إن
كافة خرائط العالم غير حقيقية".. تبدو هذه نقطة بداية ملائمة لفهم الجغرافيا
الجديدة للكوكب؛ فالتمثيل الهندسي المسطح الذي يتم الاعتماد عليه في تتبع التطورات
العالمية والتفاعلات اليومية العابرة للحدود، يضع حدوداً لإدراكنا لحالة العالم
وعلاقات القوة في النظام الدولي. وتكفي نظرة واحدة إلى "خريطة مركاتور"
شائعة الانتشار لفهم كيف يتم تشويه فهمنا للمساحات في العالم لصالح الشمال على
حساب دول الجنوب، في امتداد للهيمنة الاستعمارية التقليدية حتى على إدراكنا
للمكان.
وعلى
سبيل المثال لا الحصر، فإن مساحة أفريقيا في الواقع أكبر بثلاثة أضعاف من أمريكا
الشمالية، وكذلك أكبر من روسيا، عكـس مـا تظهـره الخريطـة. وتعد مساحة الهند أكبر
من الدول الاسكندنافية مجتمعةً، كما أن مساحة روسيا وكندا في الواقع لا تتجاوز 5%
من سطح الأرض، بينما تظهرهما خريطة العالم لتشغلا مجتمعتين نسبة 25% تقريباً من
مساحة الكرة الأرضية.
مخطط
"هاو" الإمبراطوري
أخذت
الصين زمام المبادرة لإعادة هيكلة خريطة العالم لتعبر عن التغير في العلاقات
الدولية؛ ففي عام 2013 قام "هاو شياو جوانج" الخبير بمعهد الأكاديمية
الصينية للعلوم الاجتماعية بتصميم خريطة "عمودية" للعالم أصبحت ذائعة
الصيت في دوائر النخب الثقافية في بكين؛ لكونها تعبر عن الرؤية الصينية لمستقبل
الجغرافيا؛ حيث يعبر هذا المخطط عن عالم تهيمن عليه الصين، تحكمه طرق للشحن البحري
تمتد من بكين في المنتصف إلى كافة أرجاء العالم، بما في ذلك الممر القطبي الخالي
من الجليد في المستقبل، بينما تجد أوروبا – التي سيطرت على رسم الخرائط لعقود
ممتدة – نفسها في زاوية الخريطة الجديدة مع تحول مركز الثقل الاقتصادي إلى الشرق
وتغير المناخ بصورة جوهرية.
هذه
الرؤية الإمبراطورية للعالم تستند إلى إرث التاريخ ورؤية بكين لذاتها ككيان حضاري مركزي،
والصعود الاقتصادي والهيمنة على سلاسل التوريد العالمية والطموحات الجيوسياسية في
دوائر الجوار المباشر، كما تضع الحرب التجارية مع الغرب في سياق جغرافي يطرح
تصوراً لعالم بديل يتجاوز الانكشاف الجيوسياسي لبكين و"استراتيجية
الاحتواء" التي تتبعها واشنطن لحصارها بحرياً عبر شبكة من التحالفات والقواعد
العسكرية والانتشار العسكري في بحر الصين الجنوبي ونقاط الاختناق البحرية القريبة،
وخاصةً مضيق ملقا.
اشتعال
"حرب الجغرافيا"
لا
تقتصر إعادة رسم خريطة العالم على الصين فحسب؛ إذ يتزايد الاعتراف العالمي بأن
"خريطة مركاتور" قد عززت منظوراً غربياً مركزياً في فهم التفاعلات
العابرة للحدود على مدار عقود طويلة، وهو ليس مجرد قضية بصرية، وإنما منظور متكامل
لفهم العلاقات الدولية والتجارة والهيمنة الثقافية.
إنها
لحظة الصراع المتعدد الأطراف على "صناعة جغرافيا العالم الجديد"، تُعظم
خلالها القوى الكبرى التقليدية والصاعدة، بل نظيرتها المتوسطة، من معطيات موقعها
الجيوسياسي، وتتصور ذاتها "قلب الكوكب" ومحور التفاعلات الدولية، وهو ما
يفسر الطفرة غير المسبوقة في مشروعات الممرات البحرية والبرية الجديدة التي تعددت
خلال العقد الماضي، وتسعى إلى اختزال وقت وتكلفة حركة التجارة عبر العالم،
والابتعاد عن "نقاط الاختناق" وبؤر التوترات والصراعات التي تعطل سلاسل
التوريد، ومن خلالها يروج بعض الفاعلين الدوليين لمكانتهم كنقطة تقاطع حالية أو
ممكنة لمسارات التجارة وتدفقات الأموال والبيانات والطاقة.
وتمتد
"حرب الخرائط" لتشمل دول الجنوب التي باتت تضغط بقوة، فرادى وتكتلات
جماعية، لتبني خرائط جديدة أكثر عدالة ودقة في تمثيل التباينات الدولية؛ من حيث
توزيع السكان والموارد الطبيعية وفجوات التنمية، وما يترتب على ذلك في كيفية تعامل
الدول والمؤسسات الدولية مع القضايا العالمية من التغير المناخي إلى التجارة
والأمن.
فهم
"العالم الجديد"
إننا
إذن بصدد خرائط متعددة ومتعارضة لعالم جديد تتشكل ملامحه تدريجياً عبر تحولات
متتابعة لا تتوقف، مصحوبة بسياقات معقدة تتسم بالغموض وانعدام اليقين والتقلب.
وتبدو الملامح الأولية لخرائط هذا العالم قيد التشكل حسب ما يأتي:
1-
التعايش بين المتناقضات الجيوسياسية: فلا يمكن القطع، بصورة يقينية، بهيمنة ظاهرة
أو اتجاه معين على التفاعلات العالمية؛ وبذلك تتزامن التيارات العالمية مع اتجاهات
المحلية وأيضاً الإقليمية، والاتصال مع الانفصال، والتفاعل مع الانعزالية،
والقومية مع العولمة. كما تداخلت أدوار الفاعلين في العلاقات الدولية ضمن شبكات
شديدة التعقيد وتفاعلات سريعة لا تتوقف.
2-
التغير المتواصل للحدود والأقاليم: إن جغرافيا العالم الجديد لا تعترف بحتميات
الموقع والمساحة وقواعد ديمومة وثبات الفواصل بين التكوينات الرئيسية في العالم،
إذ تصاعدت أهمية ظواهر مثل "الحدود المتحركة" و"الاتصال
الإقليمي"، وأصبحت "الأقاليم البينية" والوسيطة ساحات للتنافس
الدولي على النفوذ مثل الهندوباسيفيك وأوراسيا، وكذلك اشتعل الصراع على القطبين
الشمالي والجنوبي، والتنافس المحموم على رسم "جغرافيا الفضاء"
والاستحواذ على المدارات المحيطة بكوكب الأرض.
3-
هيمنة الاستقطاب متعدد الأطراف: لا تلوح في الأفق بشائر توافق عالمي بين القوى
الكبرى لمواجهة التهديدات العابرة للحدود، فالاستقطاب العالمي والإقليمي أصبح هو
السمة الغالبة على العلاقات الدولية؛ بدايةً من مساعي الغرب لاستنزاف روسيا،
مروراً بالسعي الأمريكي لتطويق الصين وحرمانها من الوصول إلى تقنيات متقدمة وتغيير
الشركات الغربية سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن بكين، وانتهاءً بتحرك القوى
المحورية في أقاليم العالم لإثبات نفوذها وقدرتها على التأثير، سواء بتحريك
الميليشيات المسلحة، وتأجيج حروب الوكالة في بؤر الصراعات، أو بالتغلغل العسكري
والاقتصادي والثقافي في مجالها الحيوي ودول الجوار. ولا ينفصل ما سبق عن سعي
"دول الجنوب العالمي" إلى إثبات وزنها وتأثيرها في "العالم
الجديد" عبر تأسيس تكتلات دولية فاعلة، والضغط في المنظمات الدولية سعياً إلى
إعادة صياغة الأجندة العالمية في قضايا البيئة والتنمية الاقتصادية.
4-
صعود "جغرافيا الطاقة والموارد": الاهتمام العالمي بالمعادن الأرضية
النادرة (Rare
Earth)
يدفع إلى إعادة رسم خريطة الموارد، وفي الخلفية تتفجر صراعات للسيطرة على مكامن
الليثيوم والنحاس والنيكل والكوبالت؛ نتيجةً للاهتمام بموارد الطاقة الجديدة
والطاقة الخضراء، في مقابل ثبات أهمية النفط والغاز، باعتبارها عصب التقدم الصناعي
الحديث.
5-
الصراع على مسارات وتدفقات البيانات: لا يقتصر التنافس الدولي على الموارد المادية،
وإنما يشمل كل ما يتعلق بالتدفقات الافتراضية، شاملاً كابلات الإنترنت ومراكز
البيانات ودورات تصنيع المعالجات وأشباه الموصلات المتقدمة، بالإضافة إلى البيانات
التي أصبحت ثروة لا تقدر بثمن في عصر الذكاء الاصطناعي؛ ما يخلق حروباً اقتصادية
شاملة تتمحور حول الهيمنة على خلق ومعالجة وتوظيف البيانات بصورة غير مسبوقة في
التاريخ البشري.
6-
الانتشار غير المسبوق للذكاء الاصطناعي: إن عنوان "العالم الجديد" هو
"الذكاء الاصطناعي" بلا منازع مع توسع تطبيقاته في كافة المجالات،
وتصاعد الاعتماد عليه في إدارة المهام والحياة اليومية، مع تحوله من نطاق التجربة
إلى منتجات ملموسة قابلة للاستخدامات والاستثمارات الضخمة لتطويره. ورغم ذلك لا
يزال العالم يواجه إشكالية غياب الأطر التنظيمية لاستخداماته، والمخاوف من تهديدات
خروجه عن السيطرة وتوظيفه كسلاح فتاك متعدد الوظائف لنشر الفوضى وعدم اليقين.
7-
الاهتمام الاستثنائي بالتهديدات البيئية: يبقى التهديد الأهم هو الانحدار المستمر
في حالة "كوكب الأرض" والتغير المناخي الذي يضع البشرية أمام مصير ضبابي
قد يعصف بقابلية بقاع عديدة للحياة، وهو ما يأتي في خضم التحذيرات من
"الانهيار البيئي" الراهن، والترقب لتأثيرات الكوارث الطبيعية والأوبئة
عالمية الانتشار، والانجراف السريع نحو حافة الهاوية البشرية.
تعد
هذه السياقات نقطة انطلاق "الأقاليم 2024" الذي يسعى إلى منح القارئ
العربي بوصلة أكاديمية جديدة لقراءة واستشراف خريطة هذه العالم الجديد ذي الملامح
غير المكتملة، مسترشدين في ذلك بفلسفة "إنترريجونال للتحليلات
الاستراتيجية" في قراءة التطورات العالمية من منظور "التفاعلات العابرة
للأقاليم"، واعتبار الوحدة الرئيسية للتحليل هي "الإقليم" الذي
يجمع وحدات دولية متقاربة جغرافياً تتشارك في الهوية، والثقافة، والفرص، والتهديدات
بحيث تشكل التفاعلات بين هذه التكتلات الجغرافية حالة العالم الراهنة.
ويبقى السؤال الأهم ليس موقع "العالم العربي" ضمن الخرائط المتعارضة للعلاقات الدولية الجديدة، وإنما إمكانية صناعة "خريطة عربية بديلة" لهذا العالم، تنطلق من مصالح مشتركة، وإمكانيات وقدرات واقعية، ورؤية كلية لمصير الإقليم ومقدراته، بدلاً من البحث عن مكانة مميزة ضمن جدول أعمال الأطراف الأخرى.
المراجع:
د.
محمد عبد الله يونس، 10،6، 2024،
كيف نفهم الصراع القادم على جغرافية العالم؟،انتريجونال.
همام طه، 14.10.2016، الإنسان والمكان.. علاقة يصوغها تضافر أبعاد الجغرافيا
والتاريخ والسياسة، موقع العرب