قضية لوكربي هي قضية جنائية ترتبت على سقوط طائرة
ركاب أميركية تابعة لشركة طيران بان أمريكان أثناء تحليقها فوق قرية لوكربي في اسكتلندا
سنة 1988 عقب إجراء تحقيق مشترك مدته ثلاث سنوات من قبل شرطة دامفريز وغالواي ومكتب
التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي)، أصدر أوامر بالقبض على اثنين من الرعايا
الليبيين في نوفمبر 1991 في عام 1999، قام الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي بتسليم
الرجلين للمحاكمة في كامب زايست، هولندا بعد مفاوضات مطولة وعقوبات الأمم المتحدة وفي
عام 2001، حكم على ضابط الاستخبارات الليبية عبد الباسط المقرحي بالسجن مدى الحياة
بعد إدانته بـ270 تهمة قتل تتصل بالتفجير. في أغسطس 2009، أفرجت عنه الحكومة الاسكتلندية
لأسباب إنسانية بعد إصابته بسرطان البروستاتا وتوفي في مايو 2012، بعد أن كان الشخص
الوحيد الذي تمت إدانته بالهجوم وقد أكد باستمرار على براءته.
في عام 2003، قبل القذافي المسؤولية عن تفجير لوكربي
ودفع تعويضات لأسر الضحايا، على الرغم من أنه أصر على أنه لم يعطي الأمر بالهجوم خلال
الحرب الأهلية الليبية عام 2011، أدعى مسؤول حكومي سابق أن الزعيم الليبي شخصيًا أمر
بالتفجير، على الرغم من أن هذا الأمر قد تم نفيه في وقت لاحق.
الحادثة وسياقها
في الساعة 6:25 مساء بتوقيت غرينتش من يوم الأربعاء
21 ديسمبر 1988 أقلعت طائرة الركاب المدنية الأميركية "بانام" (N739 Pan Am) في رحلتها رقم "103 PA" متجهة من مطار هيثرو بالعاصمة البريطانية لندن إلى مطار كينيدي في نيويورك
بالولايات المتحدة الأميركية، وعلى متنها 259 راكبا وصل كثير منهم إلى هيثرو من مطار
فرانكفورت بألمانيا.
وفجأة وبعد نحو 35 دقيقة من إقلاعها -وتحديدا في
الساعة 7:03 مساء- انفجرت الطائرة في الجو انفجارا مدويا، فسقطت وتناثرت أشلاؤها ونيرانها
الحارقة على بلدة "لوكربي" الواقعة في مدينة دمفريز وغالواي الأسكتلندية
غربي إنجلترا.
أحدث حطام الطائرة -الذي تناثر على مساحة قدرت بعدة
أميال- حفرة بلغت مساحتها 560 مترا مكعبا وقدّر وزن المواد التي تضررت نتيجة اصطدام
أجنحة الطائرة بها بما يزيد على 1500 طن، وقد نتجت عن الانفجار كرة لهب هائلة أحرقت
ودمرت 21 منزلا مجاورا، فقتلت 11 من سكانها وكانت حصيلة القتلى الإجمالية في الحادثة:
270 قتيلا أغلبهم أميركيون.
من الفاعل؟ إيران أم ليبيا
في أعقاب تفجير طائرة لوكربي أثيرت تساؤلات عمن
يقف وراء هذه العملية تخطيطا وتنفيذا، وتنقلت أصابع الاتهام بين عدة جهات وفق منطق
حسابات مصالح الأطراف المعنية بها وخاصة أميركا بوصفها الطرف الأقوى في القضية لكونها
المتضرر الأكبر منها بشريا.
وهكذا ألقيت المسؤولية أولا على منظمة فلسطينية
ثم سوريا، لكنها ما لبثت أن انتقلت إلى إيران، ثم رست في الأخير على ليبيا تحت حكم
معمر القذاقي.
وفي المحصلة يكشف معظم الكتابات التي تناولت الموضوع
ورواياته عن وجود عدة تفسيرات أساسية وفرعية بشأن مرتكبي هذا الحادث، لكننا سنتوقف
هنا عند تفسيرين منها يعدان الأكثر جدية وتداولا.
- إيران والانتقام: يرى التفسير الأول الذي أعلن رسميا ضمن تقرير صادر عن وكالات المخابرات
البريطانية- أن العملية كانت مدفوعة برغبة إيران في الانتقام لحادث إطلاق سفينة حربية
أميركية النار "خطأ" على طائرة مدنية تابعة للخطوط الإيرانية كانت تنقل الحجاج
الإيرانيين إلى مكة المكرمة، وهي الحادثة التي أعقبتها تهديدات إيرانية -عبر راديو
طهران– بصبغ السماوات الغربية بـ"لون الدم".
ويذكر هذا التقرير أن السلطات الإيرانية رصدت مبلغ
عشرة ملايين دولار أميركي لتمويل عملية التفجير كما أشارت تقارير إسرائيلية إلى أن
اجتماعات مكثفة عُقدت قبيل التفجير بعدة أشهر في بيروت بين مسؤولين في الحكومة الإيرانية
ومجموعات فلسطينية تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة التي يتزعمها
أحمد جبريل المقيم في سوريا.
- ليبيا والثأر المضاد: أما ثاني التفسيرات فيربط حادثة لوكربي بليبيا وسياستها خلال الحرب الباردة
حيث كان نظام القذافي يسهم في إطارها بدعم الحركات الانفصالية الراديكالية في كل أنحاء
العالم بدءا من أوروبا حيث كان يموّل الجيش الجمهوري الإيرلندي بالمملكة المتحدة ومنظمة
"إيتا" الانفصالية في إسبانيا ومرورا بعموم أفريقيا، إضافة إلى المنظمات
الفلسطينية المسلحة مثل جماعة أبو نضال.
وكانت بداية سلسلة الأعمال الليبية الانتقامية في
عام 1986، حيث قامت عناصر من المخابرات الليبية حسب الاتهام الأميركي- بتفجير الملهى
الليلي "لابل" (La Belle) في
برلين مستهدفة اغتيال شخصية عسكرية أميركية رفيعة المستوى.
وقد بررت واشنطن بهذا التفجير قصفها العاصمة الليبية
طرابلس، الأمر الذي "قد يكون" حسب تقارير المخابراتية الغربية الدافع وراء
إقدام المخابرات الليبية على تفجير طائرة رحلة "بانام" رقم 103.
وتشير تقارير الأجهزة الاستخبارية الغربية إلى أن
الاستخبارات الليبية وثقت تعاونها مع جهاز المخابرات الألماني الشرقي (ستازي) الذي
زودها بمعدات صناعة قنابل من نفس النوع الذي استخدم في تفجير طائرة بان أميركان فوق
لوكربي، وأن هذه المعدات تم العثور على بعضها في غرب أفريقيا أواسط الثمانينيات.
وهكذا ارتبطت هذه الرواية الليبية المحتوى بـ"عميلين"
لمخابرات نظام القذافي كانا يعملان مستترين في مطار فرانكفورت تحت مظلة إحدى شركات
الطيران العربية، حيث قاما بزرع القنبلة في جهاز التسجيل المشار إليه، ثم مباشرة تهريبها
إلى الرحلة رقم 103 لتستمر بعد ذلك القصة بصورتها الأبرز والأشهر كما عرفها العالم.
وفي محاولة للربط بين التفسيرين السابقين، تناولت
الصحافة الألمانية تصريحات لأحد الضباط السابقين في المخابرات الإيرانية أدلى بها لضابط
تحقيقات في ألمانيا.
وتفيد هذه التصريحات بأن طهران أمرت بتفجير طائرة
"بانام" وأن أبو القاسم مصباحي وهو أحد المؤسسين السابقين لوكالة المخابرات
الإيرانية- أبلغ وزير الخارجية الإيراني آنذاك علي أكبر ولاياتي بضرورة التنسيق مع
ليبيا والجماعات الفلسطينية من أجل ضرب إحدى الرحلات الجوية الأميركية.
تداعيات الحادثة
أسفرت التحريات الأميركية والبريطانية بشأن حادثة
لوكربي عن اتهام ليبيا بتدبير العملية ووجهت التهمة رسميا إلى النظام الليبي أواخر
1990، بعد أن وجد المحققون شظايا قليلة من قنبلة لوحظ في إحداها وجود أثر ملتو قالوا
إن تتبع مصدره قادهم إلى أجهزة المخابرات الليبية.
اتهمت أميركا اثنين من مسؤولي الحكومة الليبية وطالبت
طرابلس بتسليمهما للمحاكمة خارج ليبيا بعد أن أصدر قاضي التحقيق في أسكتلندا وهيئة
المحلفين الأميركية أمرا بالقبض عليهما في 13 نوفمبر 1991.
والمسؤولان هما: الأمين خليفة فحيمة (موظف سابق
في الخطوط الجوية الليبية، من مواليد عام 1956) وعبد الباسط علي محمد المقرحي (موظف
سابق في الخطوط الجوية الليبية اتهمه الادعاء الأسكتلندي بأنه كان يعمل في المخابرات
الليبية ولد 1952 وتوفي 2012).
رفض العقيد القذافي بشدة تسليم المشتبه فيهما، واتهم
أميركا وبريطانيا بالتواطؤ من أجل تقويض "الثورة الليبية العالمية" وتحجيم
دور بلاده العالمي في تحرير الشعوب والقضاء على الرأسمالية.
وكان من نتائج ذلك الرفض أن حصلت الأمور التالية:
- العقوبات الدولية: وفي يناير ومارس عام 1992 أصدر مجلس الأمن على التوالي القرارين 731 و748،
مطالبا السلطات الليبية بخمسة أمور: اعتقال الشخصين المذكورين وتسليمهما للمحاكمة في
أسكتلندا، وتحمل المسؤولية عن الحادثة، ودفع تعويضات لأهالي الضحايا، والتعاون في التحقيقات
والمساعدة في مكافحة الإرهاب.
وهدد مجلس الأمن طرابلس بفرض حظر جوي عليها في حالة
عدم امتثالها لمطالب الأمم المتحدة بينما أصرت ليبيا -ممثلة في شخص العقيد القذافي-
على أن المسألة سياسية وأن المستهدف هو النظام ورموزه.
فرضت الدول الغربية حصارا اقتصاديا وسياسيا خانقا
على ليبيا تضمن حظر الطيران من وإلى ليبيا ومنع استيراد قطع غيار الطائرات، مما أدى
إلى عزلتها عن أغلب دول العالم.
وقد أدى الحصار إلى ارتفاع نسبة البطالة في البلاد
-وفقا لبعض المصادر- إلى 24%، وأوقع خسائر اقتصادية قدرتها وزارة الخارجية الليبية
بـ24 مليار دولار خلال 1992-1998، وإن خفف منها أن العقوبات الدولية استثنت النفط الذي
يمثل أكثر من 90% من الصادرات الليبية، بسبب ضغوط الدول الأوروبية التي تعتمد بشكل
كبير على النفط والغاز الليبييْن.
- الحكم القضائي: صدر الحكم النهائي في محاكمة الأمين فحيمة وعبد الباسط المقرحي يوم 31 يناير
2001 في 82 صفحة بعد 12 عاما من التحقيق، وقراءة القضاة ملفات بلغ عدد صفحاتها عشرة
آلاف في حين استمرت المرافعات القانونية والجلسات 85 يوما، ومثل أمام منصة المحكمة
235 شاهدا.
قضى منطوق الحكم بتبرئة فحيمة فأفرج عنه، وبالسجن
المؤبد للمقرحي (مدة المؤبد في القوانين الأسكتلندية لا تتجاوز 20 سنة) باعتباره المسؤول
عن تفجير الطائرة ثم ثـبّـتت محكمة الاستئناف الحكم الصادر بحقه يوم 14 مارس 2002،
فأودع زنزانة بنيت خصيصا له داخل سجن بارليني بمدينة غلاسكو في أسكتلندا.
وقد اعتمدت المحكمة في إدانة المقرحي على شهادة
الصناعي الألماني أدوين بوليير الذي ادعى أنه باع متفجرات لليبيين، وصاحب متجر في مالطا
يدعى توني غوتشي زعم أن المقرحي اشترى ملابس من متجره 1988 رغم أنه لم يره إلا مرة
واحدة، وقد جدت بقايا منها وسط حطام الطائرة في حقيبة المتفجرات.
- صفقة التصالح: في يوم 15 أغسطس 2003 وهو العام الذي شهد تخلي طرابلس عن برنامجها النووي
وتسليم معداته وبرامجه إلى واشنطن بضغوط منها أعلن النظام الليبي مسؤوليته عن حادثة
لوكربي وقبوله التعويض لضحاياه، وسلم رسالة رسميا بهذا الاعتراف إلى مجلس الأمن الدولي.
وقد نصت صفقة تسوية ملف لوكربي على أن تدفع ليبيا
لضحايا الطائرة تعويضات مالية بلغت 2.7 مليار دولار أميركي بمعدل عشرة ملايين دولار
لكل منهم، على أن تقدَّم منها أربعة ملايين فورا لكل شخص، وبعد رفع العقوبات الأحادية
الأميركية المفروضة عليها تدفع أربعة ملايين أخرى، وعندما يُلغى اسم ليبيا من
"قائمة الإرهاب" الأميركية تدفع المليونين الباقيين.
ويرى كثير من المراقبين -ومنهم منسق فريق الدفاع
الليبي سابقا في قضية لوكربي إبراهيم الغويل- أن القيادة الليبية وقعت في فخ
"الاعتراف" و"تحمل المسؤولية" دون أن تثبت عليها جناية أمام قضاء
محايد. وكان الأوْلى بها القبول بالتعويض دون التصريح بالاعتراف.
و بموجب الصفقة الثانية أفرجت السلطات الأسكتلندية
عن عبد الباسط المقرحي في 20 أغسطس 2009 وسمحت له بالعودة إلى بلاده حيث استقبل
"استقبال الأبطال" لأسباب إنسانية جراء إصابته بالسرطان بعد أن قدّر الأطباء
أنه لن يعيش أكثر من ثلاثة أشهر، لكنه توفي بعد ثلاث سنوات من إطلاق سراحه في 20 مايو
2012.
وإثر وفاة المقرحي وهو المدان الوحيد في القضية-
صرح قادة غربيون بأن موته لن يُنهي ما وصفوه بـ"مسعى تحقيق العدالة" لعائلات
ضحايا الحادثة. فقد اعتبرت رئاسة الوزراء الأسكتلندية أن الوفاة "نهاية فصل"
في القضية، لكنها لا تتيح "إقفال الملف".
الاشتباه الجديد
أعطت وفاة القذافي أملا جديدا للمحققين في إمكانية
تسليط ضوء جديد على قضية لوكربي، فتم الاتصال بالسلطات الليبية الجديدة وسافر المحققون
والمدعون العامون الاسكتلنديون والأمريكيون إلى ليبيا لمقابلتهم.
وفي عام 2015، أعلن مكتب الادعاء الاسكتلندي والمدعي
العام الأمريكي أن لديهما أدلة تجاه اثنين من الليبيين كمشتبه بهما، وأنهما يطلبان
الإذن من ليبيا لإجراء مقابلة معهما والمشتبه بهما هما أبو عجيلة مسعود ورئيس مخابرات
القذافي السابق عبد الله السنوسي، اللذين اصطحبا المقرحي من مطار طرابلس عندما وصل
إلى وطنه قادما من اسكتلندا عام 2019.
ورغم انزلاق ليبيا إلى حرب أهلية، لكن خطوط الاتصال
مع المسؤولين الليبيين ظلت مفتوحة على الرغم من إراقة الدماء والفوضى تقدمت عائلة المقرحي
في عام 2017، بعد 5 سنوات من وفاته، بطلب جديد لتبرئة اسمه وكان هذا الطلب قيد النظر
عندما أعلنت قوات الشرطة الوطنية الاسكتلندية عن نتائج عملية "ساندوود" للتحقيق
في مزاعم من أنصار المقرحي وقالت شرطة اسكتلندا إنها لم تجد أي دليل على وجود تصرف
إجرامي فيما يتعلق بتعاملها مع التحقيق والملاحقة القضائية في القضية ما وجدوه كان
عبارة عن معلومات جديدة أرسلوها إلى مكتب الادعاء ولجنة مراجعة القضايا الجنائية الاسكتلندية
التي كانت تنظر في القضية مرة أخرى.
وفي عام 2020، أعادت اللجنة قرار إدانة المقرحي
إلى محكمة الاستئناف وكما هو الحال دائمًا مع قضية لوكربي، لم يكن الأمر بهذه البساطة
وقالت اللجنة أيضا إنها حصلت على معلومات جديدة تشير، إذا صدقت، إلى أن ليبيا والمقرحي
مسؤولان عن تفجير طائرة بان آم 103.
في ديسمبر من عام 2022، قبل أسابيع قليلة من الذكرى
الرابعة والثلاثين للتفجير، قام عبد الحميد الدبيبة بتسليم أبو عجيلة مسعود إلى الجانب
الأمريكي ولم يتم بعد توضيح الظروف الدقيقة لكن رئيس النيابة العامة في اسكتلندا قال
إن العملية كانت قانونية وزعمت عائلة مسعود أنه تم جره من فراش المرض على يد ميليشيا
مسلحة وأنه رجل متدين لم يقتل أحداً.
وأصر الليبي، الذي ورد اسمه في أوراق المحكمة باسم
أبو عقيلة محمد مسعود خير المريمي، بأنه غير مذنب وفي حال تم المضي قدماً في محاكمته،
فإن القضية التي بناها محققون اسكتلنديون وأمريكيون على مدى عقود من الزمن ستُعرض على
هيئة محلفين في محكمة فدرالية أمريكية.
ومن المؤكد أن الدفاع سيطعن في مصدر الاعتراف المزعوم
ويبدو أن احتمال محاكمته في قضية لوكربي أمر بعيد المنال، ولكن هذه القضية لها تاريخ
طويل من التقلبات والمنعطفات غير المتوقعة.
وبعد مرور 35 عامًا، هناك المزيد من الفصول القادمة
في هذه القصة.................
المصدر: الجزيرة نت
التاريخ : 18/11/2015
----------------------------
المصدر: بي بي سي نيوز
التاريخ : 17/12/2023
---------------------------
المصدر: إدارة الأزمات الدولية : أزمة لوكربى في
الإطار العربي الإفريقي : دراسة مقارنة
الكاتب : رجب المريض
التاريخ : 2014