المشهدية
السياسية و الإنسانية، و التوثيق القانوني و التاريخي
يبدو
خطاب الصورة أو الخطاب المرئي، والفيديو الطلقة على وسائل التواصل الاجتماعى
الأكثر فعالية، وتأثيراً على المتلقى وعمليات التلقي والتمثل، وخاصة لدى الأجيال الجديدة،
وجيل Z، وهو الأكثر استخداما وتمثلا لها فى كافة
تفاصيل الحياة اليومية وأحداثها الاجتماعية والشخصية، فى الحب، والكره، والمشاعر
المترعة بالألم، والفرح، والسعادة، والشر، والإيمان الديني، والإلحاد، والحياد
الدينى حول وجود الله -سبحانه وتعالى، أو عدم وجوده لدى بعضهم، وبث الكراهية
للآخر، أو قبوله مع الاختلاف. لقد باتت هذه الخطابات المرئية كاشفة عن مكامن
الشعور، والتعبيرات عن الأوهام، والآراء، والأكاذيب فى سرعة فائقة وكاشفة عن عوالم
مستهلكي وفاعلي الحياة الرقمية ومجموعها الفعلي، وذلك فى الحياة الشخصية، حيث يلعب
الخطاب المرئي وتفضيلاته البصرية، أو الشفاهية المصاحبة لها، دوراً وظيفياً، فى
التأثير على اتجاهات الآخرين، أو تثبيت لها -كل بحسب مستويات تعليمه ومعرفته ووعيه
السياسي والاجتماعي- وفى طرح الأزمات التي تواجهه شخصيا أو جماعيا، والكوارث
الطبيعية، والإنسانية، والحروب والنزاعات المسلحة، وتعرية سياسات ومواقف السلطات
الحاكمة في الدول الكبرى فائقة التطور، أو المتوسطة، أو الصغرى. مرجع هذا التأثير
أن الخطاب المرئى يخاطب العيون، ومعها الحواس والمشاعر، ويولد التأثير المباشر من
عمليات المشاهدة/ الفرجة. وقد يدفع مستهلك الصورة والفيديو الطلقة إلى البحث فيما
وراء كل خطاب، وأسبابه، وتاريخه، وتطوراته لدى بعضهم.
الخطاب
المرئى تأثيره يدور حول تفصيلات الصورة، والفيديو الطلقة، الذى يخاطب بصرياً
النظرات الخاطفة، أو ما سبق أن أطلقنا عليه "النظرات/ الومضات فائقة السرعة".
بدت
الوظيفة التأثيرية للخطاب المرئى -فائق السرعة- فى الجوانب المأساوية فى الحياة؛
شخص لا يجد مأوى وملقى على الطريق فاقد الذاكرة، بدون مأكل، طفل تائه بعيداً عن
أسرته، سيدة مسنة، تنام على قارعة الطريق في برد الشتاء القارس، أم تصرخ بحثاً عن
وليدها، أو سيدة فقدت عقلها، وتثرثر بلغة غير مفهومة..الخ. الخطاب المرئى يستثير
مشاعر مستهلكين على وسائل التواصل الاجتماعى لنجدة بعض هؤلاء من ضحايا تراجيديا
الحياة!
يمتد
الخطاب المرئى إلى تفاصيل الهوايات الشخصية؛ من اقتناء الحيوانات الأليفة -الكلاب
والقطط- ومحبي الطعام والشراب، والكتب، والروايات، والشعر، ولوحات الفن التشكيلى،
والنحت، إلى عشاق الأمكنة التاريخية، والمقاهى والمشارب، والورود والغابات،
والشواطئ...الخ. هناك أيضا مستهلكى الخطاب المرئى الإباحى الذى يخاطب رغبات ودوافع
جنسية طبيعية، أو غير مألوفة، وبات خطابا سريعاً فى تجسيداته للأوضاع الجنسية
المألوفة فى ثقافات العالم الجنسية، بل وغير المألوفة، على نحو مكثف وسريع... إلخ.
الخطاب
المرئى بات يمتد ليشمل أخطاء رجال السياسة، وتناقضاتهم في الخطاب السياسى، وبعض
هفواتهم وهناتهم السلوكية، على نحو أدى إلى كسر بعض الهيبة التى تحيطهم غالباً فى
المجال العام السياسى، والقيم السياسية الديمقراطية الليبرالية الغربية المتقدمة،
وتحرض على السخرية أحياناً، أو تدعو للتعبئة والتظاهر السياسى الحقوقى، والعمالى،
وتنظيم الحملات ضد سيساتهم الاقتصادية والاجتماعية، على نحو ما تم فى تنظيم
التظاهرات في فرنسا ضد رفع أسعار الوقود، أو تجاه المعاملة التمييزية للشرطة إزاء
الأقلية العربية المسلمة، أو تجاه معاداة السامية، أو قتل بعض المهاجرين المسلمين
من مثيل عبدالله أنذوروف -من أصول شيشانية - للمدرس الفرنسى صامويل باتى فى
16/10/2020 فى مدرسة "بوا دولن" في مدينة كونفلان سانت أونرين، بعد عرضه
على تلاميذه صوراً كاريكاتورية للنبى محمد -صلعم- فى درس عن حرية التعبير، أو
التظاهرات ضد العنصرية، أو تظاهرات اليمين المتشدد والمتطرف ضد الأقليات المهاجرة
-من المسلمين وغيرهم- فى بعض الدول الأوروبية، وتظاهرات المواطنين السود والبيض الأمريكيين
ضد المعاملة الخشنة والقاسية ضد السود مثل المظاهرات التى اندلعت سبسبب مقتل جورج
فلويد الذى توفى في 25 مايو 2020 فى مدينة مينابوليس فى الولايات المتحدة أثناء
تثبيته على الأرض لاعتقاله، وقام ضابط شرطة مينابوليس "دريك تشوفين"
بالضغط على عنق جورج فلويد، وخلال أربع دقائق صرخ جورج لا أستطيع التنفس، حتى توفى.
سُجلت
الحادثة فى عديد من مقاطع الفيديو على الهواتف المحمولة، وتم تداولها على نطاق
واسع على منصات التواصل الاجتماعى. وبعد قتله انطلقت المظاهرات فى منيابوليس في 26
مايو 2020، وتحولت إلى أعمال شغب، وتم تحطيم النوافذ فى دائرة الشرطة، وأُشعلت
النيران في متجرين، وتضررت العديد من المتاجر، واشتبك بعض المتظاهرين مع الشرطة.
تم تنظيم عديد من التظاهرات على منصات التواصل الاجتماعى للاحتجاج على بعض الوقائع
السياسية، أو الاجتماعية، أو الشرطية، وغيرها، ثم رصدها من خلال مقاطع الفيديو على
الهواتف المحمولة، ويتم بثها على منصات التواصل الاجتماعى، وتتم الدعوة للتظاهر،
فى الدول الأكثر تقدما.
في
عصر الصور الفيديوهاتية الطلقة تخلقت من بين سرعاتها المكثفة حالة مختلفة من
المشهدية المرئية/ الفيديوهاتية/ البصرية السياسية، والعسكرية والثقافية والفنية
والموسيقية، والاجتماعية، الشخصية والجماعية، المؤثرة على حالات الفرجة، والتمثل
والتلقي لها. في الوقت نفسه، لم تعد تعتمد على المهارة والثقافة البصرية التي كانت
جزءا من تكوين المصور المحترف، الذي تراجع نسبيا دوره! ولا للشخص العادي ملتقط الفيديو
والصورة من حاملي الهاتف المحمول أو آلة التصوير التي تراجع دورها كثيرا في حياتنا
الكونية. باتت المشهدية التصويرية والفيديوهاتية تعتمد على الهاتف النقال، والحدث
وموقع التقاط الصور والفيديوهات وبثها في لحظة وقوعها مباشرة – خاصة الوقائع
الحاملة لحادثة ما أو جريمة من الجرائم أو شغب أو كارثة طبيعية أو إنسانية أو موقف
إنساني ما.. إلخ – هنا التركيز الخاطف على الحدث ذاته وأطرافه مصادفة أو مشاركة في
ثناياه أو هوامشه، أو اللحظة الاستثنائية التي تجعل من الحادث أيا كان مثيرا لمن
يلتقطه بهاتفه المحمول والكاميرا.
الفيديو
الطلقة يخضع في بثه الفوري والمباشر أو ما بعد التقاطه -في بعض أو عديد الأحيان-
لعملية انتقاء وحذف وتوزيع على مواقع التواصل الاجتماعي مصحوبا بمنشور أو تعليق ما
من صانع الفيديو، أو ممن يعيدون توزيعه وبثه على صفحاتهم على الفيسبوك أو غيره من
المواقع. بعضهم يعيد تشكيل الفيديو الطلقة لإبراز وجهات نظرهم حول مضمونه ودلالته
البصرية، سواء بالموافقة عليه، أو المزايدة السياسية أو الأخلاقية أو الدينية، أو
تحويله لنقيض من خلال الحذف والإضافة.
بعض
الفيديوهات القديمة – لتظاهرات أو لأعمال شغب وعنف.. إلخ – يُعاد توظيفها لخدمة
أهداف سياسية أو دينية ومذهبية أو عرقية..إلخ، وذلك كجزء من النزعة الهجومية
والدفاعية والسجالية والتبريرية لخدمة الموقف المسبق لمستخدمي هذه الفيديوهات
والمقاطع السينمائية التسجيلية والوثائقية والتلفازية في خطابهم المرئي/
الفيديوهاتي الطلقة.
هذا
التوظيف للخطاب المرئي أنتج حالة من بعض
التزييف البصري، وخطاب الكذب المرئي. في الوقت نفسه قد يؤدي إلى وظيفة
تأثيرية على بعض متلقي الخطابات والتغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي.
إن
عالم الصورة المرسومةً على الصخور والحوائط والكهوف ارتبط تاريخيا بالموت، ومحاولة
الإنسان الانتصار الرمزي عليه، كوجه آخر للوجود الإنساني، ثم تطور ذلك تاريخيا إلي
الفنون التشكيلية، والصورة الفوتوغرافية، والسينمائية والتلفازية الذين أثروا على
الأدب وسردياته، ولحماية الأعمال الأدبية والشعرية، والأعمال المتجاوزة للأجناس
المتعددة والمختلفة، وعلى العقل والنظرات الإنسانية، والفلسفية والسوسيولوجية
والقانونية.
أدت
الثورة الرقمية وعوالم التواصل الاجتماعي إلى ثورة مماثلة وموازية في توظيفات
الصور والفيديوهات الطلقة لجميع مستخدمي هذه المواقع في الحياة اليومية ووقائعها
العادية، في حياة الفرد الرقمي/ الفعلي، والمجتمع والجماعة والأسرة والعائلة
وجماعة الرفاق والأصدقاء والعمل، والحي والشارع والجيران، وفي التقاط تفاصيل
الحياة اليومية ووقائعها العادية والاستثنائية، من مثيل الجرائم والتحرش والتنمر،
وحوادث الطرق والكوارث الطبيعية والإنسانية، والعمليات الإرهابية مثل الدهس
للآمنين، والطعن بالمدًي والسكاكين والمطاوي والسيوف..إلخ على نحو ما تم في فرنسا
وبلجيكا وغيرها من البلدان الأوروبية.
مع
ثورة الذكاء الإصطناعي، وعالم الإناسة الروبوتية، دخلت الصورة، والسينما والتلفاز
والفيديو إلى عالم مختلف، هو موت الصورة وفق بعضهم كريجيس دوبريه، والمصور
المحترف، والهاوي والعادي، وبوادر الروبوت وأنظمة الذكاء الإصطناعي قادر بفعالية
على صناعتها وفق أهواء وأغراض وطلبات من يستخدمه في صناعة الصور والفيديوهات
والأشرطة السينمائية. من ثم، باتت هناك إمكانيات للتلاعب في الصور والفيديوهات الميدانية
وبثها على مواقع التواصل الاجتماعي.
ثمة
سياسةً التلاعب بالصور والفيديوهات من قبل الأفراد، وأجهزة الدولة الأمنية
والاستخباراتية والعسكرية –ومثالها إسرائيل في حربها الوحشية على قطاع غزة-
وتوظيفها لتحقيق أهداف سياسية، وأيضا استخدام المجموعات المنظمة– ما يطلق عليهم
الكتائب الإليكترونية – التي تبث الخطابات المرئية والصور والمنشورات والتغريدات
في حروب المنشورات والفيديوهات بين الأطراف المتصارعة تبريرا وتكذيبا وهجوما
ودفاعا للجهة والطرف الذين يعملون معه. تمتد هذه الظاهرة السياسية وتتكثف
استخداماتها في أثناء الأزمات والحروب والنزاعات المسلحة والحروب الأهلية، وهو ما
يلاحظ في أثناء الحرب الإسرائيلية على المدنيين العزل والأطفال والنساء في قطاع
غزة، وضد حركة المقاومة الفلسطينية.
كل
هذه التغيرات أدت إلى نمط مختلف نسبيا من المشهدية الرقمية/ المرئية المفرطة في
سرعتها وحضورها على وسائل التواصل الاجتماعي، على نحو يجعل من مقولة "موت
الصورة" تحتاج إلي بعض من المراجعة، لأن القراءة الومضة، والمشاهدات
الومضاتية لجيل "زِد/Z"
وما بعد بات أقرب إلى استهلاك
وتلقي وتمثل الصور الومضات، والنظرات الومضات، والفيديوهات الطلقة، وخاصة في
النزاعات المسلحة والحروب، وغيرها من وقائع الحياة الكونية والمحلية والإقليمية.
بعض من هذه الظواهر الرقمية الجديدة مرجعه أن جيل "زِد/Z" والأصغر سنا ولدوا في ظل الثورة الرقمية، وشكلت
جزءا رئيسا من تكوينهم وثقافتهم، وباتوا جزءا من عوالمها ولغتها الرقمية وتنقلاتها
واستخدامها، ومن بينها مشهدية الفيديو الطلقة على نحو أدى إلى مشهدية مختلفة نسبيا
عن مشهدية السينما والتلفاز.
في
عصر النزاعات المسلحة والحروب تبدو المشهدية الفيديوهاتية الطلقة سائدة في تناصها
مع المنشورات والتغريدات على نحو ما ظهر ولا يزال في الحرب الروسية- الأوكرانية،
والعدوان الإسرائيلي على غزة، وعمليات حزب الله من جنوب لبنان، وردود وهجوم
الطيران والمدفعية الإسرائيلية عليها، وأيضا عمليات الحوثيين في إطار الحرب
وإطلاقهم المسيرات والصواريخ، واستيقاف وضرب بعض السفن الذاهبة إلى إسرائيل لدعم
المقاومة الفلسطينية، كجزء من السياسة
الإيرانية في المنطقة، ثم الهجمات التي تقوم بها أمريكا وبريطانيا على بعض مواقعهم
داخل اليمن. توثيق هذه العمليات مرئيا وبثها تلفازيا وعلى مواقع التواصل يمثل نمطا
من السرد الصًوري والفيديوهاتي، الذي يعتمد على اللغة المشهدية التي تركز –في إطار
الحرب على قطاع غزة– على الصدمة، والقصف الصاروخي والمدفعي والمسيرات، وأعداد
القتلى والجرحى والهجرة القسرية، والفزع والصراخ، واقتياد الأسري شبه عرايا في
قسوة البرد وتحولهم إلى كائنات مادون بشرية في انصياعهم لأوامر الجنود وضباط الجيش
الإسرائيلي، وهدم المباني والمنازل ومقتل ساكنيها... إلخ!
المشهدية
الرقمية في الحرب، هي خطاب رقمي مرئي يعتمد على الحركة / الحركية والإيقاعات
السريعة وتلاحق الصور، وعفوية خطاب الأطفال الذين تم إنقاذهم من تحت الأنقاض وقتل
آباءهم وأمهاتهم وأخوتهم، أو طفلة تقود أخيها الصغير أو تحمله أو تجلس بجانبه في
المستشفى وقد بُتِرتْ إحدى ساقيه أو ثملت إحدى عينية، أو طفلة تقول لطبيبها في
المستشفى هل ما حدث حلم أم حقيقة!؟
المشهدية
البصرية/ المرئية/ الفيديوهاتية، هي تفاصيل صغيرة وسريعة ومتلاحقة، ولكنها تحمل ما
وراء الصور من فظائع الحرب، وأثرها على الأطفال والنساء والمسنين والمدنيين. هي
أيضا مشهدية تدمير المباني وبعض أماكن العبادة، والهجرة القسرية، وقصف بعض سيارات
الإسعاف والمسعفين والعابرين بالمسيرات والرصاص.
فى
إطار عمليتى "طوفان الأقصى"، "والسيوف الحديدية" الإسرائيلية
قام طرفا الصراع بتدشين عملياتهم العسكرية، من رشقات الصواريخ من حماس والجهاد
الإسلامى، والقصف المدفعي، وتدمير الدبابات والمركبات العسكرية، وقصف الجنود،
وإسقاط بعض المروحيات، والطائرات الإسرائيلية المسيرة، أو تدمير بعض الآليات
العسكرية من "المسافة صفر"... هذا الخطاب المرئي بات يمثل أيضاً أحد
مواد تحليل تكتيكات الحرب الوحشية على قطاع غزة والمدنيين العزل، من بعض الخبراء
العسكريين عن مسارات واستراتيجيات الحرب. من ناحية أخرى، يقوم الجيش الإسرائيلى
بتدشين عملياته، وقصفه المدفعي والصاروخي الكثيف، وتدميره للمباني والمواقع وبعض
الأنفاق، بهدف مخاطبة الشعب الإسرائيلى، وبث الطمأنينة والأمن، فى ظل أزمته
الوجودية، بعد هجوم حماس والجهاد الإسلامي في السابع من أكتوبر 2023، وتوظيف
الدمار والقتل المروع فى محاولة لتحقيق وظيفة الردع لدول الدائرة البؤرية للصراع،
ودول الطوق، وأيضا للفواعل السياسية ما دون الدولة من القوى المدعومة من إيران
كحزب الله فى لبنان، ومليشيات الحوثى في اليمن، والمليشيات الشيعية في العراق.
توظف
حماس والجهاد الإسلامى الخطاب المرئي فى إثبات قدرات المقاومة في معارك الشوارع،
ومن داخل الأبنية المتصدعة والمهدمة تجاه الدبابات والمركبات وقنص الضباط والجنود،
وأيضا فى شجاعة المقاتلين المقاومين، واستمرارية إرادة الصمود فى مواجهة الجيش
الإسرائيلي، وأيضا فى قتل إسرائيل لبعض الأسرى لدى حماس والجهاد الإسلامى بعد
طوفان الأقصى.
لا
شك أن الخطاب الصورًي والفيديوهاتى لعب دوراً مهماً فى تحفيز الشباب من الفئات
الاجتماعية الوسطى- الوسطى، والوسطى- الصغيرة فى الخروج للتظاهر ورفض المجتمع، ثم
إلى الانتفاضات الجماهيرية واسعة النطاق فى تونس ومصر.
من
هنا لعب الخطاب المرئي– الفيديوهاتى الطلقة، والصور الفوتوغرافية- دوراً بالغ
الأهمية، فى تعرية السلوك السياسي والعسكري الإسرائيلي في الحرب على قطاع غزة،
ووثق انتهاكات إسرائيل لقانون الحرب، والقانون الدولي الإنساني، والتهجير القسري
للسكان من شمال القطاع-مليون ونصف- إلى جنوبه، وأيضا في توثيق هدم المنازل،
والأبنية العامة، والإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والارتفاع المتزايد كل ساعة
ودقيقة لأرقام الموتى، والجرحى، وأيضاً الحصار والعقاب الجماعى للمدنيين فى القطاع
وضرب واقتحام المستشفيات ونقص الدواء والماء والغذاء.
الأهم
أن توثيق هذه الجرائم من خلال الهاتف المحمول، والكاميرات، وبثها على وسائل ومنصات
التواصل الاجتماعى، لهذه المجازر البشعة، وذلك لتحريك بعض من اتجاهات الرأى العام
– الحقوقى والسياسى والإنسانى - فى الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، ودول
العالم ممن لا يزالون بعضهم يؤمن بهذه القيم الإنسانية والأخلاقية على نحو ما تجسد
في المظاهرات الضخمة في هذه البلدان. بعض الخطاب المرئى يشتمل على الصورة، مع بعض
التعليقات عليها بالإنجليزية، أو العربية، أو الفرنسية، أو الأسبانية أو الألمانية
أو الإيطالية، بعضها يوثق وقائع الدمار
للمبانى، وأخرى لمقتل الأطفال، والنساء وكبار السن، أو الرجال العزل من المدنيين،
وبعضها لفيديوهات لعمليات نقل بعض الموتى والجرحى من تحت الأنقاض.
بعض
الخطاب المرئى –الفيديوهاتى السريع والمكثف والطلقة- لأطفال يتامى، يرون بعض من
دراما عمليات قتل أسرهم، وتحول بعضهن/ بعضهم من الصغار الذين لا يتجاوزون السابعة
أو الثامنة إلى مسئولين عن أخوتهم الأصغر، من الثلاث والأربع سنوات داخل
المستشفيات، ولا عائل لهن/ لهم.
هذا
الخطاب بات أكثر تأثيراً على بعض اتجاهات الرأى العام الغربى، وساهم -ولايزال- فى
تحريك مشاعر الغضب، والتظاهر من أجل الهدن الإنسانية، ووقف فورى لإطلاق النار،
والتنديد بانتهاكات إسرائيل للقوانين الدولية للحرب، والقانون الدولي الإنساني
والدولي العام.
بعض
الخطاب المرئى، يحملُ تفاصيل حصار المستشفيات و مراكز الإيواء، وقصف بعض محيطها،
أو اقتحام جنود وضباط إسرائيليين لها، والقبض على بعض الأطباء والمسنين!
بعض
الخطابات المرئية يتمثل فى توثيق قصف بعض عربات الإسعاف، ومراكز الأونروا، على نحو
ما يشير بعض مسؤولى المنظمات الدولية فى خطابهم المرئى، أو المكتوب كمنشورات على
منصات التواصل الاجتماعى.
الخطاب
المرئي الإسرائيلي يتمثل فى إظهار حجم عمليات القصف، وأعداد القتلى والمصابين
الفلسطينيين، وأداء الجيش، وأعداد الألوية، وحجم الدمار واسع النطاق الذي تحققه
عمليات الويته المسلحة، من أجل تحقيق وظيفة الردع للفلسطينيين فى الضفة وقطاع غزة،
وأيضا لدول المنطقة، وأيضا لرأب الصدوع النفسية والاجتماعية للمجتمع، حول الجيش
ومجلس الحرب، بعد الإخفاق الاستخباراتى وأعداد القتلى والجرحي والمعاقين من ذوي العاهات
والآثار النفسية للعمليات العسكرية الدامية، وصدمة عملية طوفان الأقصى.
الخطاب
المرئي ظهر من بين تدافع وانفجار وقائع الحرب، وحولها أكثر تأثيرا مما سبق أن
أطلقنا عليه –في مقالات سابقة تابعت تحليليا مساراتها- "الحرب اللغوية"،
أو "حرب المصطلحات" بين الإسرائيليين، والمقاومة الفلسطينية فى وصف كل
طرف لأفعال وسلوك الطرف الآخر، وتدور فى غالبها حول مصطلحات قانون الحرب، والقانون
الدولى الإنساني، وقرارات الأمم المتحدة، وتفسيرها. أبرز علامات "حرب
المصطلحات"، و"حروب اللغة" دارت ولاتزال حول حق الدفاع الشرعى،
والتهجير القسري، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقى، والعقاب والحصار الجماعي،
وغيرها من المصطلحات القانونية الواردة بالمعاهدات الدولية ذات الصلة. هذا النمط
من الحروب الموازية المواكبة والمساوقة للسلوك العسكرى، والسياسي والديبلوماسي
والإعلامي، ليست جديدة، ولكنها اكتسبت أهمية متزايدة مع الحرب على قطاع غزة، إلا
أن الخطاب المرئى الذي يستصحب هذه المصطلحات المتصارعة لتكثيف أثرها لدى متلقى
الخطاب المرئى، ومستهلكيه الكثيرين على وسائل التواصل الاجتماعى.
لا
شك أن حروب الصور، والفيديوهات تمثل واحداً من أبرز التحولات فى الحرب على قطاع
غزة، أو صدمة طوفان الأقصى، وأدت إلى التأكيد على تداخل زمن الفعل مع زمن الصورة،
والخطاب المرئى، وهو ما حدث مع محاولة انقلاب غينادى ياناييف الفاشل للإطاحة
بجورباتشوف فى 18 أغسطس 1991 وحتى 22 أغسطس 1991. وقيام الفضائية الأمريكية CNN بنقل الأحداث مباشرة من موسكو وقت وقوعها،
وتطوراتها، وهو ما أدى إلى نهاية الفجوة الزمنية بين زمن الفعل، وزمن الصورة، لكن
ما يحدث فى مسارات الحرب على قطاع غزة أدى إلى كثافة، وتوحد زمن الصورة، والخطاب
المرئى، وبين زمن الحدث/ الفعل، ومن ثم إلى قوة التأثير البصرى/ المشهدى، والنفسى،
والسياسى على متلقى الخطاب المرئى على المستوى العالمى.
من
هنا شكل الخطاب المرئي الذى يوثق وقائع الحرب أحد أهم مصادر توثيق جرائم الحرب،
والقانون الدولى الإنسانى أمام محكمة العدل الدولية، وفق شكوى دولة جنوب أفريقيا،
وبعض مجموعات المحامين الفرنسيين فى المجال
الحقوقى الإنسانوي وهو ما تأكد في مرافعات فريق
الدفاع الجنوب أفريقي.
من
الملاحظ أيضا أن الخطاب المرئى حول انتهاكات إسرائيل للقوانين الدولية، والمذابح
فى قطاع غزة والضفة الغربية، أدت إلى إظهار بعض من الخلافات داخل بعض موظفى
الخارجية الأمريكية، ولدى بعضهم فى إدارة الرئيس جو بايدن المؤيد والداعم
لإسرائيل، ذو النزعة المسيحية الصهيونية، وأيضا بعض من الخلاف داخل الحزب
الديمقراطى.
لقد
أدى الخطاب المرئى إلى بعض من التعديلات الطفيفة والجزئية على خطاب ماكرون فى
فرنسا، فى المطالبة بوقفات -هدن- إنسانية وفق المصطلح الأمريكي، ووقف إطلاق النار،
والسعى إلى عدم امتداد الحرب إلى لبنان، من خلال السعى السياسى والديبلوماسى لدى
حزب الله. الخطاب المرئي أثر أيضا على بعض أعضاء البرلمان الفرنسى، والمطالبة
بمحاسبة 4000 من الجنود من ذوى الجنسية الفرنسية الذين يقاتلون مع القوات الإسرائيلية
فى حربها على قطاع غزة.
أدى
هذا الخطاب أيضا إلى التأثير على بعض من اليسار الفرنسى. من الشيق ملاحظة أن
الانحياز الأمريكى لإسرائيل داخل الكونجرس وأعضاءه، فى مساءلة بعض رؤساء الجامعات
الكبرى، حول بعض تظاهرات الطلاب المنددة بالجرائم الإسرائيلية ضد المدنيين، وعدم
وقوفهم ضدها بوصفها معادية للسامية! توثيق الخطاب المرئى لهذه المساءلة أظهر بعض
الممارسات المضادة لحرية الرأى من قبل بعض أعضاء الكونجرس، ودفع رئيسة جامعة
هارفارد العريقة إلى تقديم استقالتها.
⁃ من مجمل ما سبق نستطيع القول إن الثورة الرقمية باتت مؤثرة على بعض اتجاهات
الرأى العام، فى كافة دول العالم إزاء، كوارث الحروب، ولاسيما التى تقوم بها
إسرائيل كسلطة احتلال للأراضي الفلسطينية المحتلة بعد 5 يونيو 1967، واتفاقية
أوسلو. ومن ثم يشكل الخطاب المرئى، أحد مصادر التوثيق التاريخى، وكتابة التاريخ،
والأهم أنه بات أحد محركات الفعل السياسى على المستويات الوطنية والإقليمية
والدولية.
المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية و
الاستراتيجية.
نبيل عبد الفتاح
مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية
والاستراتيجية
29-1-2024