قد
يبدو الحديث عن اللغة وتأثيراتها السياسية من قبيل التنظير السياسي أو الجدل
الأكاديمي البعيد عن السياسة الواقعية. فالقدرة على التعبير عن الأفكار بصورة
مفهومة للكافة أصبحت من قبيل المسلّمات في عصر العولمة وتآكل الحدود الفاصلة بين
الثقافات والاتصال اللامحدود وثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) بقدراته المذهلة على تناقل المحتوى بين اللغات بدقة متناهية
وبأقل قدر من تشويه المعاني، بل وخلق المحتوى المخصص لكل جمهور على حدا. في مقابل
هذه الرؤية، يمكن القول إن اللغة كانت وتظل أكثر من مجرد وسيلة للتواصل، وفي عصر
صحوة الهويات (Identity
Resurgence)
وصعود القومية (Nationalism)، تحوّلت اللغة إلى أحد تجليات القوة
القادرة على إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية وتوجيه الأحداث بصورة عابرة للحدود
الفاصلة بين الداخلي والدولي (Intermestic)،
وفي ظل الطفرة غير المسبوقة في صناعة المحتوى بالذكاء الاصطناعي تتصاعد أهمية
اللغة نتيجة للتلاعب بالوعي الجماعي والإدراك العام وتزييف الرسائل واختلاقها
لتوجيه الجمهور والتحكم في رؤيته للعالم.
ثورة
التعبير السياسي
تقليدياً،
تلعب اللغة دوراً أساسياً في تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي، حيث تعتبر وسيلة
فعالة لتوجيه الخطاب العام، والسيطرة على المجتمعات، وتعزيز أو تحدي السلطة، وهي
قطعاً أكثر من مجرد أداة للتواصل؛ بل هي قوة تُستخدم في بناء الهويات، وإدارة
الصراعات، وتحقيق التوافقات السياسية. وفي الآونة الأخيرة، بدا التركيز على اللغة
وتوظيفها في الصراعات السياسية متصاعداً بصورة غير مسبوقة كأحد أبعاد الاستقطاب
الداخلي والتضاد بين القوى الدولية المتعارضة، وهو ما يمكن رصده في العديد من
السياقات السياسية:
1-
انتقاد لهجات وتعبيرات المرشحين للرئاسة الأمريكية: كان مفاجئاً قيام المرشح
المستقل في سباق الرئاسة الأمريكية "روبرت كينيدي" خلال تعليقه لفاعليات
حملته الانتخابية، بانتقاد نائبة الرئيس الأمريكي والمرشحة عن الحزب الديمقراطي
كامالا هاريس، مدعياً أنها لا يمكنها "صياغة جملة إنجليزية سليمة" في
حواره مع شبكة "نيوز ناشن" في 4
سبتمبر 2024. المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة
الأمريكية دونالد ترامب لم يدخر جهداً لتسليط الضوء على ما وصفه تغيراً في لكنة
هاريس، ومحاولاتها محاكاة طريقة حديث الأفارقة الأمريكيين لتؤكد انتماءها لهذه
الكتلة التصويتية، واصفاً إياها بـ"الحرباء" التي تتلون وفقاً للكتل
التصويتية التي ترغب في اجتذاب أصواتها.
ترامب
هو الآخر نال حظه من الانتقادات التي تصفه بالعجز عن التعبير السليم عن أفكار
متماسكة أو الحديث بلغة إنجليزية متقدمة ترقى إلى مستوى رئيس أمريكي سابق، وهو ما
جعله محط تندر دائم من برامج السخرية السياسية (Political Satire) التي تجد في طريقته في الحديث وتعليقاته الشعبوية مادة ثرية لجذب
المشاهدات. فعلى سبيل المثال، أعدّ مقدم البرامج الشهير "جيمي كيميل"،
في 5 سبتمبر 2024، مقطع فيديو يجمع لقطات من خطابات ترامب خلال حملته الانتخابية عجز
خلالها عن نطق بعض الكلمات أو استكمال العبارات وإتمام الجمل، ساخراً من الرئيس
الأمريكي السابق وقدرته على التعبير.
2-
توظيف اللغة الأوكرانية في الحرب مع روسيا: على مدار تاريخها، لم تعتبر روسيا
"الأوكرانية" لغة مستقلة، وإنما تم النظر إليها كرافد صغير غير مكتمل من
اللغة الروسية الأم، وخلال فترات الحكم الروسي الممتدة لأوكرانيا كانت هناك عمليات
لفرض اللغة الروسية وإنهاء الاستقلال اللغوي لأوكرانيا، وهو ما نتج عنه ترسخ
الطبيعة ثنائية اللغة في هذه الدولة إلى أن تفجرت الحرب الأوكرانية في 24 فبراير 2022، حيث بدأت أوكرانيا إجراءات متتابعة
للانسلاخ عن الثقافة الروسية، والفصل التام بين الأوكرانية والروسية عبر إجراءات
متعددة من بينها فرض الأوكرانية لغةً رسميةً وحيدة داخل الدولة، وبدء المتطوعين من
القوميين الأوكرانيين حملات لتعليم اللغة الأوكرانية في مختلف مقاطعات الدولة.
بالتوازي
مع ذلك، قام البرلمان الأوكراني في يونيو 2024 بالتصديق على قانون ينص على أن اللغة الإنجليزية هي لغة الاتصال
الدولي في أوكرانيا؛ حيث ستتاح خدمات الدولة المختلفة باللغة الإنجليزية. كما ينصّ
القانون على توسيع فرص التعليم باللغة الإنجليزية، ودعم عرض الأفلام باللغة
الإنجليزية التي تتضمن ترجمة بدلاً من الدبلجة. ويهدف القانون الجديد لتأكيد
الاندماج في الكتلة الغربية ممثلةً في حلف شمال الأطلسي عسكرياً والاتحاد الأوروبي
سياسياً واقتصادياً والنأي بالذات عن كل ما هو روسي الطابع. وبموجب هذا التشريع،
من المتوقع الآن أن يصل عدد كبير من المسؤولين الحكوميين الأوكرانيين إلى درجة
معينة من الطلاقة في اللغة الإنجليزية بحيث يتم التواصل باللغة الإنجليزية مع
نظرائهم الغربيين.
3-
صراعات اللغة في الحرب الأهلية بميانمار: على الرغم من أن اللغة البورمية تُعد
رمزاً للقومية العسكرية التي حكمت البلاد لعقود، فإنّ الحرب الأهلية بين النظام
العسكري الحاكم وجماعات التمرد تتضمن صداماً موازياً بين اللغة البورمية التي
يتحدثها ثلثا السكان وأكثر من 100 لغة محلية تتحدثها الأقليات العرقية التي
تقاتل ضد النظام الحاكم، وتتضمن لغة شان التي يتحدثها 3.2 ملايين شخص، ولغة كارين التي يتحدث بها 2.6 مليون فرد، ولغات أخرى مثل التاميل والمون والهيمونج-ميان، فالقمع
الهوياتي للغات بالأقليات خلال الحكم العسكري دفعهم ضمن سياقات التهميش السياسي
والثقافي للانضمام لحركات التمرد وحمل السلاح ضد النظام الحاكم.
وليس
من قبيل المصادفة أن يتصدر شعراء مثل "ماونج ساونجكا" حركات التمرد
العسكري، حيث يقود "جيش تحرير شعب بامار" الذي يتمركز في غابات شرق
ميانمار، ويسعى للانفصال بالإقليم عن ميانمار وإعلانه دولة مستقله. وقد أطلقت
صحيفة "نيويورك تايمز" في تحقيقها المنشور في 16 يوليو 2024 على الأخير "الشاعر المحارب" الذي
يقود جيش التمرد، كاشفةً عن انضمام العديد من الشعراء من مختلف القوميات إلى حركات
المقاومة للحكم العسكري عقب انقلاب 2021 في دولة يُعتبر الشعر فيها أيقونة أساسية
ضمن تراثها الثقافي وحياتها اليومية، حيث قُتل ما لا يقل عن ستة شعراء منذ بداية
الحرب، وقام المجلس العسكري بسجن ما لا يقل عن 30 شاعراً. وقد أضحى بيتٌ من شعر "سونجكا" معناه "من
أجل السلام في ميانمار، نحتاج إلى الحرب أولاً" شعاراً لحركات التمرد في
الإقليم.
4-
انحسار اللغة الفرنسية في غرب أفريقيا: يشهد غرب أفريقيا تحولات جذرية في الهوية
الثقافية واللغوية، حيث بدأت دول مثل بوركينافاسو ومالي التخلي عن اللغة الفرنسية
كلغة رسمية، واعتماد اللغات المحلية بدلاً منها. في ديسمبر 2023، أعلنت حكومة بوركينافاسو مقترح تعديل الدستور لاعتماد اللغات
الوطنية كلغات رسمية، مما يمثل خطوة نحو تعزيز السيادة الثقافية، والتخلي عن
التبعية اللغوية لفرنسا. وتم إطلاق قناة تلفزيونية محلية تبث بـ12 لغة وطنية لتعزيز التواصل بين السكان. هذا التوجه يعكس تصاعد
الرغبة في تعزيز الهويات المحلية، وإعادة إحياء اللغات الأصلية التي طالما طغت
عليها اللغة الفرنسية في الحقبة الاستعمارية.
تراجع
اللغة الفرنسية في غرب أفريقيا ليس محصوراً في بوركينافاسو فقط، فخلال الانتخابات
الرئاسية في السنغال في يوليو 2024، طرح الرئيس السنغالي الجديد في حملته
الانتخابية خطاباً استقلالياً يميل إلى إنهاء التبعية لفرنسا طارحاً فكرة مبدئية
لاعتماد اللغة العربية بديلاً للغة الفرنسية. وفي يونيو 2023، أقرّت مالي دستوراً جديداً يُسقط الفرنسية كلغة رسمية، لتصبح لغة
عمل فقط، مع الاعتراف باللغات الوطنية. رواندا كانت من أوائل الدول التي تخلت عن
الفرنسية في 2003 لصالح الإنجليزية، وفي 2021 انسحبت الجابون من المنظمة الفرانكوفونية وانضمت إلى الكومنولث.
هذه التحولات، إلى جانب قطع بث القنوات الفرنسية في النيجر وبوركينافاسو ومالي،
تمثل ضربة قوية للمشروع الثقافي الفرنسي في مستعمراتها السابقة، وتؤشر إلى تراجع
نفوذها اللغوي في المنطقة.
5-
تصاعد النبرة الدينية في الخطاب القومي الهندي: يشهد الخطاب السياسي الهندي
تصاعداً في توظيف المفردات والاستشهادات الهندوسية بصورة متزايدة من جانب قيادات
حزب بهاراتيا جاناتا، وهو ما تجلى بصورة واضحة في الانتخابات التشريعية خلال
الفترة الممتدة من أبريل إلى يونيو 2024، حيث يتبنى الحزب عقيدة
"الهندوتفا" التي تؤمن بالقومية الهندوسية وتجعلها مرادفاً للهوية
الوطنية، وهو ما يؤجج الصراعات مع التكوينات الدينية والمجتمعية الأخرى في الهند،
ولعل قانون المواطنة الذي دخل حيز التنفيذ في مارس 2024 نموذج على هذه الأفكار؛ حيث أثار القانون الذي تم إقراره في عام 2019 احتجاجات دامية بسبب اعتراض بعض الأقليات وتيارات المعارضة. ويسمح
القانون بمنح الجنسية الهندية للاجئين من أفغانستان وباكستان وبنجلاديش من الهندوس
والبارسيين والسيخ والبوذيين والجانيين والمسيحيين وهو ما اعتبره بعض الناشطين في
الأقليات الأخرى وخاصةً المسلمين تمييزاً لصالح المجموعات الأخرى.
6-
تطبيق قانون "حماية اللغة الفرنسية" في كيبيك بكندا: على الرغم من
احتجاجات الناطقين بالإنجليزية، بدأت مقاطعة كيبيك الكندية في تطبيق القانون 96 الذي يحد من استخدام اللغة الإنجليزية في أماكن معينة، حيث تم
اعتماد الفرنسية كلغة رسمية للإدارة المدنية وكافة المؤسسات الحكومية في المقاطعة،
ويتم تقديم الخدمات الحكومية بدايةً من يونيو 2023 حصراً باللغة الفرنسية بما في
ذلك الخدمات المقدمة للمهاجرين الجدد، كما يُعد إتقان الفرنسية شرطاً لقبول طلبات
الهجرة والإقامة في الإقليم، ويتعين على الشركات الإعلان عن نسبة موظفيها ممن لا
يتقنون اللغة الفرنسية، ويتم صياغة العقود وشروط الخدمات باللغة الفرنسية أيضاً.
يأتي
إقرار القانون بالتوازي مع اعتماد تعديلات قانون الهجرة في كندا الذي شدد على
أهمية اللغة الفرنسية، ووصفها بأنها مهدَّدة وتحتاج للحماية، مشدداً على أهمية
الهجرة الفرانكفونية لمجتمعات الأقليات الفرنسية في إقليم كيبيك وخارجه، حيث تم
التأكيد على إعطاء الأولوية للمهاجرين الناطقين بالفرنسية واستخدامها في الأعمال
التجارية الخاصة الخاضعة للتنظيم الفيدرالي، بالإضافة للسماح بتقديم الخدمات
باللغة الفرنسية، ومراعاة تعيين قضاة في المحكمة العليا ناطقين بالفرنسية من أجل
تحسين الوصول للعدالة.
صعود
"سياسة اللغة"
يكشف
الاستعراض السابق عن تجليات تستعصي على الحصر للتوظيف السياسي للغة في الأحداث
الراهنة كأداة أساسية لبناء السلطة، وترسيخ أو تفكيك الهيمنة الثقافية. ففي عصر
صحوة القوميات والهويات الفرعية أصبح تشكيل الخطاب العامي والتحكم في الوعي الجمعي
في صدارة مقاصد السياسة وأولوياتها نتيجةً للصراع لتعريف "الأنا"
و"الآخر" وإيجاد فواصل واضحة بينهما بصورة قاطعة لترسيخ التضاد بين
النقيضين، وهو ما يمكن تفسيره بعدة مداخل توضح تداخل اللغة والقوة في الهياكل
الاجتماعية والسياسية، مما يجعلها عاملاً محورياً في هندسة الواقع السياسي
والهيمنة الثقافية.
1-
التحكم في الخطاب السياسي: إن اللغة تسهم بقوة في تحديد وحكم مضمون الخطاب
السياسي، ففي كتابه "نظام الخطاب" (The Order of Discourse) يؤكد ميشيل فوكو أن الخطاب ليس مجرد وسيلة للتواصل، بل هو أداة
للتحكم فيما يمكن التفكير فيه والتحدث عنه. وعبر الرقابة على الخطاب من خلال
المؤسسات والقوانين، تحدد المجتمعات ما هو مقبول ومحظور، مما يخلق
"حقيقة" اجتماعية يُحكَم بها الأفراد.
ويشير
فوكو إلى أن الخطاب يُعد ساحة تنازع بين قوى مختلفة تسعى للسيطرة عليه وتوجيهه
لخدمة مصالحها. هذه الصراعات المستمرة على الخطاب تؤكد أن إنتاج المعرفة مرتبط
بالقوة. لذلك، يطرح فوكو فكرة أن تحليل الخطاب هو وسيلة لكشف الآليات التي تُمارَس
بها القوة وإمكانية التحرر منها من خلال إعادة صياغة وفهم جديد للخطاب نفسه.
2-
فرض الهيمنة الثقافية: تستخدم اللغة في فرض الهيمنة الثقافية من جانب النخب عبر
أدوات مثل التعليم والإعلام لتطويع رؤية المجتمع للعالم، ووفقاً لأنطونيو جرامشي
لا تعتمد النخب المهيمنة على القوة المادية أو الاقتصادية فقط، بل أيضاً على فرض
نظام من الأفكار والقيم التي يُنظر إليها على أنها "طبيعية" أو
"مشروعة" من قِبل عامة الناس. وتلعب المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام
دوراً حاسماً في نشر هذه القيم، حيث تقوم بتشكيل الوعي الجماعي، وإقناع الأفراد
بقبول الوضع القائم كأمر طبيعي لا يمكن تغييره وأنها تخدم مصلحة الجميع.
ولعل
توظيف الإعلام وصناعة السينما في الولايات المتحدة لترويج الثقافة الأمريكية
وتعزيز صورة الولايات المتحدة في الخارج ونفوذها الثقافي والسياسي يُعد نموذجاً
على هذا الترسيخ غير المباشر لانتشار منظومة القيم الأمريكية والغربية بصورة تجعل
المتلقي يعتقد أن هذا هو السمت الطبيعي للأشياء.
3-
تشكيل الهوية الجماعية: في كتابه "الجماعات المتخيلة" (Imagined Communities)، يؤكد بنديكت أندرسون على الدور المحوري للغة في تشكيل الهوية
الوطنية. فاللغة قادرة على جمع الأفراد ضمن "مجتمع متخيل"، حيث يشعر
أفراده بالانتماء إلى هوية مشتركة، حتى وإن لم يلتقوا أو يتفاعلوا بشكل مباشر. عبر
الخطاب المشترك، يمكن للغة أن تُعبر عن القيم والرؤية الجماعية التي توحد أعضاء
المجتمع.
فعلى
سبيل المثال، ارتبط تأسيس الدولة القومية في الهند بعد الاستقلال بنشر وتعليم
اللغة الهندية لترسيخ الهوية الوطنية من جانب النخبة التي تولت السلطة، وعلى الرغم
من التنوع اللغوي الكبير داخل البلاد، حيث تتعايش لغات محلية عديدة مثل التاميلية
والبنغالية، ظلت الهندية جسراً للتواصل المشترك الذي يعزز الشعور بالانتماء
الوطني.
4-
بناء وسائط للتواصل: تُعد اللغة وسيطاً مهماً للتواصل داخل المجتمع الواحد، ووفقاً
ليورجن هابرماس، فإن "الفعل الاتصالي" (Communicative Action) يشمل التفاعلات بين الأفراد الهادفة للفهم المتبادل والحوار
العقلاني والتوافق المشترك والتعاون من خلال لغة مفتوحة وشفافة بما يسمح بحل
النزاعات وتحقيق التكامل المجتمعي على أساس عقلاني. ولا يتطلب الأمر توحيد اللغات
أو تحدث لغة واحدة لإدارة حوار عقلاني من هذا النوع، ففي الاتحاد الأوروبي تم تبني
سياسة اللغات المتحدة لإتاحة الفرصة لكافة الدول الأعضاء للتعبير بأقصى قدر من
الدقة في الاجتماعات عن مواقفها وآرائها مما يُعزز من مشاركة الجميع في النقاشات
السياسية، ويضمن تكافؤ الفرص للتعبير عن الرأي.
5-
إدارة الصراع السياسي: في السياسة، الكلمات هي السلاح الوحيد المشروع الذي يمكن
للنخب ذات الأفكار المتعارضة استخدامه، حيث يرى بيير بورديو أن اللغة تتحول في
الصراعات السياسية إلى "رأس مال رمزي" (Symbolic Capital) يتيح للنخب تحديد كيفية فهم المجتمع للواقع، وتُستخدم كوسيلة
لتعزيز مواقف معينة أو لتحديها. والصراع حول المعاني والتعريفات اللغوية يُعبر عن
صراع أوسع حول السلطة والتأثير السياسي. وفي هذا الصدد يتم وصف الظواهر بمفردات مختلفة
وفقاً لتحيزات كل طرف، فما يوصف بأنه إرهاب أو تمرد من جانب طرف سياسي يصفه الطرف
الآخر كمقاومة أو نضال مشروع.
عصر
"صناعة المحتوى"
في
مقابل الرؤى الكلاسيكية سالفة الذكر للعلاقة بين اللغة والسلطة، فإننا بصدد عالم
جديد يغير من طبيعة اللغة وتوظيفها السياسي والاجتماعي. بدأت أولى مظاهر هذا
التغيير مع انتشار وتعدد وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت كيانات شديدة التأثير
في تشكيل الخطاب السياسي وتوجيه الرأي العام بشكل غير مسبوق. هذه الأدوات أتاحت
للأصوات الفردية والمجموعات التأثير في النقاشات السياسية العامة، مما جعل الخطاب
السياسي أكثر تعددية وسرعة في التفاعل.
وفي
هذا الإطار، أصبحت النخبُ السياسية تركز على "صناعة التريند" واستقطاب
"المؤثرين" على وسائل التواصل الاجتماعي والتحكم في "الصور
المتداولة" و"مقاطع الفيديو"، وأصبحت الخطابات السياسية أقصر وأكثر
مباشرة وتركيزاً، والنقاشات أسرع، كما توسعت نطاقات المشاركة المباشرة في تغطية
وصناعة الأحداث السياسية بصورة لم تحدث من قبل.
وفي
الموجة التالية، أتاح تحليل البيانات الضخمة (Big Data) فهماً أعمق لتوجهات وتفضيلات الجمهور ومن ثم تصميم حملات سياسية
قادرة على التأثير في توجهاته وتوجيه ردود أفعاله، ولعلّ ما كشفت عنه قضية
"كامبريدج أناليتيكا" (Cambridge Analytica)
نموذج على كيفية توظيف بيانات مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لتحليل وتوجيه
الحملات الانتخابية، بما في ذلك حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وحملة
الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 وكذلك الحروب الإعلامية وحملات التضليل
المعلوماتي التي أصبحت أكثر تقدماً من أيِّ وقتٍ مضى.
الآن
نحن بصدد ثورة لغوية جديدة، مع صعود الذكاء الاصطناعي (Generative AI) التوليدي والنماذج اللغوية (Language Models) التي يمكنها عبر مجموعة أوامر بسيطة (Prompts) إنتاج محتوى احترافي يشمل النصوص، والصور، والموسيقى،
والفيديوهات. وبدلاً من مجرد تحليل البيانات أو اتخاذ قرارات بناءً على أنماط
محددة، يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي إنتاج مخرجات جديدة وفريدة من نوعها تصل
إلى حد يحاكي الإبداع في بعض الأحيان.
ومع
صعود نماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدماً، أصبح للغة دور أكثر تعقيداً وتأثيراً
في الحقل السياسي. فبدلاً من الاعتماد فقط على الوسائل التقليدية للتحكم في الرؤى
وتوجيه الخطاب، أصبحت الأنظمة الذكية قادرةً على إنتاج محتوى سياسي متجدد استناداً
إلى تحليل شامل للبيانات. وتتيح هذه الأنظمة تصميم خطابات موجهة خصيصاً لشرائح
معينة من الجمهور، مما يتيح التأثير العميق في الرأي العام بسرعة ودقة غير
مسبوقين. وفي هذا السياق، باتت الحملات الانتخابية والإعلامية تعتمد بشكل أكبر على
الذكاء الاصطناعي للتفاعل الفوري مع التطورات السياسية والاجتماعية.
التداعيات
السياسية لهذا التحول كبيرة؛ فقد أصبحت النخب السياسية تسعى لتطويع هذه الأدوات
لتعزيز سلطتها عبر استغلال نقاط الضعف في الخطاب العام، بما في ذلك نشر المعلومات
المضللة وحملات التأثير عبر "البوتات" والأنظمة الذكية التي تخلق
انطباعات كاذبة. وتجاوز الأمر مجرد الخطاب المكتوب أو الأخبار الكاذبة إلى تخليق
صور مطابقة للواقع ومقاطع فيديو مزيفة (Deep Fake)
بصورة لا يمكن تمييزها عن نظيرتها الواقعية. وفي المحصلة النهائية، تندثر الحقيقة
وتتوارى فرص الحوار السياسي البناء تحت ركام فوضى التعبيرات المزيفة وتخليق
المحتوى الزائف الذي يضع هذا الذكاء الاصطناعي كمشارك بالوكالة في تشكيل وتوجيه
الأحداث والتوجهات السياسية. إننا بصدد لحظة حاسمة في تاريخ التعبير السياسي
تتمحور حول كيفية الموازنة بين القوة الهائلة لهذه التكنولوجيا وضرورة الحفاظ على أصالة
اللغة وصدق العبارات والمعاني والرسائل التي يتم تقديمها للجمهور العام.
المراجع:
د.
محمد عبدالله يونس، 11.9.2024، لماذا يتصاعد
الجدل حول "اللغة" في العلاقات الدولية؟ ، إنترريجونال للتحليلات
الاستراتيجية .
المؤمن
بالله، 25.6.2024، لماذا
يتصاعد الجدل حول "اللغة" في العلاقات الدولية؟ اليابان بالعربي.