الاقتصاد اللبناني في مفترق طرق
فرع القاهرة

 

تشكلت الأزمة الاقتصادية في لبنان نتيجة للعديد من نقاط الضعف الهيكلية التي ترسخت على مر الزمان بفعل تأثير عدة عوامل داخلية وخارجية. بدأت هذه الأزمة مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 واستمرت حوالي 15 عامًا، مما ألحق دمارًا بالغًا بالبنية التحتية وأسهم في تدهور الظروف الاقتصادية والمالية. كما تفاقمت الأزمة بتأثير العدوان الإسرائيلي عام 2006، والاستمرار في تبادل إطلاق النار بين إسرائيل ومليشيا حزب الله اللبناني على الحدود الجنوبية، بالإضافة إلى الأضرار الناتجة عن الصراع في سوريا وتدفق اللاجئين إلى لبنان، الذي يمثلون حاليًا ربع سكان البلاد. تفاقمت المحنة مع ارتفاع مستويات الفساد في لبنان، والفشل المستمر في تنفيذ الخطط الاقتصادية المعتمدة. لم يتم اعتماد الموازنات العامة للدولة منذ عام 2005 وحتى نهاية 2017، مما أدى إلى تأخر دائم في اعتمادها عن مواعيدها الدستورية ولهذا يستدعي الوضع الحالي من السلطات اللبنانية أن تعتمد على نموذج اقتصادي بديل.

السياق الاقتصادي الحالي في لبنان

شهدت الأوضاع الاقتصادية تدهورًا سريعًا بدءًا من عام 2018، بسبب تراجع الناتج المحلي الإجمالي، وتدهور سعر صرف الليرة أمام الدولار، وزيادة الدين العام وعجز الموازنة العامة. كل ذلك أدى إلى استقالة رئيس الحكومة السابق “سعد الحريري” في 29 أكتوبر 2019، احتجاجًا على استخدام السلاح ضد المتظاهرين في احتجاجات شعبية بدأت في 29 سبتمبر من العام نفسه، استجابة للمعاناة من الظروف الاقتصادية. وتسبب ذلك في حالة فراغ حكومي استمرت نحو 13 شهرًا، مما زاد من حدة التدهور الاقتصادي.

لم تتوقف التحديات الاقتصادية عند هذا الحد؛ ففي عام 2020، تفاقمت الأزمة بشكل ملحوظ نتيجة تداعيات جائحة كورونا والانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في أغسطس من العام نفسه. بعد الانفجار، أدى ذلك إلى زيادة معدلات البطالة، وتراجع النمو الاقتصادي، وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وارتفاع الدين العام. كما استمرت التحويلات المالية من المغتربين اللبنانيين في الانخفاض، بعد أن كانت قد بدأت بالتراجع بشكل كبير قبل الاحتجاجات، خاصة منذ عام 2014 عندما قلص اللبنانيون في دول الخليج تحويلاتهم بسبب انخفاض أسعار النفط وما نتج عن ذلك من تأثيرات في الوظائف والأجور. وقد أسهم الفراغ الحكومي الذي استمر لمدة ثلاثة أشهر في تفاقم هذه الأزمة، حتى تشكلت حكومة “ميقاتي” التي نالت ثقة البرلمان في 20 سبتمبر 2021.

اتصًالًا، تُعتبر العمليات العسكرية المتبادلة بين حزب الله وإسرائيل محصورة منذ الثامن من أكتوبر، وهو تاريخ انضمام حزب الله إلى جبهة الإشغال في جنوب لبنان. ومع ذلك، فإن تداعيات هذه العمليات تؤثر في جميع قطاعات البلاد، وبشكل خاص في الجوانب الاقتصادية والمالية والسياحية. وقد زادت هذه التأثيرات مع خروج العمليات عن حدود الجنوب، كما حدث في مارس الماضي في البقاع وبعلبك.

 

كما تسلط الأزمة الاقتصادية الحادة والظروف الراهنة التي يمر بها لبنان الضوء على معاناة قطاع الطاقة في البلاد، حيث أعلن لبنان رسميًا يوم 17 أغسطس 2024، دخوله في العتمة الشاملة مجددًا، مع إعلان مؤسسة كهرباء لبنان نفاد مادة الغاز أويل من معمل الزهراني لتوليد الكهرباء، الواقع جنوب البلاد، وباتت كل المرافق العامة تعتمد كليًا على المولدات الكهربائية لمواصلة تقديم خدماتها، والجدير بالذكر اعتماد قطاع الطاقة بشكل كامل على استيراد الوقود من الخارج. هذا الاعتماد يفرض ضغوطًا كبيرة على الموارد المالية في ظل الأوضاع الصعبة والتوتر السياسي المستمر منذ سنوات. في الواقع، فإن استيراد الوقود في ظل الأزمات الاقتصادية يضع أمن الطاقة، الذي يُعتبر جزءًا أساسيًا من الأمن القومي لأي دولة، في خطر كبير، مما ينذر بانهيار لبنان.

ومن أبرز ملامح تفاقم الوضع الحالي للأزمة الاقتصادية بلبنان انكماش مستمر بالناتج المحلي الإجمالي، والتدهور المستمر لسعر صرف الليرة والنقص الحاد للوقود، وذلك كالتالي:

انخفاض النمو الاقتصادي وزيادة التضخم

سجل الاقتصاد اللبناني نموًا في الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2011 وحتى 2017، كما سجل الاقتصاد اللبناني معدلات نمو سالبة منذ العام 2018، كما سجلت أعلى نسبة لها عند -20% عام 2020، وهو الأسوأ منذ عام 1990.

كما توقع تقرير صادر عن البنك الدولي أن يسجل لبنان نموًا اقتصاديًا بنسبة 0.5% في عام 2024، مقارنة بانكماش اقتصادي بنسبة 0.2% في عام 2023 و0.6% في العام 2022. ومن المتوقع أيضًا أن يتحسن متوسط نموّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد الواحد من 1.2% في عام 2022 إلى 2.4% في عام 2023 و3.1% في عام 2024.

ويواجه لبنان أزمة حقيقية غير مسبوقة في سعر صرف عملته المحلية أمام الدولار الأمريكي تمثلت في انهيار في قيمتها مقابل الدولار في نهاية شهر يناير 2023، لتصل أربعين ضعف ما كانت عليه قبل أكثر من ثلاث سنوات بقليل، مع أزمة تطال جميع قطاعات البلاد. وفي عام 2022، كان يتم تبادل العملة الوطنية بـ 30 ألف ليرة للدولار الواحد في السوق الحرة، دون أن تتمكن تدخلات مصرف لبنان من دعمها ضد تراجعها المحتوم. وفي نهاية آخر أسبوع من يناير 2023، تغيّرت قيمة الليرة مرة أخرى لتصل إلى 56 ألف مقابل الدولار الواحد حتى وصل سعر الليرة اللبنانية لحوالي 89 ألف مقابل الدولار الأمريكي في 2024.

كما أسهم انهيار العملة الوطنية في ارتفاع معدل التضخم بشكل مفرط خلال عام 2024 مسجلًا مستويات عالية حيث سجل 6450.23 نقطة في يونيو 2024 مقارنة بــــــــــ 2217.99 نقطة يناير 2023 بزيادة قدرها 190% إذ قفز مؤشر أسعار المستهلكين

تفاقم الدين الخارجي وأزمة الطاقة

تراجع الاحتياطي النقدي حيث انخفض الاحتياطي وسجل 14.8 مليار دولار في فبراير 2024 ويُمكن إرجاع ذلك إلى تراجع مصادر النقد الأجنبي في البلاد، لا سيما تحويلات العاملين بالخارج والاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة وبالنسبة لدولة مستدينة ومعتمدة على الواردات بشكل أساسي، يعتبر هذا التراجع بمثابة إنذار بالنسبة للحكومة يشير إلى تقويض قدرتها على سداد مدفوعات وخدمة الدين العام.

لذلك يعاني لبنان من ارتفاع الدين العام بشكل مطرد منذ 2011 وحتى وقتنا هذا ويُلاحظ أن الاتجاه العام للدين الخارجي في لبنان يميل إلى أن يكون موجبًا؛ إذ ارتفع بحوالي 4.1% من 38.8 مليار دولار خلال يناير 2022 إلى 40.4 مليار دولار بحلول فبراير 2023.

كما يعاني لبنان من أزمة طاقة مستمرة منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، حيث يتزايد الطلب على الكهرباء سنويًا دون موازاة ذلك بزيادة في إنشاء محطات توليد الطاقة. لم يتم بناء أي محطات كهربائية جديدة منذ عام 1999. خلال أكثر من 23 عامًا، أضاف لبنان فقط حوالي 270 ميجاوات إلى الشبكة من المولدات، بينما تحتاج البلاد في أوقات الذروة إلى حوالي 3600 ميجاوات. حاليًا، لا يمتلك لبنان سوى أقل من 1800 ميجاوات، مما يعني أنهه بحاجة إلى نحو 1800 ميجاوات إضافية.

وذلك زاد من معاناة المواطنين من قطع الكهرباء والتي تصل إلى ساعات طويلة تتجاوز 20 ساعة في اليوم ببعض المناطق حتى دخل لبنان في ظلام تام للمرة الثانية مع إعلان مؤسسة كهرباء لبنان نفاد مادة الغاز أويل من معمل الزهراني لتوليد الكهرباء، الواقع جنوب البلاد، وباتت كل المرافق العامة تعتمد كليًا على المولدات الكهربائية لمواصلة تقديم خدماتها.

في الختام، لا شك أن النموذج الاقتصادي السابق، الذي كان يعتمد على تعويض العجوزات التجارية الكبرى بتدفقات من رءوس المال الأجنبية، لم يعد قابلًا للاستمرار في ظل التراجع الكبير لهذه التدفقات. ولهذا، يتعين على لبنان تعزيز صادراته وتوفير بدائل محلية للسلع المستوردة، مما يستدعي تشجيع الإنتاج المحلي بشكل شامل. من المهم أيضًا ألا يتجاهل لبنان قطاعاته التجارية والخدمية التي تمثل أبرز مزاياه التنافسية، مثل الخدمات الصحية والتعليمية والهندسية والسياحية والمالية. لقد كانت هذه القطاعات ولا تزال محركات رئيسية للاقتصاد اللبناني، حيث يتخرج آلاف الطلاب اللبنانيين سنويًا في مجالات تجارية وخدمية. لذا، يجب أن يستمر أي نموذج اقتصادي جديد في دعم القطاع الثالث كونه المحرك الأساسي للنمو، مع تعزيز القطاعين الأول والثاني لتحقيق تقدم ملحوظ نحو الاكتفاء الذاتي في تلبية احتياجات الاستهلاك الداخلي وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية.

 

 

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : آية حمدي

التاريخ : 7/9/2024

المقالات الأخيرة