أنه برغم تشديد السياسة النقدية من البنوك المركزية حول العالم  فإنه لا تزال توقعات صندوق النقد الدولي حول النمو العالمي مستقرة، حيث تصل إلى 3.2% هذا العام 2024  وتسجل ارتفاعا طفيفا إلى 3.3% في العام القادم 2025، ويزداد حاليا الاتساق بين معدلات النمو عبر الاقتصادات المتقدمة الرئيسية مع انغلاق فجوات الناتج, ومن المتوقع أن يشهد اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية تباطؤا بسبب طول فترة تشديد السياسة النقدية؛ مما أدى إلى ارتفاع تكلفة الدين بالإضافة إلى زيادة الأجور ؛ مما أدى في النهاية إلى زيادة التحديات للمستثمرين، ولكن من المتوقع أن يتحسن الاقتصاد تدريجيا في منطقة اليورو؛ وذلك بسبب تعايشها مع أزمة روسيا وأوكرانيا والتوصل لبدائل للغاز الطبيعي والطاقة المستوردة عبر روسيا؛ وذلك بزيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة، أما إذا نظرنا إلى اقتصادات آسيا فسنجد أنها تعتبر في هذه الفترة وقود الاقتصاد العالمي، خاصة في الصين والهند اللذين من المتوقع أن يساهما بحوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ولكن التحدي الأكبر -وخاصة للصين- سيكون تغير الهرم السكاني، خاصة أن أغلب حلول الصين في هذا الشأن باءت بالفشل، وبالتالي من المتوقع أن نرى تراجعا كبيرا في معدلات النمو في الصين لتصل إلى 3.3% بحلول عام 2029، خاصة مع وجود مخاوف من زيادة الرسوم الجمركية على المنتجات الصينية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الخبر الجيد أنه من المتوقع أن يواصل معدل التضخم العالمي مساره نحو الهبوط السلس Soft landing، وذلك وفقا لصندوق النقد الدولي، ليتراجع إلى 5.9% هذا العام مقابل 6.7% في العام الماضي، ويرجع السبب الرئيسي لهذا التوقع إلى تشديد السياسة النقدية للبنوك المركزية, ولكن من المتوقع أن تشهد الفترة القادمة التحول من السياسة النقدية التشديدية إلى السياسة النقدية التيسيرية، خاصة بعد أن بدأ العديد من البنوك المركزية بخفض الفائدة، فقد قام المركزي الأوروبي وبنك كندا  والبنك الوطني السويسري بتخفيض أسعار الفائدة بـ 25 نقطة أساس؛ مما يمهد لمزيد من التخفيضات خلال الفترة القادمة ومواكبة بقية البنوك المركزية لهذا التحول, وهو ما يساهم في تحفيز استثمارات القطاع الخاص، وتشجيع النمو طويل الأجل، ويعزز الإنتاجية ويخفض من أعباء الديون, ونستعرض بعض سياسات البنوك المركزية فيما يلي:

يذكر أن الفيدرالي الأمريكي قام بتشديد السياسية النقدية ورفع  أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أعلى مستوياتها منذ 20 عاما إلى مستويات (5.25% - 5.50%)؛ وذلك نتيجة ارتفاع معدلات التضخم إلى 9.1% في يونيو 2022، ولكن من الواضح أن حرب الفيدرالي الأمريكي تؤتي ثمارها، فبعد سنتين من تشديد السياسة النقدية تراجع التضخم إلى مستويات 3% في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في يونيو 2024، ليقترب الفيدرالي الأمريكي تدريجيا من هدفه للتضخم عند مستويات 2%، وبالتالي تراجع مستويات التضخم بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى 4.1% وضعف مستويات التوظيف مع تباطؤ معدل نمو الأجور, جعل المستثمرين حول العالم يتوقعون أن يقوم الفيدرالي الأمريكي بالتحول من تشديد السياسة النقدية إلى تيسير السياسة النقدية؛ وذلك بخفض الفائدة بربع نقطة أساس في اجتماع الفيدرالي الأمريكي بسبتمبر 2024؛ حيث ارتفعت هذه التوقعات بأكثر من 95% وفقا لـ (cmegroup)، بالإضافة إلى وجود تغير في لهجة رئيس الفيدرالي الأمريكي جيروم باول، وكذلك العديد من أعضاء الفيدرالي الأمريكي، حيث صرح جيروم باول داخل أروقة الكونجرس الأمريكي بأن التضخم المرتفع ليس التهديد الوحيد الذي يواجهه، مشيرًا إلى أن تقييد السياسات بعد فوات الأوان، أو بشكل أقل مما ينبغي، يمكن أن يؤدي إلى إضعاف النشاط الاقتصادي والتوظيف على نحو غير مبرر.

وفيما يلي التوقعات الواردة ضمن التوقعات الاقتصادية الصادرة عن الفيدرالي الأمريكي خلال شهر يونيو 2024:

فمن المتوقع أن تستقر أسعار الفائدة الأمريكية عند مستويات 5.1% في عام 2024، على أن تنخفض إلى مستويات 4.1% في عام 2025، وأن تتراجع إلى 3.1% بعام 2026، ثم أن تستقر في حدود 2.8% على الفترة طويلة الأجل. في حين أن التوقعات السابقة تتوقع رفع الفائدة إلى 4.6% هذا العام على أن تتراجع إلى 3.9% في 2025، ثم أن تتراجع إلى 3.1% في عام 2026، على أن تستقر في حدود 2.6% على المدى طويل الأجل.

ومن المتوقع ارتفاعGDP  في الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 2.1% بعام 2024، على أن تتراجع إلى مستويات 2% خلال 2025وعام 2026.

كما تشير التوقعات إلى أن معدل البطالة سيصل إلى 4% في 2024، ولكن من المتوقع أن يرتفع إلى 4.2% في عام 2025، ثم أن يتراجع إلى  4.1% في 2026، إلى أن يصل على الفترة طويلة الأجل إلى 4.2%. بينما كانت التوقعات أن يصل معدل البطالة عند 4% في عام 2024، ثم يرتفع إلى 4.1% في عام 2025، على أن يتراجع مرة أخرى إلى 4.0% في 2026. وإذا نظرنا إلى التضخم الأمريكيCPI  فمن المتوقع أن يستقر في حدود 2.6% هذا العام 2024، على أن يتراجع إلى مستويات 2.3% في العام القادم 2025، على أن يصل إلى 2% في 2026، ويستقر عند هذه المستويات على الفترة طويلة الأجل, في حين أنه إذا رأينا التوقعات السابقة فإنها كانت تشير إلى أن  التضخم سيصل إلى 2.4% في 2024 ويتراجع إلى 2.2% في 2025، ثم يتراجع مرة أخرى في عام 2026 في حدود 2.0% في 2026، وبالتالي هذا يعني أن المتوقع للتضخم كان في التوقعات السابقة أفضل ولكن بسبب استمرار التوترات الجيوسياسية حول العالم مع استقرار أسعار النفط، زادت توقعات التضخم، ولكن في جميع الأحوال فهي نسب جيدة نحو مستهدفات الفيدرالي الأمريكي.

ومن المتوقع أن يصل التضخم الأساسي core CPI الذي يستبعد الغذاء والطاقة إلى مستويات 2.8% خلال عام 2024، على أن يتراجع إلى مستويات  2.3% خلال عام 2025، على أن يتراجع إلى 2% في 2026، في حين  كانت التوقعات السابقة أن يصل  التضخم الأساسي لمستويات 2.6% في عام 2024، على أن يتراجع إلى مستويات 2.2% في عام 2025، ويستمر التراجع إلى 2% في عام 2026.

ويعتبر المركزي الأوروبي من أوائل البنوك المركزية العالمية التي قامت بتخفيض الفائدة، وذلك بعد النجاح في الاقتراب من مستويات التضخم المستهدفة، حيث تراجع التضخم من مستويات 11.6% في أكتوبر 2022إلى مستويات 2.5% في يونيو لعام 2024, كما قرر مجلس المركزي الأوروبي الإبقاء على تثبيت أسعار الفائدة وذلك في اجتماع المركزي الأوروبي في يوليو لعام 2024، حيث دعمت البيانات الاقتصادية هذا القرار؛ إذ تشير البيانات إلى أن اقتصاد منطقة اليورو نما في الربع الثاني من عام 2024، 0.3%، وهو أعلى من الربع الأول.

واستمد هذا التحسن بسبب قطاع الخدمات، خاصة أن هناك تراجعا كبيرا في النمو الصناعي، بالإضافة إلى تراجع كبير في الصادرات، كما أن قطاع الاستثمار كان يعاني من تباطؤ النمو في عام 2024، وسط حالة من عدم اليقين بسبب الانتخابات الفرنسية واستمرار أزمة روسيا وأوكرانيا وقوة صادرات الصين، خاصة من السيارات الكهربائية، والتي تكلفتها أقل من السيارات الأوروبية. في ظل زيادة الضغوط من ارتفاع الأجور خاصة بعد العديد من المظاهرات في الدول الأوروبية للمطالبة بزيادة الأجور، وبالتالي انعكس ذلك على زيادة الضغوط التضخمية، وخاصة تضخم قطاع الخدمات.

وصرحت كريستين لاجارد، محافظ المركزي الأوروبي، بأن المركزي الأوروبي مستمر في هدفه لعودة التضخم إلى مستويات 2%، وأنهم سيحافظون على أسعار الفائدة مرتفعة طالما كان ذلك مهما لتحقيق هدف التضخم، وأنهم لا يضعون توقعات سابقة عن موعد تخفيض الفائدة ولكنهم يضعون توقعاتهم وينفذون قرارتهم في كل اجتماع بمفرده بناء على البيانات الواردة، وخاصة بيانات الأجور، بالإضافة لبيانات التضخم ومعدل النمو وقطاع الاستثمار.

ولكن هناك حالة تفاؤلية في منطقة اليورو؛ فمن المتوقع أن تنتعش الصادرات مرة أخرى، خاصة في ظل زيادة الطلب العالمي بعد فترة جائحة كورونا والتعايش مع أزمة روسيا وأوكرانيا وزيادة الطلب على السياحة الأوروبية من جديد. ومن المتوقع أن تنخفض تكلفة الديون خلال الفترة القادمة.

وجدير بالذكر أن حرب التضخم التي يخوضها بنك إنجلترا تُعد واحدة من أشد المعارك التي يخوضها أي بنك مركزي في دول مجموعة السبع، حيث ارتفع التضخم لمستويات 11.1% عام 2022، متأثرا بجراح الأزمة الروسية الأوكرانية والتخبط السياسي في إنجلترا مع تغييرات كثيرة في الحكومة، ولكن استطاع بنك إنجلترا الوصول بالتضخم إلى 2%، وهو يعتبر من أوائل البنوك المركزية في العالم وصولا للمستهدف، وذلك بعد معركة تشديد السياسة النقدية، والتي قام بنك إنجلترا برفع الفائدة خلالها إلى مستويات 5.25%، مع توقعات كبيرة ببدء سلسلة التخفيضات للفائدة خلال الاجتماعات القادمة, خاصة بعد اجتماع يونيو 2024، والذي صوتت فيه لجنة السياسة النقدية، والتي تتكون من 9 أعضاء، منهم 7 أعضاء قاموا بالتصويت على تثبيت سعر الفائدة عند مستويات 5.25%. كما قام عضوين بالتصويت لصالح خفض سعر الفائدة بمقدار 0.25 نقطة أساس إلى 5%، ولم يقم أي عضو بالتصويت لرفع الفائدة. وقد تم التوضيح في تقرير السياسة النقدية لبنك إنجلترا لشهر يونيو 2024، أنه من المتوقع استمرار تراجع التضخم للأسر في الفترة قصيرة الأجل. ولكن من المتوقع أن يرتفع معدل التضخم في مؤشر أسعار المستهلكCPI  في النصف الثاني من هذا العام ولكن هذا الارتفاع متوقع أن يكون طفيفا.

كما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي GDP بأكثر من المتوقع خلال النصف الأول من هذا العام. ولكن ما زالت توقعات بيئة الاستثمار تشير إلى نمو متباطئ بربع نقطة فقط حتى نهاية العام، كما يرى بنك إنجلترا أنه ما زالت هناك تحديات تواجه سوق العمل، خاصة في ظل حالة عدم اليقين بسبب الانتخابات البريطانية وفوز حزب العمال البريطاني. كما تراجع التضخم في قطاع الخدمات إلى 5.7% مايو 2024 مقارنة بـ 6% في مارس 2024 ولكنه جاء أعلى من التوقعات.

وأكدت لجنة السياسة النقدية لبنك إنجلترا أن لديها أولوية في الأهداف، وهو الوصول بالتضخم للمستهدف عند 2%، على أن يكون هذا الهدف مستداما، وأكد بنك إنجلترا أن استمرار تشديد السياسة النقدية أثر بالسلب على معدلات نمو الإنتاج وعلى قطاع الأعمال، ولكنه اضطر إلى هذه السياسة التشديدية بسبب الضغوط التضخمية، ولكن التوقعات تشير إلى تحسن تدريجي في بيئة الأعمال ونشاط قطاع الأعمال، خاصة في ظل توقعات بخفض الفائدة من بنك إنجلترا تدريجيا.




المراجع

_ نورهان عبدالرحمن، 1/9/2024، اتجاهات السياسة النقدية في العالم، رئاسة مجلس الوزراء مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.

_ احمد معطي، 1/9/2024، السياسة النقدية العالمية وكبح جماح التضخم، رئاسة مجلس الوزراء مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.

المقالات الأخيرة