يعرف
الجميع أنّ الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني ارتكب جرائم لا تحصى بحق العرب
والمسلمين واليهود، بلغت درجة الجرائم ضد الإنسانية، والمعضلة التي ينتفض الأحرار
ضدها هي الجهود التي تبذلها الصهيونية وتطلب من العرب والمسلمين القبول بتلك
الجرائم وأن يتم التعامل معها وكأنّها لم ترتكب أيّ جريمة، وهو ما يسمى التطبيع،
فالتطبيع مع الكيان الصهيوني، هو بناء علاقات رسمية وغير رسمية، سياسية واقتصادية
وثقافية وعلمية واستخباراتية مع الكيان الصهيوني، والتطبيع هو تسليم للكيان الصهيوني
بحقه في الأرض العربية بفلسطين، وبحقه في بناء المستوطنات وحقه في تهجير
الفلسطينيين وحقه في تدمير القرى والمدن العربية، وهكذا يكون التطبيع هو الاستسلام
والرضا بأبشع مراتب المذلة والهوان والتنازل عن الكرامة وعن الحقوق، والتطبيع يعني
جعل ما هو غير طبيعي طبيعياً، ولا يعني بالضرورة إعادة الأمور إلى طبيعتها كما
يذهب البعض. وفي علم الإحصاء وقواعد البيانات ثمة مصطلح علمي هو "تطبيع
البيانات"، بمعنى جعل البيانات الإحصائية أكثر قابلية للاستخدام في البرمجة
والتحليل مما هي في حالتها الخام قبل تطبيعها.
بالتالي، لا ضرورة للإصرار على استخدام مقاومة الصهينة بدلاً من مقاومة
التطبيع، باعتبار التطبيع يمثل "عودة مزعومة لوضعٍ معين كان يوماً ما
طبيعياً"، كما يذهب بعض الأصدقاء والزملاء الكرام بكل حسن نية. فالتطبيع هو جعل العلاقات طبيعية بين طرفين
ليست العلاقات بينهما طبيعية حالياً، سواءٌ كانت طبيعية سابقاً أم لا… ولا حرج
بالتالي من إطلاق تعبير "مقاومة التطبيع" على من يقاومون جعل العلاقات
طبيعية بيننا وبين الكيان الصهيوني.
التطبيع
نهج مرفوض
وفي
اللغة تأتي لفظة تطبيع على وزن "تفعيل"، فهي عملية وصيرورة دائبة وصولاً
لتحقيق غاية، لا خطوة واحدة عابرة سريعة أو غير سريعة. فالتطبيع نهج وأداء وعقلية
جوهره كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، سواء كانت ثقافية أو
إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو دينية أو أمنية أو إستراتيجية أو
غيرها.
لكن
بغضِّ النظر عن الشكل، فإن فحوى التطبيع مع العدو الصهيوني يبقى واحداً وهو جعل
الوجود اليهودي في فلسطين أمراً طبيعياً، وبالتالي فإن أي عمل أو قول أو صمت أو
تقاعس يؤدي إلى التعامل مع الوجود اليهودي في فلسطين كأمر طبيعي يحمل في طياته
معنىً تطبيعياً.
ويُراد
بالتطبيع إقامة علاقات طبيعية في الجوانب المختلفة: فهناك تطبيع سياسيّ، وتطبيع
اقتصادي، وتطبيع دبلوماسي، وغير ذلك. وكل هذه الجوانب مرفوضة ولا تحتاج إلى اجتهاد
كبير، فهي واضحة جلية، فالتطبيع مع الظالم ظلم، لأنه إقرار له على ظلمه، وهذا
منصوص عليه في مواضع كثيرة: قال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾(الممتحنة:
من الآية 1). وقال أيضاً: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ﴾(القصص:17).
وقال
النبي(ص): (من مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من
الإسلام) (رواه الطبراني). وقال: ((من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى
ينزع)) (رواه ابن ماجه). وقال: (إذا رأيتَ أمتي تهابُ الظالم أن تقول له أنت ظالم،
فقد تُوُدِّع منهم).
وهكذا
فإن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية متوافرة متضافرة، تدل بمجموعها على عدم
جواز إقرار الظالم على ظلمه، وهذا في الحقيقة موقف العقل والنقل، يعرفه التشريع
الدولي ويقره، وهذا ما نص عليه الإسلام.
ومن
خلال هذا المعيار فإنه لا يشك عاقل في تحريم التطبيع مع إسرائيل، طالما بقيت تصرُّ
على الظلم، وتصرُّ على تشريد الشعب الفلسطيني، واغتصاب الأرض العربية.
إن
الكيان الصهيوني اليوم لا يعترف بأي حق
إنساني لأكثر من ستة ملايين فلسطيني مشردين في الأرض، بحجة أنهم خرجوا قبل جيل أو
جيلين، في حين يرون حق الهجرة في كل لحظة ومتى شاءوا لليهود الذين يحتمل أن
أجدادهم قبل سبعين جيلاً مرّوا من فلسطين، أو أن أجدادهم لم يعرفوا أصلاً شيئاً
اسمه فلسطين، لأنهم لا يمتون بأي صلة إلى سكان هذه المنطقة.
ولنسأل
التاريخ وعلم الأجناس هل كان سكان فلسطين أفارقة من العرق الأسود حتى يُعطى الحق
ليهود الفلاشا الإثيوبيين بالهجرة إلى أرض فلسطين ؟! أم كان سكان فلسطين من الخزر
أو الجرمان أو الأجناس الأخرى التي تُعطى حق الهجرة إلى فلسطين ؟! بينما يُحرم
الفلسطينيون الذين تمتد آثارهم في فلسطين إلى آلاف السنين من العودة إلى أراضيهم
وبيوتهم ومزارعهم بعد أن أخرجوا منها.
وهكذا
فإنه استناداً إلى النصوص الشرعية السالفة، وإلى الواقع الذي يتحرك فيه العدو
الإسرائيلي؛ فإننا نفتي بحرمة التطبيع مع الكيان الصهيوني طالما بقيت على سياستها
الحالية من الظلم والبغي والعدوان واحتلال الأرض.
أما
بالنسبة لمن يقارن بين علاقاته مع " الكيان الصهيوني " وبين صلح
الحديبية. فإن من أبسط ما يقال: إن هذه المقارنة خاطئة من عدة وجوه، منها:
إن
صلح الحديبية هو هدنة بين عدوين، ولا يقارن بإقامة السلام والتطبيع مع عدو ما زال
يغتصب الأرض العربية ويشرد أهلها، والسلام والتطبيع في هذه الحالة لا يجوز شرعاً،
بينما الهدنة جائزة.
ومنها:
إن صلح الحديبية عقده قائد الأمة آنذاك، فكان اتفاقاً واحداً صان للأمة وحدتها،
ولم يمكّن أعداءها منها.
والاتفاقيات
المنفردة فرطت عقد الأمة، وأضعفت شوكتها، وقوت أعداءها، ومكنت سرطان الصهيونية
الفتاك من التجرؤ على عقيدتها وفكرها..
قال
تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾(الأنبياء:92). وقال
أيضاً: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ
بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾(المؤمنون52-53). وقال:
﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا
تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103)
آليات
التطبيع السياسي
ضمن
هذا الإطار العام رأت ما تسمي إسرائيل أن الضمان الأهم لاستمرار وجودها هو أن تكون
مقبولة من قبل العرب والمسلمين كجزء لا يتجزأ من المنطقة وأن يتم التعامل معها
كدولة لها الحق في الوجود والعيش بسلام وفي علاقات اعتيادية مع الآخرين كأي دولة
أخرى في المنطقة. ولهذا عمل الكيان الصهيوني منذ قيامها نحو البحث عن وسائل انفراج
مع العرب وإقامة علاقات غير عدائية بل واعتيادية معهم. وقد تركز جهدها على الشارع
العربي، على الإنسان العربي العادي لأنه هو الباقي وليس الحاكم. رأت ما تسمى
إسرائيل أن قبولها كدولة في المنطقة من قبل القادة والحكام والزعماء العرب لا يكفي
كضمان لاستمرارها بسبب عدم استقرار الحكم في الوطن العربي وعدم قدرة القيادات على
تحقيق استمرارية بدون قوة المخابرات والبنادق والسجون. فالقبول من قبل هؤلاء
يتهاوى مع تهاوي زعاماتهم وحكوماتهم, ومن السهل أن يقلب القبول إلى رفض إن لم يكن
الشعب قد سار في ركب القبول.
وحتى
تكون دولة الكيان الصهيوني مقبولة كجزء لا
يتجزأ من المنطقة ومعترفا بها هكذا فانه لا بد من توفر القبول الشعبي بها. لم يكن
الأمر سهلا ولا بد من تحقيق اختراقات تجعل الاحتكاك بينها وبين مختلف فئات الشعب
العربي ممكنا. وفي ظل العداء الواسع للكيان الصهيوني في الوطن العربي لم تكن وسائل
الإقناع العادية متوفرة ولم يكن أمامها سوى وسائل العنف والتدمير. وهي بذلك كانت
بحاجة إلى أمرين: قادة عرب لا يتمتعون بغيرة على أمتهم وشعوبهم ومن الممكن
تسييرهم، وهزائم عسكرية تلحق بالعرب تؤدي إلى إحباطات متراكمة وترسخ فكرة
الاستسلام. هذا بالتحديد ما دفع رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق بن غوريون في
التفكير في دفع رشوة مالية كبيرة لأي زعيم عربي مجاور حتى يشن حربا على ما تسمي
إسرائيل فيهزم فتستوعب الجماهير الدرس وتقرر أن لا فائدة من البحث عن أسباب القوة
لمحاربة الكيان الصهيوني .
لم
تكن أمام دولة الكيان الصهيوني مشكلة
كبيرة في إيجاد الزعماء المناسبين من خلال عدة وسائل تتمثل أولها في أن الاستعمار
البريطاني لم يغادر المنطقة دون أن ينصب بعض الموالين للدول الغربية على حساب
المصالح العربية. وأما من لم يربطه الاستعمار مباشرة قبل أن يغادر كان من الممكن
العمل عليه بوسيلتَيْ المال والنساء واللتين ثبتت فعاليتهما في تحييد العديد من
القادة العرب وفي تجنيدهم أيضاً. أما من استطاع أن يفلت من زمام المصائد بقي فريسة
لحالة التخلف المتميزة بضعف المستوى المهني والأخلاقي وبالتكاسل والعشائرية وغياب
العقلية العلمية والاستزلام. فمن لم يكن مصيبة على الأمة عمداً واستقطاباً كان
كذلك تخلّفاً. لهذا لم يكن العرب على مستوى الاستعداد لحرب متكافئة وكانت الغالبية
الساحقة من معاركهم عبر السنين هزائم مريرة
من
المفروض، حسب المنطق التاريخي العام، إن التحدي يولد التحدي وان يبحث المهزوم عن
أخطائه ليتلافها ويراكم أسباب القوة حتى يدحر عدوه. لكن الهزائم على المستوى
العربي كانت ذات مفعول آخر وهو رفع وتيرة الإحباط أو زيادة حدة مشاعر اليأس تمهيدا
للتسليم بالأمر الواقع وقبوله على علاته. السبب في ذلك أن الزعماء العرب الذين لم
تسقطهم الهزائم ولم تتحرك ضدهم الشعوب اتبعوا سياسات داخلية حرمت الشعوب من العمل
نحو تنفيذ رغباتها وإعادة ترتيب صفوفها بهدف الدفاع عن الذات ودحر المعتدين. سخر
قادة العرب أجهزتهم الأمنية وقوى الأمن لقمع الإنسان العربي، واستعملوا الأموال
لشراء الضمائر واستعباد الناس وأقاموا إدارات ينخرها الفساد الذي فتت الكثير من
الروابط المجتمعية والسياسية. لقد عاثوا في الأرض العربية فساداً ودماراً وأحالوا
العربي إلى حطام يصعب تجميعه. وبذلك دحروه إلى زاوية لا يقوى فيها على قول
"لا" وأصبحت معها الموافقة على كل المحرمات أمراً وارداً. وإذا تبقى
هناك من يمكن أن يعارض فالسجن بانتظاره أو القتل دون أن يأسف على وضعه أناس
كثيرون.
أوصلنا
القادة والحكام والزعماء إلى تلك النقطة التي وصلوا إليها منذ زمن بعيد ولم يكونوا
قادرين على البوح بها وتبنيها علنا وهي نقطة الصلح مع الكيان الصهيوني او قبوله.
قال هؤلاء القادة نعم للتفاوض وللاعتراف المتبادل وخرج الناس خاصة في فلسطين
المحتلة عام 67 إلى الشوارع يهتفون ويرقصون احتفالا بالانتصار الذي حققوه في مدريد
وبعد ذلك في أوسلو. لقد عمل اليأس معوله في نفوس وعقول الناس إلى درجة أنهم رقصوا
لما وصفوه عبر سنين على انه خيانة ومحرمات لا يمكن الإقدام عليها.
وهكذا فإن الكيان الصهيوني اعتمد على آليتين في بث اليأس والإحباط وهما صنع قيادات عربية قابلة للهزيمة إذ اعتمدوا آلية عسكرية خاصة به تهيمن بها على المنطقة. وبدورهم القادة العرب - اعتمدوا على آليتين وهما التماشي اللفظي مع تطلعات الجماهير وتأهيلها للتفتت والهزائم من خلال سياساتهم الداخلية والخارجية. وقد تكامل الدور اليهودي مع الدور القيادي العربي وانتهت الأوضاع إلى حيث أرادت دولة الكيان الصهيوني - وهو الجلوس على طاولة المفاوضات لصنع سلام مزعوم لكنه غير قابل للتحقيق
المراجع:
إبراهيم علوش، ( ب، ت) ، معنى التطبيع ومناهضته
في زماننا ، شبكة الميادين .
عبد القدوس الهاشمي، 8.6.2017، أخطار التطبيع
العربي مع العدو الصهيوني، الجزيرة.