مشاعر الغضب والسياسة العالمية جدال التأثير والعواقب
فرع القاهرة


 

حاول الكاتب والروائي الهندي بانكاج ميشرا تحليل اضطرابات السياسة العالمية في كتابه "عصر الغضب تاريخ الحاضر" الذي صدر عام 2017، من خلال الربط بين أحداث مختلفة السياقات والدوافع، لكنها عبرت عن تنامي مشاعر الغضب في العالم مثل: إرهاب تنظيم "داعش" في الشرق الأوسط، صعود ترامب في السياسة الأمريكية، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)

و لكن لم يهدأ الغضب العالمي بعد تلك السنوات، بل تأجج وعبر عن نفسه في مظاهر أكثر حدة، كالغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، وهجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 ثم رد الأخيرة بحرب إبادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والتي توسعت لتشمل دولاً أخرى في الشرق الأوسط المأزوم بالأساس بصراعات أهلية وتدخلات خارجية

في كل هذه الأحداث، مثلت مشاعر الغضب سواء للأفراد أو الجماعات أو الدول أحد محفزات تشكيل التفاعلات السياسية داخل الدول أو فيما بينها، لكن ذلك العامل العاطفي تعرض للإهمال لصالح التركيز أكثر على مظاهره الملموسة، كالحروب والثورات والاحتجاجات والإرهاب وغيرها يرجع ذلك إلى هيمنة منطق عقلاني على التحليلات السياسية يستند على حسابات المصالح والقوة والاختيار الرشيد

ومع صعود الاتجاهات النقدية، نالت المشاعر والعواطف أهمية في الحقل السياسي على أساس افتراض مفاده أن العاطفة والعقل لا ينفصلان في عمليات صنع القرار فالسياسة يصنعها ويتأثر بمخرجاتها بشر تحركهم مشاعر تُضفي معنى إنسانياً على أفكارهم وتصرفاتهم صحيح مثلاً أن هنالك حسابات عقلانية تكمن خلف الغزو الروسي لأوكرانيا لكن لا يمكن فصلها عن مشاعر الغضب لدى القيادة السياسية (بوتين) والمجتمع، جراء إهانة روسيا على يد الغرب إما بسبب إرث تفكك الاتحاد السوفيتي السابق أو تمدد حلف الناتو في النطاق الجغرافي الحيوي لروسيا

لكن يظل السؤال المطروح: كيف تؤثر مشاعر الغضب في ديناميات تشكيل الظواهر السياسية سواء داخل الدول والمجتمعات أو العلاقة فيما بينها؟ تستدعي الإجابة محاولة تفكيك مفهوم الغضب السياسي وأنماطه، ومراحل انتقاله من الشعور إلى السلوك، فضلاً عن الجدالات والإشكاليات المرتبطة به تكمن أهمية تلك المحاولة في أن الغضب من المشاعر النشطة والهجومية في المجال السياسي مقارنة بالخوف أو الحزن أو الإحباط، حيث قد يقترن بإجراءات انتقامية وعقابية لإزالة مسبباته، كما قد يخلق قوة حشد وتعبئة سياسية تقود إلى صراعات مدمرة أو تغيرات بناءة

الغضب السياسي مضامين وأنماط متعددة

يرتبط شعور الغضب بالسخط والحنق والتمرد والهياج وغيرها، وتتداخل تلك المعاني مٍع مجالات عديدة نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية، لكن ثمة اتفاقاً عاماً في النظر للغضب على أنه رد فعل للمرء تجاه حدث ما يشكل تهديداً أو عائقاً أمام تحقيق الأهداف أو التوقعات يرجع رد الفعل ذلك إلى تصور المرء أن العائق المسبب للغضب "غير عادل"، وأنه يستحق أكثر مما يحصل عليه، ومن ثم ينظر للتعبير عن شعوره بالغضب على أنه دفع للضرر أو الأذى أو فرصة للحصول على الأفضل وبينما تتراوح درجات الغضب بين الانزعاج الخفيف والغضب الشديد، فإنه يتضمن ثلاثة مكونات أساسية: فسيولوجية (أي يصدر الغضب نتاج تفاعل بين المشاعر والجسد)، معرفية (الغضب يجعل المرء يدرك طبيعة وضعه ويقارنه بما يتطلع له أو بالآخرين)، سلوكية (قد ينطوي الغضب على رغبة في تحويل الشعور إلى سلوك انتقامي أو عقابي لمجابهة التهديد)

في المجال السياسي، تظهر مشاعر الغضب كاستجابة من أفراد أو جماعات أم دول على سياقات غير عادلة تخص عمليات توزيع السلطة والثروة والهوية وبينما يحكم الغضب الفردي عوامل فسيولوجية وسمات نفسية وشخصية وسياقية معقدة، لذا بدا التركيز في الأدبيات أكثر على التعامل مع ثلاثة أنماط أساسية من الغضب أكثر تأثيراً في التفاعلات السياسية، وهي الجماعية والنخبوية والإلكترونية، ويمكن توضيحها على النحو الآتي:

أولاً: الغضب الجماعي: يعبر هذا النمط عن استجابة مشتركة لمجموعة من الناس رداً على ظلم متصور أي ظلم يعتقدون أنه واقع عليهم (حتى لو لم يرى الآخرون ذلك)، بفعل عدم استجابة سياسات السلطة لتفضيلاتهم أو توقعاتهم بالاستحقاق من ثم، يصبح التعبير عن الغضب سواء في خطابات أو سلوكيات مدخلاً لإصلاح تلك الأوضاع الظالمة لكن الغضب الجماعي ليس حاصل جمع غضب كل فرد على حدا، إنما ينتج بفعل التشارك المجتمعي في الانتماء الهوياتي والقيمي والثقافي والخضوع لظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متقاربة ويخلق هذا التشارك وعياً جماعياً بقيم ومعتقدات وأفكار ومعايير معينة تشكل البيئة العامة التي تنتقل فيها عدوى الغضب بين الأفراد

ثانياً: الغضب النخبوي: يرتبط هذا النمط بقادة الجماعات العرقية والقبلية والحزبية أو الحكومات حال مواجهة تهديدات تعترض أهدافهم وتوقعاتهم وهو نمط يدحض الفكرة الشائعة بأن الغضب مقصور على الجماهير أو أنه لا يرتبط أحياناً بحسابات عقلانية ونفعية في المجال السياسي من الممكن أن يصبح الغضب النخبوي جزءاً من السمات الشخصية والنفسية للقادة والنخب السياسية لكنه قد يكون مدروساً أو ما يسميه البعض "تسليح الغضب"، أي استخدامه لأغراض سياسية مثل: حشد الجمهور للمشاركة في الصراعات أو الاحتجاجات أو الانتخابات أو شرعنة سياسات الحكومات لمواجهة تهديدات دول أخرى

ثالثاً: الغضب الإلكتروني: ارتبط هذا النمط بانتشار أدوات ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي التي بدت كأداة ووعاء يتشكل فيه الغضب الجماعي والنخبوي، حيث يتم التعبير عنه من خلال بيانات أو تدوينات أو تعليقات أو رموز أو صور أو فيديوهات وغيرها قد يكون الغضب الإلكتروني استجابة تلقائية نتاج مثيرات معيقة أو مدروسة، أي تستخدمه مجموعات منظمة لأهداف سياسية أو تسعى لتخليقه أو بناء تشبيك بين الغاضبين، وحفزهم على الحشد في الواقع كتجارب استخدام الاحتجاج الجماعي

تشير بعض الدراسات في هذا المجال إلى أن مشاعر الغضب أسرع انتشاراً وأكثر مشاركة بين المستخدمين على الإنترنت من مشاعر سلبية أخرى كالاشمئزاز والحزن وغيرها يرجع ذلك إلى طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي من حيث إمكانية تزييف الهويات الشخصية، بما قد يخفض عواقب التعبير عن الغضب، كما قد لا تتضمن التفاعلات الإلكترونية مواجهات شخصية مباشرة بين الغاضبين ومن يلومونهم، ناهيك عن أن آلية الخوارزميات التي تلتقط نمط اهتمامات المستخدمين في الفضاء الإلكتروني ثم تعمل على تعريضهم أكثر لمواد تنسجم مع اختياراتهم وبالتالي تزيد من حالتهم الشعورية الغاضبة

لجأ أيضاً العديد من القادة والنخب السياسية إلى الفضاء الإلكتروني لتوظيف مشاعر الغضب على سبيل المثال، يكثف وزير الداخلية الإيطالي السابق ماتيو سالفيني وأحد قادة اليمين المتطرف من منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي لجلب الدعم السياسي من مجموعات يمينية متطرفة، حيث استهدفت تلك المنشورات المجموعات المهمشة في المجتمع مثل، المهاجرين واللاجئين والنساء وغيرهم، وهو ما اعتبره البعض يعزز من دينامية بناء التضامن الداخلي بين المجموعات اليمينية المتطرفة، لكنه في الوقت نفسه ينشر حالة الكراهية العامة خاصة ضد المهمشين

دورة انتقال الغضب من المشاعر إلى السلوكيات

تمر ظاهرة الغضب السياسي بمجموعة مراحل قد تنقلها من حالتها الشعورية إلى السلوكية، ومن ثم تظهر تأثيراتها في ديناميات تشكيل الظواهر السياسية، وهو ما يمكن توضيحه كالآتي

أولاً: الحدث المثير للغضب: أي الواقعة التي تستثير مشاعر الغضب لجماعة أو قادة أو نخبة أو حكومة وتحفزهم على إدراك ومعرفة طبيعة أوضاعهم وكلما كان ذلك المثير له أثر حاد من حيث مستوى التهديد زادت فرص نشوب الغضب الجماعي أو استغلاله من القادة السياسيين أو حتى انتشاره الكترونياً قد يرتبط مثير الغضب بقرارات وسياسات حكومية تعتبرها المجتمعات غير عادلة ومن ثم تستفز مشاعرها للخروج عليها مثل: قرار حكومة بنجلاديش في يوليو 2024 بإعادة العمل بحصص التوظيف في القطاع العام، حيث أجج مشاعر الطلاب وحفزهم على الخروج للشارع في احتجاجات عنيفة انتهت بسقوط نظام الشيخة حسينة أيضاً، أحدث مشروع قانون في كينيا في يونيو 2024 بزيادة الضرائب تظاهرات عنيفة في هذا البلد، حتى سحب الرئيس ويليام روتو ذلك المشروع وأعلن أنه لن يوقعه

ثانياً: تحديد الطرف المُلام: أي أن الشعور الغاضب من حدث ما يعقبه عادة تحديد الطرف الذي سيتم إلقاء اللوم عليه (أشخاص، سياسات، مؤسسات، جماعات، دول) في حالة الاحتجاجات الشعبية، يتم توجيه اللوم إلى القادة أو النظام السياسي ( مثل، الشيخة حسينة في احتجاجات بنجلايش) أما في حالة التهديد للدول، فيصبح المُلام دولة أخرى أو جماعة أو زعماء مناوئون (مثل إيران وحلفائها في المنطقة بالنسبة لإسرائيل) يتحول الطرف المُلام إلى عدو متصور للغاضبين بفعل سرديات للنخب السياسية تحمله المسئولية عن المشكلة المتسببة في الغضب، ومن ثم، تنشأ ثنائية العدو والصديق في التفاعلات السياسية، وفقاً لمنطق كارل شميت، والتي تحفز الجمهور على الانخراط السياسي أو الحشد في الاحتجاجات أو الصراعات وغيرها

ثالثاً: خلق التحيزات الداخلية: مع تحديد المثير للغضب والعدو المتصور، ينشأ نوع من التحيز الداخلي في أوساط جماعة ما ضد الطرف المسبب للغضب الذي يعيق تطلعاتهم، وبالتالي، يسهل إحداث التضامن وتعبئة المشاعر الجماعية التي تمثل مصدراً للدعم السياسي للقادة والحكومات في الأزمات والصراعات على سبيل المثال، مع تحول هجوم حماس إلى مثير للغضب للحكومة والمجتمع الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر 2023، نشأت مشاعر جماعية إسرائيلية متحيزة وداعمة نسبياً للإجراءات الإسرائيلية التصعيدية ضد الفلسطينيين سواء لاستعادة الرهائن أو تدمير قدرات حماس العسكرية يُظهر هنا استطلاع لمركز بيو للأبحاث أجري بين مارس وإبريل 2024، أن 39% من الإسرائيليين يقولون إن الرد العسكري الإسرائيلي ضد حماس في غزة كان صحيحاً، بينما يقول 34% إنه لم يذهب بعيداً بما فيه الكفاية، بينما اعتقد 19% إنه ذهب بعيد جداً

رابعاً: التحول للإجراءات العقابية: يتحول الغضب في تلك المرحلة من المشاعر والخطابات إلى إجراءات وسلوكيات انتقامية وعقابية تجاه مصدر التهديد أو العدو المتصور، مستنداً إلى قوة التحيز والتضامن الداخلي، وهو يستهدف ثلاثة أمور أساسية: إما إلحاق الضرر بالطرف المتسبب في الغضب، أو إضعاف الوضع العام الذي حفز ذلك الطرف على الإتيان بالمثير الغاضب، أو اتخاذ تدابير تمنع تكرار الأفعال التي تثير الغضب تتحقق تلك الأهداف عبر أدوات عنيفة كممارسة العنف أو الإرهاب، أو سلمية كالاحتجاجات أو المشاركة الكثيفة في الانتخابات لصالح مرشح دون آخر (التصويت العقابي)

خامساً: التعامل مع مشكلة الغضب: قد يتم التعامل مع الغضب السياسي إما عبر القمع (أي جعل التعبير عن الغضب لفظياً وسلوكياً أكثر كلفة للأفراد أو الجماعات أو الدول)، والترويض (تبريد الغضب عبر تشتيت الانتباه لمحفزات أخرى)، والتنفيس (السماح للغضب بالتعبير عن نفسه لتفريغ الانفعال دون حل المشكلة) أو الاستيعاب ( فهم مسببات الغضب وتبديدها عبر حل المشكلة المتسببة فيه) إلا أن انتهاج أى من تلك الأساليب يتحدد وفقاً لعوامل داخلية وخارجية منها، طبيعة الأنظمة السياسية ومدى ديمقراطيتها وحجم الأزمات المسببة للغضب والسياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتوازنات القوى إذا كان الغضب متعلقاً بالعلاقات بين الدول

الأداء البرلمانى والغضب السياسى.. الحاجة إلى التطوير

الأداء البرلماني لممثلي الشعب ليس على ما يرام! إنه يزيد من حالة الغضب والتوتر السياسي والاجتماعى والاقتصادي في البلاد، ويعود ذلك لما يلي:

1- الفجوة المتزايدة بين أعضاء البرلمان، وبين فئات اجتماعية واسعة على رأسها الأغلبيات الشعبية التي عادة لا تبالي بما يجري من مناقشات، أو مشروعات قوانين داخل المجلس، لاهتمامهم بمواجهة عسر الحياة اليومية، والبحث عن العمل، أو ارتفاعات الأسعار كنتاج للتضخم الركودي السائد.

2- ضعف بعض الأحزاب السياسية التي لها أعضاء داخل التشكيلة البرلمانية، من حيث الانضباط التنظيمي، ووحدة الموقف السياسي، وتراجع مستوى بعض أعضائها من حيث التكوين والخيال السياسي، والمهارات التشريعية والرقابية.

3- تراجع نوعية بعض أعضاء البرلمان من حيث الخبرات السياسية، والقانونية، وهو ما يلاحظ في ضعف مستويات خطابات بعضهم التشريعية والسياسية، وميلُ بعضهم إلى التركيز على بعضُ القضايا الثانوية وعدم التنبه إلى القضايا المركزية التي تواجه الدولة

 قد تُخمد أساليب القمع والترويض والتنفيس ظاهرة الغضب لفترة زمنية قصيرة أو طويلة، لكنها قد تخلف ورائها مخزوناً من الغضب الكامن والممتد القابل للانفجار ما لم يتم حل المشكلة المسببة للغضب لهذا السبب، يتم التعامل مع الغضب بطريقة هيكلية لتبديده أو استبداله بمشاعر أخرى تعاطفية أو تضامنية، في مجال حل وتسوية الصراعات

وتظل ظاهرة الغضب سواء على مستوى الشعور أو السلوكيات السلمية والعنيفة تلعب دوراً أساسياً في تشكيل الظواهر السياسية داخل الدول أو السياسة العالمية وبرغم الصعوبات والتحديات أمام تحليل تلك الظاهرة وأثرها، فضلاً عن الجدالات حول آثارها وعواقبها وطرق التعامل معها، لكن محاولة الاقتراب من تفكيك مضامينها وارتباطاتها مع المتغيرات السياسية الأخرى يمثل أحد مداخل التفسير المهمة في ظل الأزمات والاضطرابات المتلاحقة التي يعيشها العالم والإقليم 

 

 

 

 

المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

الكاتب : د. خالد حنفي علي

التاريخ : 16/10/2024

--------------------------------

المصدر:

الكاتب : نبيل عبد الفتاحنبيل عبد الفتاح

التاريخ : 8/10/2016

--------------------------------

المقالات الأخيرة