الحرب البيولوجية هي الحرب الصامتة الباردة دون سلاح مادى، ولا انفجارات ولا شظايا ولا دخان، حرب لا تخلف وراءها آثار تدمير مادى في المباني والمنشآت، بل إن المعنى بها هو الإنسان والجماعات البشرية بإفنائها، لذلك فهي الموت في حد ذاته، إذ يمكن هزيمة وكسر إرادة دول أو التحكم فيها أو تهديدها أو ابتزازها سياسيا أو اقتصاديا بالتهديد به و استخدامه جزئيا أو كليا، ومما لاشك فيه أن الحروب بجميع أنواعها ووسائلها هي عمل بشع يتحقق فيه الموت والفناء، إلا أن الحرب البيولوجية هي بالقطع أبشعها على الإطلاق، فالخصم لا يرى خصمه ولا يشعر به، بل تتم مباغتته حيثما وحينما لا يتوقع، وعندها لن يدركه سوى الموت المحتم دون أن يكون حتى قادرا على الدفاع عن نفسه
تسمى الحرب الجرثومية أو الميكروبية هي الاستخدام المتعمد للجراثيم أو الميكروبات أو الفيروسات بهدف نشر الأمراض والأوبئة الفتاكة، بما ينجم عنه في المحصلة حصد أعداد كبيرة من البشر وإبادتهم وإفناء الكائنات وتدمير الحياة في نطاق معين، وهى بذلك تعد أحد أنواع أسلحة الدمار الشامل، باعتبار السلاح البيولوجي يقصد به جميع الوسائل والمسببات التي تستخدم لنشر الأمراض والأوبئة في صفوف القوات المعادية للقضاء عليها أو على الأقل التأثير سلبيا على كفاءتها القتالية وبالتالي سهولة إلحاق الهزيمة بها
يقوم السلاح البيولوجي على الإنتاج المتعمد لكائنات حية متناهية الدقة حية تسبب الأمراض والأوبئة الفتاكة سواء كانت فيروسات أو جراثيم أو بكتيريا أو مواد سامة ناتجة عن العمليات الحيوية لهذه الكائنات والتي تتسبب في إحداث أمراض للإنسان والحيوان والنبات، تؤدى إلى الهلاك أو الإفناء على نطاق واسع لأفراد أو مجتمعات أو مدينة أو منطقة أو حتى بلدا بأكمله باختلاف نوع السلاح البيولوجي وتأثيره، ويمكن استخدام تلك الكائنات على حالتها في الطبيعة كما يمكن تطبيق تكنولوجيا الهندسة الوراثية والبيولوجيا الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية بهدف زيادة قدرة الإصابة ونطاقها التأثيري والتدميري.
وبرغم أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الجسم البشري محصنا بجهاز مناعي قوامه الخلايا الدفاعية التي تهاجم الجراثيم والفيروسات الغازية وتدمرها، تعززها مقدرة الجسم على إنتاج أجسام مضادة تقضى عليها، إلا أن كثافة وقوة وتركيز تلك الجراثيم والفيروسات وتغيير هندستها الوراثية ومزجها في سلاح واحد، يجعل الجهاز المناعي البشرى عاجزا عن إزاءها، بالإضافة إلى عامل انتشار المرض بالعدوى وهو ما يفاقم التأثير ويصعده إلى مستويات خطيرة.
وإن أخطر ما يميز الأسلحة البيولوجية هو انخفاض تكلفة إنتاجها مقارنة بالأسلحة التقليدية أو النووية التي تتطلب تكاليف وتجهيزات تكنولوجية عالية، فالأسلحة البيولوجية يتطلب إنتاجها حد أدنى من المعرفة العلمية ومعمل للميكروبيولوجي، وبعض التجهيزات اللازمة للإنتاج، لكن الخطورة تتصاعد بمجرد البدء في تصنيعها حيث تتطلب درجة عالية من التأمين خلال وبعد التصنيع والتخزين، كذلك يمكن إنتاج كميات ضخمة من العنصر البيولوجي لأن خلية واحدة من ميكروب ما, قادرة في وقت محدود وتحت الظروف المناسبة لها أن تتعدد وتتكاثر بدرجة رهيبة، مما يمكن من تكوين مخزون هائل من ميكروب ما خلال عدة ساعات
الحرب البيولوجية قديمة قدم التاريخ، ويعتقد أن أول استخدام لذلك السلاح كان على يد القائد اليوناني سولون عام 600 ق.م حيث استخدم جذور نبات هيليوروس في تلويث مياه النهر الذى يستخدمه أعداؤه للشرب وهو ما أدى إلى إصابتهم وبالتالي سهل عليه إلحاق الهزيمة بهم.
وفي العصور الوسطى احتل الإمبراطور فريدريك بربروسا مدينة تورتونا الإيطالية بعد تسميم خزانات مياه الشرب فيها، وخلال الحروب الصليبية قامت الجيوش الصليبية بإلقاء جثث الجنود الموتى داخل معسكرات الجيوش المصرية والشامية في محاولة منهم لنشر الأمراض الفتاكة والأوبئة مثل الطاعون والجدري والكوليرا بين صفوف الجنود، ولاحقا استخدم المغول الأسلوب ذاته عند اجتياحهم العديد من البلاد، وفى أوروبا فتك الطاعون خلال الفترة الممتدة من عام 1348 إلى عام 1350 بما يزيد على ربع سكان أوروبا، فأسموه «الموت الأسود».
ومنذ القرن الخامس عشر وبعد اكتشاف القارتين الأمريكيتين أتيح للمهاجرين الأوروبيين التخلص من أعداد كبيرة من السكان الأصليين الذين أصيبوا بالأمراض غير المعروفة هناك والتي لا توجد مناعة طبيعية لديهم ضدها، وكان لمرض الجدري الدور الرئيسي في القضاء على أعداد كبيرة من هؤلاء السكان .
وفى خضم الصراع الدولي، اهتم القادة العسكريون بشكل متزايد بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية باعتبارهما سلاحين فتاكين غير تقليديين، وقامت العديد من الدول بتخصيص الموارد المالية والطاقات العلمية لدراسة الجراثيم وماهيتها وتوظيفها كسلاح
.
فأسست بريطانيا عام 1940 أول مراكزها البحثية للأسلحة البيولوجية في أحد مقرات وزارة التموين في منطقة بورتن حيث تمكنت عام 1941 من إنتاج أول قنابلها البيولوجية المعبأة بجرثومة الجمرة الخبيثة «أحد أنواع الأنثراكس الثلاثة»، ممتلئة بالجمرة الخبيثة وألقتها تجريبيا في جزيرة جرينارد الاسكتلندية النائية، وكان من نتيجة ذلك نفوق كامل قطعان الماشية والحيوانات على الجزيرة بفعل القنبلة، الأمر الذى دفعها لإغلاق تلك الجزيرة نهائيا وكليا أمام البشر، ويعتقد العلماء أن الجراثيم المتولدة عن تلك التجربة لا زالت باقية إلى اليوم وستستمر في خطورتها
.
وفى عام 1941 طلبت وزارة الدفاع الأمريكية من عدد من الجامعات والمعاهد، تشكيل لجنة لدراسة موضوع الأسلحة الجرثومية، فقررت اللجنة أن الأسلحة الجرثومية ممكنة الإنتاج وفعالة النتائج، وعليه فقد شهد عام 1942 تأسيس أول مكتب لبحوث
وطوال القرن العشرين حاولت العديد من الدول إحداث توجه عالمي مضاد للأسلحة البيولوجية، فوقعت الدول الكبرى عام 1925 «بروتوكول جنيف» التي تمنع اللجوء إلى الأسلحة البكتريولوجية في الحروب، وفى أواخر الستينات قدمت بريطانيا مسودة لمعاهدة شاملة لحظر استحداث وتطوير وإنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة البيولوجية، وأتيحت للتوقيع في 10 أبريل 1972 وأصبحت نافذة في 26 مارس 1975 عندما صدقت على المعاهدة 22 دولة، وهذه المعاهدة حاليا من المفترض أنها تلزم 165 دولة موقعة، لكن العديد منها قد وقع المعاهدة لكنه لم يصدق عليها مما حد من فاعليتها، وأسهم في ذلك غياب نظام دولي وآلية فاعلة للتحقق من الالتزام بالمعاهدة، وفى هذا الشأن تجدر الإشارة إلى أن الكيان الصهيوني غير منضم لتلك الاتفاقية.
وأخيرا وفى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فقط عانت الإنسانية من أكثر من 5 أوبئة خطيرة، حيث شهد العالم أزمات وبائية بيولوجية مريعة منها فيروس السارس عام 2002، إنفلونزا الطيور عام 2003، إنفلونزا الخنازير عام 2009، وباء أيبولا عام 2013، فيروس كورونا عام 2020
طرق الدفاع والتصدي ضد العدوى
يشكّل الدفاع ضد الحرب البيولوجية معضلة، ويعدّ التطعيم من أبرز حلول هذه المعضلة، كما تؤمّن الملابس والأقنعة الواقية إجراءً دفاعيًّا جيدًا، ويضاف إلى ذلك مجموعة من الإجراءات الوقائية مثل حفظ الماء والأطعمة، ورفع مستوى الإجراءات الصحية والنظافة، والحجر الصحي للمناطق المعرضة، وتطهير الأشخاص والتجهيزات والمناطق الملوثة.
وبصرف النظر عن مصدرها أو أسبابها أو المستفيد منها، إلا أن الإنسانية هي المتضرر الأول عندما تتهاوى قيمة الحياة الإنسانية للآخرين من منظور طرف معين يأبى إلا أن يحقق مصالحه السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية بأي ثمن وبأي وسيلة حتى لو كانت نتيجتها فناء الإنسان وهلاك المجتمعات
ايمن النحراوي ، 22/ مارس /2020 ، الحرب البيولوجية ، الوسيط
محمود الجاف ،1/ مارس / 2020 ،الحرب البيولوجية، دنيا الوطن