إن النظم الاجتماعية والقانونية منذ بدايتها
نشأت من دون وعي أو جهد متعمد من الإنسان، وكان الإنسان قديماً، يعبر عن حاجاته
ودوافعه بشكل فطري يسعى إلى تلبيتها متخذاً نسقاً قانونياً فردياً، وغالباً ما كان
يخضع لمنطق القوة العضلية لإشباع رغباته الأساسية من الأكل والشرب.
إلا أنه لابد للإنسان من الاتصال بالعالم
الخارجي محتكاً بأناس آخرين وبالبيئة المحيطة به والتي قد تفرض نفسها في بعض
الأحيان على نشاطات الإنسان المختلفة وتجعله يدور في فلكها، محددة له الأهداف التي
عليه السعي لتحقيقها، ومن ثم فإن المجتمع متغير الأهداف بما لا يدع مجالاً للشك أن
النظم الاجتماعية والنظريات القانونية متغيرةً معه أيضاً..
ونتيجة لذلك التغير المستمر تطورت النظريات
القانونية وانقسمت إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: النظريات الشكلية، والنظريات
الموضوعية، ونظريات ذات طابع مزدوج (شكلية وموضوعية)، وسيكون موضوع هذا المقال هو
إحدى تلك النظريات الموضوعية وهي نظرية التضامن الاجتماعي أو مبدأ ديجي.
لكن وقبل التطرق لنظرية التضامن الاجتماعي يجب
توضيح ما هو المذهب الفردي، حيث كان له الدور الأكبر لتحفيز ظهور نظرية التضامن
الاجتماعي لديجي.
ويستمد المذهب الفردي مقوماته الأساسية من
أفكار ومبادئ مدرسة القانون الطبيعي، حيث بدأ يشق طريقه في الظهور في القرنين
السابع عشر والثامن عشر، ويقوم هذا المبدأ على تقديس الحرية الفردية واعتبارها
حقاً أساسياً وطبيعياً لا يجوز للدولة أن تمسّها.
وقد لعب هذا المبدأ دوراً هاماً في تاريخ
البشرية، إذ كان هو السلاح الرئيسي في تلك الفترة لمواجهة الأنظمة الاستبدادية،
وقد كان محفزاً كبيراً لقيام العديد من الثورات وعلى رأسها الثورة الفرنسية.
ولكن من المآخذ على هذا المذهب مغالاته في
تقديس الإرادة الفردية والاهتمام بالمصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة، وكذلك
فإن الحرية والمساواة التي نادى بهما هذا المذهب هما ضربان من ضروب الخيال، إذ
إنهما مساواة وحرية نظريتان دون الاهتمام بالفروقات التي وضعتها الطبيعة بين
الأفراد في الحاجة وفي القدرة، ما يؤدي إلى اختلال التوازن الواقعي بين الأفراد،
وبالتالي لا تتحقق الطمأنينة في المجتمع.
وعليه فقد وجدت الفلسفة الواقعية منذ القرن
التاسع عشر صدى واسعاً، وحاولت أن تخضع لنهجها كل معرفة إنسانية، فهي فلسفة لا
تؤمن إلا بالواقع الملموس المحسوس الذي تسجله الملاحظة وتؤديه التجربة، فكل معرفة
عندها لا تقوم على الواقع ولا تؤكدها مشاهدة أو تجربة هي معرفة حدسية لا يقينية،
وبهذا زعزعت الفلسفة المثالية مذهب القانون الطبيعي وكذلك المذهب الفردي، وحاولت
فرض منهجها ونظرتها غير مقتصرة على مجال محدد بل كنهج فكري بديل، وقد تسللت أفكار
هذه الفلسفة إلى القانون ونفذت إلى قلاعه وحصونه التي سيطرت عليها النظرة
المثالية.
وهذه المدرسة يتزعمها الفقيه أوجست كونت ،
وحاولت تلك المدرسة أن تأتي بشيء جديد عكس النظريات السابقة والتي حاولت أن تتنبأ
في دراسة العلوم الاجتماعية ومن بينها علم القانون، وذلك بالطريقة العلمية التي
تتبع في ميدان علوم الطبيعة وهي التي تعتمد على المشاهدة ثم التجربة ثم الاستقراء
ثم التحصّل على نتائج والتي تؤدي إلى قيام القواعد القانونية.
ومن أكبر الفقهاء الذين تأثروا بهذه الفلسفة في
فرنسا الفقيه ليون ديجي الذي أنشأ مذهباً يقوم على المشاهدة والتجربة، واعتبره
المنهج الوحيد للمعرفة الصحيحة وأطلق عليه اسم التضامن الاجتماعي.
ووُلد ليون ديجي في 4 فبراير 1859 بمدينة
ليبورن بفرنسا، وهو أحد أكثر المفكرين القانونيين ثورية في جيله، درس ديجي القانون
في جامعة بوردو وعُين أستاذاً في كلية الحقوق في كاين في عام 1883، ثم عاد مرة
أخرى عام 1886 إلى مدينة بوردو ولكن كأستاذ وترقى بعدها وأصبح عميداً لكلية
الحقوق، وظل في منصبه حتى وفاته في 18 ديسمبر 1928.
كان لديجي تأثير كبير على القانون العام
الفرنسي، فقد تجاهل النظريات التقليدية التي نظرت إلى القانون على أنه مستمد من سلطة
الملك أو الدولة، وجد ديجي بدلاً من ذلك أساس القانون في حقيقة أن البشر كائنات
اجتماعية تتمتع بإحساس عالمي أو غريزة من التضامن والاعتماد المتبادل الاجتماعي.
وانطلاقاً من هذا المعنى، أصبح وجود قواعد
معينة تنظم السلوك ضرورياً للعيش معاً في مجتمع ما. من وجهة نظر ديجي، الدولة ليست
سلطة ذات سيادة ولكنها مؤسسة نشأت من الاحتياجات الاجتماعية للبشر، والحكومات مثل
الأفراد، ملزمة بقواعد القانون المستمدة من الضرورة الاجتماعية.
مضمون نظرية التضامن الاجتماعي
ظهر فقه المذهب الاجتماعي وهو متأثر عكسياً
بفقه المذهب الفردي، حيث يزعم المذهب الفردي أن الإنسان وجد في فطرته الأولى
مزوداً بحقوق طبيعية مطلقة تستمد من ذاته، وسابقه في وجودها على القانون وعلى
الجماعة.
ولكن يرى المذهب الاجتماعي أن ذلك أمر لا يؤيده
الواقع، إذ إنه من المسلمات والبديهيات أن الإنسان لم يُوجد قط في تلك الحالة
الطبيعية الفطرية، حيث إن الإنسان لا يملك أن يعيش إلا في وسط اجتماعي متضامناً مع
أفراد مجتمعه في قضاء متطلبات حياته التي تزداد يوماً بعد يوم بسبب تقدم الحضارة
والمدنية.
وإذا ثبت أن الإنسان كائن اجتماعي، وأنه لا
يسعه العيش إلا في جماعة وأن الجماعة لا قِبل لها أن تحيا إلا بالتضامن الاجتماعي،
ومن أجل تحقيق هذا التضامن لابد من وجود قواعد تنظم سلوك الأفراد.
مبادئ نظرية التضامن الاجتماعي
مما سبق تتضح مبادئ نظرية التضامن الاجتماعي في
أمرين:
أولاً: أن الإنسان الفطري المنعزل لا وجود له،
فلا يصلح هو أو صفاته المميزة له من الحريات والحقوق المطلقة أساساً للقانون.
ثانياً: أن التضامن الاجتماعي هو الأساس
المعقول للقانون باعتباره القاعدة الضرورية لحياة الجماعة.
ومن هنا يمكن صياغة قاعدة التضامن الاجتماعي
فيما يلي: "أن الفرد –حاكماً أو محكوماً- ملزم بالامتناع عما يخل بهذا
التضامن، وملزم كذلك بإنجاز كل فعل يؤدي إلى صيانة وتنمية هذا التضامن". وهذه
القاعدة الأساسية بناحيتيها: الإيجابية والسلبية، يجب أن يُصاغ القانون على أساسها
بحيث يكون تطبيقاً لها، لأنها خلاصة القانون وملاكه.
هذا بالنسبة لموقف نظرية التضامن الاجتماعي من
الأفراد. أما بالنسبة لموقف نظرية التضامن الاجتماعي من الدولة ودورها، فإن المذهب
الاجتماعي من المذاهب الأكثر انتشاراً في الوقت الحاضر، حيث قام هذا المذهب كحل
وسط بين إطلاق الحرية لنشاط الأفراد دون قيود وتحديد نشاط الدولة في مجالات معينة
(المذهب الفردي)، أو إعطاء الدولة حق التدخل في شتى المجالات دون قيود أو ضوابط
محددة (المذهب الاشتراكي).
حيث يأتي دور المذهب الاجتماعي ليعطي حقوق
الأفراد دون أن يقيدها أو ينقص منها ولكن ينظمها، ببيان شروط ممارستها على أساس
أنها منح قانونية وليست حقوقاً طبيعية مقدسة.
كما أنه أقر حق الدولة في التدخل في العديد من
الأنشطة رفعاً للمصلحة العامة، فعلى سبيل المثال تستطيع الدولة باسم المصلحة
العامة أن تتدخل لإقامة مساواة حقيقية بين المتعاقدين، فيضيق بذلك نطاق مبدأ سلطان
الإرادة، وأيضاً تستطيع الدولة إعطاء القاضي سلطة تعديل عقود الإذعان لصالح الطرف
الضعيف، وفرض الكثير من الشروط في عقد العمل لحماية العامل، وتكون تلك الشروط من
النظام العام الذي لا يجوز المساس به.
لذلك فسلطان الدولة في ظل مذهب التضامن
الاجتماعي يعمل من أجل تفادي المظالم الفردية، ولتنهض بتسيير النظام الاجتماعي
والاقتصادي وتوجيهه للصالح العام. أما بالنسبة لحق الملكية في مذهب التضامن
الاجتماعي، فإنه يتفق شكلياً مع المذهب الفردي في الاعتراف بحق الملكية الفردية.
ولكن في حين اعتراف المذهب الفردي بحق الملكية
الفردية كحق مطلق لكل فرد، فقد ذهب مذهب التضامن الاجتماعي إلى أن حق الملكية لا يجب
اعتباره سوى تمكين "المالك" من القيام بوظيفته الاجتماعية التي يتحتم
عليه أداؤها بحكم كونه مالكاً.
لذلك فهذا هو المبرر الوحيد لوجود حق الملكية
في مذهب التضامن الاجتماعي، وكذلك فهو في حد ذاته القيد الذي يحدد مدى استعمال هذا
الحق ويترتب على هذا أمران:
أولاً: أن حق الملكية قابل للزوال، حيث إنه إذا
اختلفت أو تغيرت الظروف الاجتماعية والاقتصادية بحيث أصبحت الملكية لا تؤدي
وظيفتها الاجتماعية فإنها تكون كذلك قد فقدت مبرر وجودها.
ثانياً: أنه لا يجوز استعمال حق الملكية في غير
الوظيفة الاجتماعية التي منح هذا الحق من أجلها. وتترتب مسؤولية المالك إذا استعمل
حقه للإضرار بالغير، أو لتحقيق مصلحة غير مشروعة، لأن هذا يخل بالتضامن الاجتماعي
وهو ملزم بالامتناع عن ذلك.
أسس نظرية ديجي في التضامن الاجتماعي
أما بالنسبة للأسس التي تقوم نظرية ديجي عليها،
فهي ثمانية أسس هي كالتالي:
- أن الإنسان اجتماعي بطبعه ولا يستطيع العيش
إلا في جماعة، وهذا يقتضي وجود مجتمع يعيش فيه الإنسان مع غيره من الناس.
- أن التضامن قائم بين جميع أفراد العالم، إلا
أن التضامن العالمي غير واضح وما زال متأخراً لانقسام العالم إلى أمم.
- أن الإنسان قد يشترك في الشعور بحاجات
متشابهة ويدفعه ذلك إلى التضامن لتحقيقها.
- أن شرعية القانون الوضعي لا بد لها أن يكون
القصد منها خدمة مبدأ التضامن الاجتماعي، وأن المجتمع يقوم على التضامن، والقانون
هو تعبير عن هذا التضامن وتطبيق له.
- أن القاعدة القانونية يجب أن تتوافر فيها صفتان:
صفة اجتماعية وصفة فردية. فهي اجتماعية لأنها توجد لتنظيم علاقات الأفراد في
المجتمع، وهي فردية لأن ضمير الفرد يشتمل عليها ولأنها تطبق على الأفراد.
- أن القاعدة القانونية هي التي يشعر جمهور
الأفراد بأنها ضرورية ولازمة لصيانة التضامن الاجتماعي وأن من العدل تسخير قوة
الدولة وعنصر الإكراه والإجبار فيها لكفالة احترامها، وأن عنصر الجزاء في القاعدة
القانونية يرجع إلى إحساس الجماعة وشعورها بضرورة وواجب احترام هذه القاعدة لتحقيق
التضامن الاجتماعي.
- أن أساس القاعدة القانونية هو الشعور بالعدل
والتضامن الاجتماعي.
- ويقترح ديجي إقامة محكمة تتكون من ممثلين لكل
الطبقات الاجتماعية مهمتها تفسير مفهوم التضامن تفسيراً ملزماً.
مميزات نظرية التضامن الاجتماعي
وتتضح لنا مميزات نظرية التضامن الاجتماعي فيما
يلي:
- إظهار الدور الإيجابي للدولة والقانون في
تحقيق المساواة بين الأفراد.
- دور المذهب الاجتماعي في الحد من تطرف المذهب
الفردي، وكبح جماح الأقوياء وتحكّمهم في الطبقات الضعيفة.
- توضيح أهمية المصلحة العامة ودورها في
المساواة بين الناس.
- يمتاز مذهب التضامن الاجتماعي بأنه أظهر
الحقائق الواقعية المستندة من الحياة الاجتماعية وآثارها في تكوين القاعدة
القانونية.
- أعطى للقانون بُعداً علمياً مبنياً على أساس
الملاحظة والتجربة.
ومن المآخذ على نظرية التضامن الاجتماعي:
- أن تلك النظرية في محاولة لرفع ظلم وتحكم
طبقة مجتمعية لطبقة أخرى، أخضعت الجميع تحت تحكم الدولة واستبدادها الذي كان يحاربه
المذهب الفردي.
- وينكر هذا المذهب فكرة المنافسة بين الأفراد.
- إلغاء فكرة الحق وتحويلها إلى وظيفة
اجتماعية، حيث جعل من أصحاب الحقوق موظفين عاملين، موكلين باستعمال هذه الحقوق على
أكمل وجه لتحقيق الخير المشترك دون النظر إلى مصلحتهم الذاتية.
لذلك فنظرية التضامن الاجتماعي لمؤسسها ديجي
قامت كمحاولة لموازنة الأمور بين تطرف المذهب الفردي في تقرير حقوق مطلقة للأفراد،
وبين مغالاة المذهب الاشتراكي في منح كل الحقوق للدولة للمباشرة والتدخل في كل
شيء.
فأقرت هذه النظرية حقوق الحُكام والمحكومين
طالما يؤدون أعمالهم بما يُنمي ويصون التضامن الاجتماعي، وكأي نظرية فقد شاب هذه
النظرية العديد من المثالب، ورغم ذلك فمن أهم مميزات هذه النظرية أن أساسها كان
الملاحظة والاستقراء كتوجه جديد في العلوم القانونية.
المراجع:
عبدالرحمن
أسامه ، 30.11.2019 ، مبدأ التضامن الاجتماعي
، الموسوعة السياسية .
عروب
يونس ،16.1.2022 ماهي مبادئ التضامن الاجتماعي، موقع موضوع.