منظمات المجتمع المدني الليبي بين صنع السلام وتفعيل الدور الخارجي
فرع القاهرة

 

بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي سنة 2011، شهدت ليبيا وضعاً أمنياً متردياً تأثرت منه المنطقة بأسرها، من الساحل الإفريقي إلى شمال قارة افريقيا، وامتدت تداعياته إلى شمال المتوسط. أصبح هذا الوضع هاجساً أمنياً  كبيراً للقوى الإقليمية والدولية. فقد برزت العديد من الأطراف السياسية  المسلحة التي تسعى إلى توسيع نفوذها وسيطرتها على المشهد الليبي. وذلك بهدف  تنفيذ أجنداتها ورؤاها لتحقيق الأمن والاستقرار، وغالبًا ما تخلو من مراعاة خصوصيات التركيبة الاجتماعية والسياسية والثقافية للشعب الليبي

وفي ظل التغيرات الجذرية التي تشهدها ليبيا نحو الديمقراطية في الوقت الحالي، كإجراء الانتخابات وصياغة دستور جديد، تعتبر صعوبة  التحول عاملاً أساسياً يجب التصدي له، يتطلب ذلك على النخب السياسية والشخصيات الوطنية المنتمية لمؤسسات المجتمع المدني العمل على تنظيم أنفسهم والجلوس على طاولات حوار للبحث عن حلول ووضع آليات تتماشى مع الخصوصيات التي يتميز بها المجتمع الليبي، والسعي لتحقيق الاستقرار والأمن والمحافظة على ليبيا موحدة بعيداً عن الطرح والتصور الخارجي

من هذا المنطلق يمكن طرح الاشكالية الآتية : كيف يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تشكل ميكانيزم محوري لصنع السلام في الداخل الليبي وتفعيل الدور الخارجي الليبي؟.

أولاً: واقع منظمات المجتمع المدني في ليبيا 

يركز هذا الجزء من الدراسة على تركيبة وخصوصية المجتمع المدني الليبي ومكانة القبيلة ضمن هذا البناء.

1-تركيبة المجتمع المدني الليبي:

يعد استخدام مفهوم  المجتمع المدني في ليبيا جديداً نسبياً؛  بالرغم من وجود منظمات ومبادرات مدنية  خلال العهد الملكي بما في ذلك الكشافة الليبية والمنظمات النسوية بالإضافة إلى المنظمات الخيرية. وبعد عام 1969 تم تقيد حرية التجمع وحرية التعبير وحصر نشاط منظمات المجتمع المدني على الأعمال الخيرية وذلك من طرف النظام، لتستأنف المنظمات الحقوقية العمل تزامناً مع مشروع ليبيا الغد وإنشاء مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية في عام 2003 بقيادة سيف الإسلام القذافي والتي ضمت العديد من الحقوقيين البارزين في تلك الفترة.

رغم الدور الرئيسي الذي لعبته منظمات المجتمع المدني في دعم الثورة والمراحل الانتقالية في ليبيا خاصة بداية عام 2011، حيث كانت مشاركتها حيوية في  تقديم الدعم الإنساني وتعزيز الديمقراطية، مع ذلك فإن هذا الدور بدأ يتراجع بسرعة بعد اشتداد الصراع المسلح في عام 2014، حيث تعرض المدافعون عن حقوق الإنسان والنشطاء للاستهداف والاعتداء. وشهدت السنوات التي تلت هذا النزاع تراجعاً كبيراً في عمل منظمات المجتمع المدني حيث اضطر معظمها إلى إيقاف أعمالها أو الهجرة إلى خارج البلاد خوفاً على سلامة نشطائها، ومع ذلك بدأت هذه المنظمات في استعادة نشاطها واستئناف أعمالها بشكل أكبر منذ عام 2016 بالرغم من استمرار التحديات والصعوبات التي تواجهها.     

حسب التقرير الأخير الصادر عن مفوضية المجتمع المدني، فقد بلغ إجمالي عدد منظمات المجتمع المدني المسجلة في ليبيا 5415 منظمة، 37٪ منها في طرابلس، و20٪ في بنغازي، و3.4٪ في سبها، يندرج نشاط معظم هذه المنظمات ضمن مجال الأعمال الخيرية بنسبة 14. 52٪، و11.83٪ تعمل في مجال التنمية الاجتماعية، بينما 9.39٪ تعمل في  مجال إصلاح القانون وحقوق الإنسان.

2- أهمية القبيلة في المجتمع الليبي:

تعتمد الهوية الاجتماعية في المجتمع الليبي بشكل كبير على المركب القبلي، حيث تشكل القبيلة جزءاً أساسياً من الهوية الشخصية والاجتماعية للفرد. وتتنوع القبائل في ليبيا من حيث الأصول والتكوين العرقي، حيث تضم مجموعات بشرية من أصول أمازيغية وعربية وتركية وإفريقية. وتقدم القبيلة لأفرادها الأمان والحماية وتوفر لهم فرصًا للعيش الكريم .

وتتميز تركيبة المجتمع الليبي بشدة انتماء الأفراد للقبيلة، حيث تشير بعض الإحصائيات إلى أن 90٪ من الليبيين يشعرون بالانتماء للقبيلة. وتبلغ نسبة القبائل في ليبيا حوالي 140 قبيلة، وتمتد جغرافيا عبر الحدود مع دول أفريقية أخرى مثل تونس والجزائر ومصر وتشاد والنيجر. وتمثل القبائل العربية نسبة تقارب 97٪ من إجمالي عدد القبائل، بينما لا تتجاوز القبائل الأمازيغية 03٪

تعكس التركيبة الاجتماعية  في ليبيا التنوع والتعددية، وتؤثر القبيلة بشكل كبير على الهوية والتكوين الاجتماعي للأفراد، عرفت التركيبة القبيلة في ليبيا خلال التاريخ الحديث والمعاصر تطورات عديدة، حيث برزت السنوسية كحركة دينية إصلاحية في إقليم برقة منذ عام 1853، ثم امتدت غربًا وجنوبًا.

وعندما غزا الإيطاليون ليبيا في عام 1911، عملت القبائل الليبية على توحيد حركة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال. وهكذا، تميزت الحقبة التاريخية الحديثة والمعاصرة في ليبيا بحضور مكثف للتحالفات القبلية. وقد دفعت هذه الظاهرة الباحثين في الشأن الليبي إلى التأكيد على أنه لا يمكن دراسة ممارسة السلطة بمعزل عن الظاهرة القبلية، التي طالما كان حضورها فعالًا ومؤثرًا في الأحداث الاجتماعية والسياسية في البلاد. تعكس التركيبة الاجتماعية في المجتمع الليبي التنوع والتعددية، وتؤثر القبيلة بشكل كبير على الهوية والتكوين الاجتماعي للأفراد. وخلال التاريخ الحديث والمعاصر، شهدت التركيبة القبلية في ليبيا تطورات عديدة.

منذ سنة 1853 برزت السنوسية كحركة دينية إصلاحية في إقليم برقة، وانتشرت لتشمل مناطق غربية وجنوبية أخرى. وعندما غزا  الايطاليون ليبيا عام  1911، عملت القبائل الليبية على توحيد حركة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وهكذا تميزت الحقبة التاريخية الحديثة والمعاصرة في ليبيا بحضور مكثف للتحالفات القبلية، وقد دفعت هذه الظاهرة الباحثين في الشأن الليبي إلى التأكيد على أنه لا يمكن دراسة ممارسة السلطة بمعزل عن الظاهرة القبلية، التي طالما كان حضورها فعالاً ومؤثراً في الأحداث الاجتماعية  والسياسية في البلاد.

ثانياً: الدور المحوري لمشاركة المجتمع المدني الليبي في الاستجابة للنزاع

إن الأزمة الليبية تمثل أزمة حكم تتقاطع فيها الصراعات القبلية مع مصالح الميليشيات المسلحة التي تمتد حتى منطقة الساحل الإفريقي. جغرافياً تنقسم إلى ثلاث مناطق هي ( فزان، برقة، طرابلس)، ومن الناحية السياسية، تتداخل الكثير من الأطراف والقوى الخارجية،  تحاول الهيمنة والسيطرة على مركز صناعة القرار السياسي، والتأكيد على جعل تصوراتها هي المرجع لوضع الحلول وهندسة السلم والأمن في ليبيا.

ومن الواضح أن الجهات الفاعلة في المجتمع المدني وحدها نادراً ما تكون قادرة – إن وجدت – على تغيير وضع أوسع للنزاع العنيف بمفردها. ومع ذلك يبدو أيضاً أنه من الصعب للغاية – إن لم يكن مستحيلاً- على الحكومات والمنظمات الحكومية الدولية تعزيز أو تحقيق سلام إيجابي دائم -كما أشار إلى ذلك يوهان غالتونغ -دون مشاركة السكان على نطاق أوسع في المجتمع المتضرر من النزاع .

تتشكل ديناميكيات الصراع عن طريق ردود الأفعال التفاعلية للأفراد على المواقف التي يواجهونها، وبالتالي  فإن الصراع ينبع أساساً من خلال الفاعلية البشرية.  ونتيجة لهذه الخاصية، يمكن أن تكون النزاعات أكثر عرضة للتغيير من الأنواع الأخرى من الظروف الهيكلية والبيئية التي تولد ضغوطًا في النظم الاجتماعية. من أجل تحويل الصراع،  يجب  تغيير المواقف والسلوكيات التي تعزز الصراع، وتطوير استراتيجيات قابلة للقبول من الطرفين لمعالجة قضايا الصراع الرئيسية. وفي النهاية، يتضمن  ذلك العمل إحداث تغييرات في الأفراد، على الرغم  من أن التغييرات في الظروف الهيكلية ضرورية أيضًا على المدى الطويل.

من بين أبرز نقاط القوة التي تتمتع بها  منظمات المجتمع المدني هي قدرتها على دعم التغييرات في كيفية استجابة الناس للنزاع، وتوجيه الانتباه إلى الأسباب الكامنة وراء الصراع التي تحتاج إلى معالجة إذا كانت هناك حاجة لدعم السلام المستدام والعادل. بالإضافة إلى ذلك، تمتلك الجهات الفاعلة في المجتمع المدني القدرة على أن  تلعب دوراً مهماً في زيادة الوعي بتكاليف استمرار الصراع والفرص والوسائل  المتاحة للبحث عن مخرج من خلال المشاركة البناءة مع المعارضين.

ونتيجة لتفاقم المعضلة الأمنية في ليبيا، والتي تشكل تهديداً حقيقياً للمنطقة ككل، فإنه من الضروري أن تتحرك مؤسسات المجتمع المدني الليبي للمساهمة في جهود صناعة السلام، وذلك من خلال  الدعوة إلى الحوار بين الأطراف المتحاربة والعمل على وضع  آليات وميكانيزمات لبناء تصور توافقي يعزز من عمليات المصالحة بين كل الأطراف المتناحرة. ويبدو أن  المقاربة الجزائرية تتناسب إلى حد بعيد مع هذا الطرح الذي يدعوا الجميع إلى ضرورة الجلوس على طاولة الحوار بين كل الفرقاء لإعادة استتباب الأمن والسلم في البلاد بأسرها.

ويمكننا من خلال هذا الجزء من الدراسة، رصد بعض المؤشرات على تفعيل دور المجتمع المدني في صنع السلام الداخلي، مما يخلق إعادة إحياء الدور الخارجي (على الأقل إقليميا في الوقت الراهن):

 بعد تصاعد العنف، عملت منظمات المجتمع المدني على تنظيم نفسها للتركيز على بناء السلام والخدمات العامة والمصالحة، وعلى الرغم من التحديات التي شكلها العنف المتقطع  في السنوات التالية، فقد لعبت منظمات المجتمع المدني دوراً مميزاً وحاسماً في تعزيز السلام الليبي ودعم العملية الانتقالية. وقد شمل دورها  حل النزاعات والمساهمة في كتابة الدستور، بالإضافة إلى دعم إعادة توطين النازحين داخليًا، وهو ما ساهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.

كما أن النجاحات التي حققتها ليبيا مؤخراً في تصميم حوار سياسي وطني بعد وقف إطلاق النار ترتكز على وجود قوي بشكل استثنائي لمنظمات المجتمع المدني، التي تعمل كعوامل لتحقيق الاستقرار المحلي. تعود جذور هذه المنظمات إلى حركة العدالة  والمساءلة عام 2011. ووفقاً لدراسة أجرتها جامعة برانديز فإن هناك حوالي 2000 منظمة مجتمع مدني نشطة في ليبيا اعتباراً من 2014. وقد توسعت هذه المكاسب في السلام أفقياً للتأثير على المجتمعات والمنظمات الأخرى.

 تعكس هذه المكاسب في السلام النجاحات التي تحققت من خلال  مشروع سوق عبر القبائل بقيادة منظمات المجتمع المدني في أوباري، حيث أسهم هذا المشروع  في إحياء المدينة التي تعرضت لأعمال عنف التبو والطوارق. وقدم المشروع مساحة شاملة يوفر مساحة شاملة للتطبيع من خلال التجارة، ويعكس هذا النموذج الفرص الفعلية للتفاعل والتجارة والتي يوفرها سوق أوباري للسكان المحليين.

 يظهر هذا النموذج الفريد فعالية المشاريع المجتمعية والتعاون بين المجموعات،  حيث ساهمت منظمات المجتمع المدني ليس فقط في تخفيف اليأس المحلي والنزوح،  ولكن أيضاً في زيادة الثقة المجتمعية العامة بين أعضاء المنظمات مقارنة بالليبيين غير المنتسبين .

كما أظهر بناء السلام الذي تقوده منظمات المجتمع المدني في ليبيا أيضاً علامات على التوسع الرأسي من خلال التأثير على المؤسسات والحوارات الوطنية. ففي 2018 ، لعبت منظمات المجتمع المدني دوراً حاسماً في إطلاق عملية المؤتمر الوطني الليبي المدعومة من الأمم المتحدة. كانت هذه العملية  تشاور واسع النطاق يهدف إلى إشراك أكبر عدد ممكن من الأصوات الليبية في حوار حول مستقبلهم الجماعي، أما أول جهد تصاعدي في حوار وطني شمل حزب المؤتمر الوطني رسمياً 9000 ليبي مع مشاركة أكثر من 1.8 مليون شخص آخر عبر الإنترنت، وعلى الرغم من أن نشاطات حزب المؤتمر الوطني قد تعطلت بسبب هجوم الجيش الوطني الليبي في أفريل 2019؛ إلا أنه خلق زخما كافيا لإطلاق منتدى الحوار السياسي الليبي بقيادة الأمم المتحدة (LPDF) في عام 2020.

تم ترجمة التقدم المحرز نحو إعادة الهيكلة المؤسسية والتحول السياسي إلى تحسينات قابلة للقياس في الوضع الإنساني في ليبيا – وهو عامل رئيسي لظهورها في قائمة FSI الأكثر تحسنًا لعام 2022، وفي إطار التوجه نحو تحقيق عوامل الشرعية الديمقراطية، والاستقرار المحلي، ووقف إطلاق النار الدائم، يتوقع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UN OCHA) أن عدد الليبيين سيتزايد، بينما تعمل منظمات المجتمع المدني على استعادة التماسك المجتمعي وتعمل الدولة على التوفيق بين الفصائل المتحاربة، بدأ النازحون داخلياً في العودة بأمان إلى مواطنهم الأصلية، فقد سجل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) انخفاضاً في عدد النازحين داخليًا بنحو الربع من 278000 في بداية عام 2021 إلى 213000 بحلول النهاية تدعم بيانات 2022 FSI هذا الاتجاه حيث تظهر تحسنًا بنسبة 0.3 في مؤشر اللاجئين والنازحين مقارنة بمؤشر 2021 FSI، كما سهلت الظروف الإنسانية المحسنة ومستويات العنف المنخفضة نسبياً حدوث تحسن بمقدار 0.3 نقطة في مؤشر رحلة البشر واستنزاف الأدمغة.

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع

الجزء الأول

المصدر: مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية

الكاتب: د. حورية قصعة

علاقات دولية وتعاون، جامعة قالمة، الجزائر

د. عز الدين نميري

علاقات دولية وتعاون، جامعة قالمة، الجزائر

التاريخ: مايو 27. 2024

المقالات الأخيرة