شرارة تسويات كبرى أم وقود صراعات جديدة
فرع القاهرة

إدلب وحلب

 

لم يكن الهجوم الكبير الذى شنته هيئة تحرير الشام، فى 27 نوفمبر 2024، ضد قوات النظام السورى فى حلب انطلاقاً من إدلب مفاجئاً بمقاييس الرصد السياسى لتطورات العام الماضى، فيما يتعلق بتفاعلات الهيئة داخل محافظة إدلب شمال غرب سوريا التى تخضع لسيطرتها بصورة كاملة فالمراقب لهذه التطورات يلحظ أن قيام الفصائل التابعة للهيئة وأخرى حليفة لها باجتياح محافظة حلب، تحت مسمى عملية "ردع العدوان" ما هو إلا تطور طبيعى لمسارات رسمتها الهيئة خلال العام الماضى، نتيجة عدة تطورات ارتبطت جميعها بالحدث الإقليمى الأبرز وهو الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 إذ خططت هيئة تحرير الشام فعلياً لعمليات "حرب حلب" الحالية ضد قوات النظام السورى والمليشيات الإيرانية الداعمة له، بهدف إعادة رسم خطوط التماس فى المدينة بينها وبين قوات النظام السورى، على خلفية الضغط الذى يتعرض له النظام وحلفاؤه الإيرانيون فى سياق الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان أو بمعنى أكثر تفصيلاً، فإن التمدد العسكرى من قبل هيئة تحرير الشام تجاه حلب لم يكن وليد اللحظة، وإنما كان نتيجة لتراكم عدة عمليات سبق وأن شنتها فصائل الهيئة على مناطق محددة فيها على مدار العام الماضى، استغلالاً لانشغال القوى الدولية بالحرب على غزة ولبنان، وانشغال روسيا بتطورات نوعية فى حربها ضد أوكرانيا، لدرجة دفعتها إلى تسليم بعض نقاط المراقبة العسكرية لها داخل سوريا لقوات تابعة لإيران، فى الوقت الذى اضطرت فيه الأخيرة إلى إجراء تعديلات على خريطة انتشارها فى الأراضى السورية نتيجة تداعيات حالة الإسناد لحليفها حزب الله ضد العدوان الذى شنته إسرائيل على الجنوب اللبنانى فى 26 أكتوبر 2024.

تشير هيئة تحرير الشام إلى أن عملية التمدد نحو حلب جاءت رداً على "العدوان" الروسى-السورى المشترك ضدها على مدار شهر أكتوبر 2024، حيث شنت روسيا والنظام السورى هجوماً كبيراً على فصائل الهيئة فى إدلب بهدف إجهاض محاولاتها التمدد خارجها، لكن تلك الفصائل عادت إلى مد النفوذ والسيطرة فعلياً نحو حلب انطلاقاً من إدلب فى نوفمبر 2024، وهو تطور يحمل العديد من الدلالات، ويعكس الكثير من المتغيرات التى تشى بأن سوريا باتت على شفا حرب جديدة تهدد حالة "الاستقرار النسبى" الذى شهدته منذ عام 2017، عندما نجحت صيغة آستانا الثلاثية فى فرض آلية "خفض التصعيد" برعاية روسيا مع ملاحظة أن هيئة تحرير الشام ظلت رافضة لهذه الصيغة التى حاولت تركيا وروسيا إلزامها بها عبر اتفاقين أمنيين لخفض التصعيد فى إدلب وهما اتفاقى سبتمبر 2018 ومارس 2020. 

المواقف المحلية والإقليمية وراء التقدم المفاجئ

الخطوة النوعية التى قامت بها هيئة تحرير الشام بشن هجوم واسع على قوات النظام السورى والمليشيات الإيرانية فى حلب تستدعى التساؤل حول موقف القوى الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة السورية، وهى روسيا وتركيا والولايات المتحدة وإيران، لاسيما مع وجود أنباء تشير إلى رغبة أوروبية-أمريكية في فتح جبهة جديدة ضد روسيا عبر الأراضى السورية، حتى وإن كان ذلك عن طريق "توظيف عدو مشترك" ومصنف ضمن قوائم الإرهاب الدولية، وأن ثمة رغبة لدى أبو محمد الجولانى، زعيم هيئة تحرير الشام في الترويج لنفسه كبديل قوى لنظام الأسد أمام العالم، وقادر فى الوقت نفسه على تهديد المصالح الروسية فى مناطق إدلب وحلب، وفى حالة نجاحه فى إحكام السيطرة الكاملة على حلب فمن المحتمل أن يستهدف حماة واللاذقية وطرطوس، بما يعيد روسيا للانشغال بمصالحها فى سوريا ويخفف من حدة نشاطها العسكرى ضد أوكرانيا.

1- الموقف الروسى: شنت روسيا هجوماً بالطيران الحربى على إدلب وحلب واستهدفت هيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لها، رداً على هجومها الأخير على مواقع تابعة لقوات النظام السورى. لكن على الأرض كان تحرك فصائل الهيئة أكبر وأسرع، وهو ما يعكس المعطيات السابق ذكرها بخصوص استغلال حالة الفراغ الميدانى التى كانت عليها مواقع تابعة للمليشيات الإيرانية؛ نظراً لإخلائها منذ فترة نتيجة لتوجه المليشيات إلى جبهة إسناد حزب الله فى الجنوب اللبنانى. وقد استهدف الهجوم  الروسى الجوى على مدينة إدلب ضرب تمركزات الهيئة ومخازن أسلحتها وممرات الإمداد، أما هجوم قوات النظام السورى فشمل تعزيز نقاط الاشتباك مع فصائل المعارضة المسلحة غرب مدينة حلب شمال سوريا.

2- الموقف الإيرانى: تبدو المليشيات الإيرانية أو تلك التابعة لإيران والعاملة فى سوريا، لاسيما المتمركزة فى حلب، أمام "مأزق ميدانى" حقيقى نتيجة تمدد فصائل هيئة تحرير الشام خارج إدلب ونحو حلب؛ خاصة مع سيطرتها على طريق (إم 5) الدولى الذى يصل حلب بمسارين مهمين أحدهما نحو العاصمة دمشق والآخر نحو اللاذقية (الحاضنة الاجتماعية للنظام السورى) هذا المأزق ألقى بتاثيراته المباشرة بوضوح فى تصريحات وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجى حينما علق على الهجوم بقوله أن إسرائيل والولايات المتحدة هما المحركان له، وأن عملية "ردع العدوان" التى قامت بها هيئة تحرير الشام ما هى إلا "خطة أمريكية صهيونية بعد هزيمة النظام الصهيونى فى لبنان وفلسطين".

3- الموقف التركى: أعلنت وزارة الخارجية التركية عبر المتحدث الرسمى أن هجوم هيئة تحرير الشام على قوات النظام السورى فى حلب بشمال غرب سوريا يعد "تصعيداً غير مرغوب فيه للتوتر"، وأن "تجنب المزيد من الاضطراب فى المنطقة أولوية لتركيا". وتؤكد أنقرة أن المواجهات العسكرية المندلعة بين الهيئة وبين قوات النظام السورى فى ريفىَ إدلب وحلب منذ 27 نوفمبر 2024، من شأنها تقويض اتفاقات خفض التصعيد فى المنطقتين التى أبرمتها مع روسيا والتى كان آخرها فى مارس 2020.

4- الموقف الأمريكى: ثمة رصد لمؤشرات تفيد بوجود تراجع فى عمليات الاستهداف الأمريكية لقيادات من هيئة تحرير الشام منذ فترة طويلة، لكن ومع اندلاع المواجهات بين الهيئة وبين قوات النظام السورى فى 27 نوفمبر 2024، نتيجة تمدد الأولى فى حلب، بدا أن تغييراً ما قد يشهده الموقف الأمريكى، لكنه سيظل رهناً بمدى اهتمام الرئيس الجديد بإبقاء القوات الأمريكية - من عدمه - فى الشمال السورى وتحديداً فى مناطق الشرق منه، لأن استمرار الوجود العسكرى الأمريكى فى سوريا، حتى وإن كان فى منطقة بعيدة عن أحداث حلب وإدلب، إلا إنه سيمثل قيداً على كافة القوى المنخرطة فى الأزمة كتركيا وروسيا وإيران من ناحية، وعلى تفاعلات التنظيمات التابعة للمعارضة السورية وتحديداً المصنفة على قوائم الإرهاب من ناحية ثانية.

 

التداعيات العسكرية.. انهيار سريع وخسائر استراتيجية

من دمشق، وصف العميد تركي الحسن الوضع بأنه "صدمة كبيرة" للشارع السوري، معتبرًا أن ما جرى يعيد المشهد إلى بدايات الحرب الأهلية.

فقد امتنعت القوى الداعمة لكل من الطرفين حتى الآن عن الإدلاء بأي تعليق تصعيدي واعتبر المتحدّث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن الوضع في حلب "انتهاك لسيادة سوريا" وأعرب عن دعم بلاده "للحكومة السورية في استعادة النظام في المنطقة وإعادة النظام الدستوري".

كذلك دعت تركيا إلى "وقف الهجمات" على مدينة إدلب ومحيطها، معقل الفصائل المسلّحة في شمال غرب البلاد. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية عبر منصة "إكس" إن الاشتباكات الأخيرة "أدت إلى تصعيد غير مرغوب فيه للتوترات في المنطقة الحدودية".

وأكد أن انسحاب الجيش السوري والمليشيات الإيرانية كان تكتيكيًا لتجنب المزيد من الخسائر البشرية لكنه اعترف بوجود قصور في إدارة المعركة.

وقال: "الانهيار السريع للجبهات يشير إلى ضعف التنسيق العسكري وإلى أن هناك عوامل دولية وإقليمية تداخلت لإحداث هذا الزلزال".

وأضاف الحسن أن تركيا قد تكون مستفيدة من هذه التطورات، لكنها تواجه تحديات في إدارة علاقاتها مع روسيا، خصوصًا في ظل تعقيد الملفات السورية والتركية الروسية المشتركة.

من واشنطن، أوضح ريتشارد جوتستين أن الإدارة الأميركية فوجئت بالتطورات الميدانية الأخيرة، نافياً أي تورط أميركي في دعم الفصائل المسلحة. واعتبر أن "الاضطرابات الجديدة في سوريا ليست في مصلحة الولايات المتحدة، التي تسعى للحفاظ على استقرار الوضع الراهن في المنطقة".

وأشار غودستين إلى أن توقيت الهجوم، الذي يأتي في ظل مرحلة انتقالية بين إدارتَي بايدن وترامب، يثير تساؤلات بشأن نوايا تركيا وإسرائيل في استباق التغييرات المحتملة في السياسة الأميركية تجاه سوريا.

وباستعراض العناصر السابقة يتبادر لأذهاننا السؤال المنطقي في محاولة لفهم واقع ومستقبل المنطقة من خلال استشراف مآل الحال بعد حلب، فمع استمرار تقدم الفصائل المسلحة في الشمال السوري، بدأ المشهد مفتوحًا على عدة سيناريوهات في هذا السياق فالسيطرة على حلب تضع تركيا في موقع تفاوضي أقوى لكنها أيضًا تضعها أمام مسؤوليات كبيرة تجاه روسيا والمجتمع الدولي.

يجب استعادة الجيش السوري لمواقعه في حلب، محذرًا من أن استمرار الانهيار قد يؤدي إلى تفجير صراعات جديدة تمتد آثارها إلى دول الجوار.

ومع تصاعد حدة المواجهات في إدلب وحلب، يبقى السؤال الأهم والأخطر:

هل تكون هذه التطورات بداية لتحولات استراتيجية تعيد تشكيل المشهد السوري، أم أنها مجرد حلقة جديدة في سلسلة صراعات لا تنتهي؟

الإجابة تتوقف على مدى قدرة الأطراف الدولية والإقليمية على استيعاب الدروس السابقة والعمل على تحقيق توازن جديد في المنطقة.

فى الأخير، يمكن القول إن شن هيئة تحرير الشام هجوماً على قوات النظام السورى فى حلب بقدر ما يمثل فرصة لها فى ظل الأوضاع والتطورات على الجبهة اللبنانية، وارتدادتها على الأوضاع الأمنية فى سوريا بقدر ما يمثل قيداً عليها أيضاً؛ لأنها ستواجه بقورة ردع عسكرية مزدوجة من قبل روسيا والنظام السورى مما قد يترتب عليه اتجاه روسيا إلى شن عملية عسكرية شاملة – تختلف عن حملتها الحالية - ضد هيئة تحرير الشام فى الشمال، بحيث تمنعها من تنفيذ خططها بشأن حلب وفى خضم كل هذه التطورات تظل الأطراف الإقليمية والدولية متغيراً رئيسياً فى تحديد ملامح المرحلة المقبلة فى سوريا فى ضوء ما ستفضى إليه الحرب الإسرائيلية على غزة من نتائج.

 

 

 

 

المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

الكاتب : صافيناز محمد أحمد

التاريخ : 30/11/2024

--------------------------------------

المصدر: سكاي نيوز عربية

التاريخ : 1/12/2024

--------------------------------------

المصدر: العربية

التاريخ : 30/11/2024

 

المقالات الأخيرة