الـــجـريـمـة الـسـيـاسـيـة
فرع بنغازي

ترتبط الجريمة السياسية بالسلطة والنظام الحاكم ارتباطاً وثيقاً، حيث يعد الإجرام السياسي قديم قدم السلطة، فمنذ أن وجدت السلطة في المجتمعات البشرية قام في وجه الحاكمين والقابضين عليها الكثير من الأعداء والمعارضون إما للقضاء عليها أو الإحاطة بها، لهذا لم يكن المجرم السياسي قديماً موضع رحمة أو احترام، كما ولم تكن فكرة الجريمة السياسية مقبولة حيث أن معظم الاتفاقيات التي كانت تبرم بين الملوك والأمراء والسياسيين قديماً كانت تستهدف المجرمين السياسيين بشكل مباشر، وبدأت فكرة الجريمة السياسية تتبلور في العصور القديمة بدءً من عصر الرومان واليونان والمصريين القدماء إلى العصور الوسطى والقرون الأولى من بدايات العصور الحديثة، لكن النظرة نحو الجريمة السياسية والمجرم السياسي تحولت من القسوة إلى الرفق ومن الشدة إلى اللين عند مستهل القرن التاسع عشر وذلك لأن المجرم السياسي لا ينطوي فعله على الشر المحض والإجرام وإنما يقصده بفعله إصلاح النظام الحاكم ومصلحة الوطن ، وهذا التحول في النظرة نحو المجرم السياسي بدأ على يد الفقيه الفرنسي "غيزو" حينما نشر كتابيه الشهيرين "التآمر على سلامة الدولة والعدالة السياسية"، "عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية" حيث أنه وفي هذين الكتابين هاجم عقوبة الإعدام والعقوبات المشددة في الجرائم السياسية وعمل على مهاجمة الاضطهاد وطالب بمعاملة رحيمة للمجرمين السياسيين تبعاً للأهداف النبيلة التي يحملونها، لذا فإن هذا الفقيه الفرنسي كان أول من أزاح الستار عن حقيقة المجرم السياسي على أنه ليس مجرم بل يسعى نحو الوطن، ونتيجةً لذلك تم الأخذ بهذا الرأي لدى أصداء المشرعين واتجهوا نحو التخفيف عن المجرمين السياسيين وصدرت قوانين عدة لدى الدول والأنظمة القانونية تلغي عقوبة الإعدام والأشغال الشاقة عن المجرمين السياسيين وتمنح المحكوم عليهم بمعاملة عقابية عادلة لا يحظى بها غيرهم من المحكومين في الجرائم العادية، فبتقدم الأفكار الحرة وحدوث الكثير من الانقلابات السياسية والاجتماعية أخذ المجتمع ينظر إلى الجريمة السياسية نظرة مختلفة عن تلك التي كانت تعتبرها فعلاً خارجاً عن المألوف، وتتميز الجريمة السياسية بكونها ذات مفهوم نسبي متغير بتغير الزمان والمكان، حيث أن الجريمة السياسية تختلف باختلاف التشريعات والأنظمة القانونية، ونتيجةً لأهميتها استدعت الحاجة الدولية نحو الخوض فيها وتوضيحها فكانت الجريمة السياسية موضع اهتمام على المستوى المحلي والدولي.

الجريمة السياسية على مستوى التنظيم الدولي :

في إطار وضع ضوابط محددة لتمييز الجريمة السياسية عن جرائم الحق العام، بذلت عدة جهود على مستوى المنتظم الدولي منذ نهاية القرن 19 كان من أهمها:

- صدور قرار لمعهد القانون الدولي بجنيف صيف عام 1892 اعتبر أن الجرائم المرتكبة ضد أي كيان اجتماعي لا تعد جرائم سياسية كما هو الحال بالنسبــة للجرائم المرتكبة ضد أي دولة محددة أو أي شكل حكومي.

- تضمن التقرير المنجز في إطار المؤتمر السادس لتوحيد القانون الجنائي المنعقد في كوبنهاغن سنة 1935، ورقة مفصلة حول مفهوم الجريمــة السياسية رغم الانتقادات التي وجهت إليه، وتم من خلاله وضع تعريف للجريمة السياسية تبناه جميع أعضاء المؤتمر حُدد فيه ما يلي:

أ- الجرائم السياسية هي جرائم موجهة ضد تنظيم الدولة وسيرها، وكذلك الجرائم الموجهة ضد حقوق المواطن التي تشتق منها، وهي ما يطلق عليها اسم (الجرائم السياسية البحته).

ب- تعد جرائم سياسية الجرائم العادية التي تضع موضع التنفيذ الجرائم المذكورة في الفقرة السابقة، وكذلك الجرائم التي تسهل تنفيذ الإجرام السياسي أو التي تساعد الفاعل على الهرب من تطبيق القانون عليه.

ج- الجرائم التي تقترف بدافع دنيء والجرائم التي تولد خطرا مشتركا أو حالة إرهاب لا تعد جرائم سياسية.

- أصدرت لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتحدة في دورتها لسنة 1938، تعريفا للمجرم السياسي بكونه "الشخص الذي يبحث سلميا عن ممارسة أو تطوير حقوقه في حرية التفكير والرأي والتعبير، وكذا في تكوين الجمعيات والتجمعات وحق المشاركة في القضايا العامة“.

- الاتفاقية الدولية لقمع تمول الإرهاب لسنة 1999 (المادتان 14 و15).

- اتفاقية الحماية المادية للمواد النووية والمرافق النووية لسنة 1979 (المادة 11 أ والمادة 11 ب).

- الاتفاقية الدولية لقمع الهجمات الإرهابية بالقنابل لسنة 1997 (المادة 11 و12).

- الاتفاقية الدولية لقمع أعمال الإرهاب النووي لسنة 1996 (المادتان 15 و16).

- أقرت اتفاقية تسليم المجرمين التي أعدتها جامعة الدول العربية سنة 1953في مادتها الرابعة عدم جواز تسليم المجرمين السياسيين وقررت كذلك أن تقدير كون الجريمة سياسية متروك للدولة المطلوب إليها التسليم بينما يكون التسليم واجباً في جرائم الاعتداء على الملوك ورؤساء الدول أو زوجاتهم أو أصولهم أو فروعهم، جرائم الاعتداء على أولياء العهد، جرائم القتل العمد، الجرائم الإرهابية.

أنواع الجرائم السياسية 

أولاً: الجرائم السياسية البسيطة: وهي الجرائم التي يُخالف مرتكبوها النظام العام في دولهم بآراء معينة منحرفة يبديها بعض الناس، ويؤدي نشرها إلى عث الفساد والإفساد أو التضليل والضلال، وتخلو هذه الجرائم من أعمال العنف والشغب، ومن الأمثلة على الجرائم السياسية البسيطة على النحو التالي:

    أ‌-    جريمة الاعتداء على الأديان: وهي الجريمة التي يتم من خلالها الاعتداء على الأديان السماوية أو المعتقدات الدينية أو الإساءة إلى الأشخاص الدينية المعتبرة.

   ب‌-   جريمة التضليل الإعلامي: وهي الجريمة التي يتم من خلالها استخدام الدعايات السوداء وترويج الشائعات والحرب النفسية ويكون القصد من هذه الجريمة نشر الأخبار الكاذبة والمغلوطة أو العمل على تهويل وتضخيم الأخبار الواقعة أو تزوير الحقائق وقلبها وتزييفها.

ثانياً: الجرائم السياسية المتوسطة: وهي الجرائم ذات الطابع السياسي والتي يرافقها بعض أعمال العنف والشغب والتخريب الظاهر دون الوصول إلى حد حمل السلاح أو الإيذاء الجسيم، ومن الأمثلة عليها جريمة المظاهرات الغير مرخص لها والتي يرافقها أفعال شغب وتخريب مادي أو معنوي.

ثالثاً: الجرائم السياسية الشديدة: وهي جرائم العنف السياسي ويتجسد هذا النوع بالجرائم التي تقع بالفعل، ويتم خلال هذه الجرائم قيام مرتكبيها بالعنف المسلح أو استخدام السلاح المباشر، حيث يقوم مرتكبيها وهم أتباع مذهب سياسي معين أو أصحاب قضية أو توجه معين أو من يخول الأمر إليهم من أجهزة خاص ة تابعة للسلطة أو الحكومة أو من يعمل لصالحهم من أفراد مدنية أو عسكرية أو مرتزقة بقتل أشخاص أو أهداف محددة أو اغتيال أفراد أو اعتقالهم وذلك بسبب انتهاجهم أراء سياسية معارضة لرأيهم الشاذ أو بقصد تثبيت رجالهم أو قادتهم للحكم في الدولة وذلك تحت مسمى رأس الدولة أو أيديولوجية الدولة أو لخدمة مصالح دولتهم .

ضوابط الجريمة السياسية

لا تكون الجريمة من نوع جريمة سياسية إلا باجتماع مجموعة من الضوابط المحددة وهي على النحو التالي:

- أن تكون الجريمة السياسية مقصودة وموجهة من أجل مصالح سياسية بحتة.

- أن تكون الجريمة السياسية موجهة ضد الدولة أو أحد رجالاتها أو حاكميها أو النظام السياسي القائم فيها أو ما يتصل بالدولة من نشاطات وشخصيات دبلوماسية أو هيئات أو مؤسسات حكومية فيها.

- أن تكون الجريمة السياسية منفصلة عن الأهواء والأغراض الشخصية أو المصالح الفردية الخاصة وبعيدة عن البواعث الشخصية والتي لها أثر في توجيه الفكر والرأي.

- أن تكون الجريمة السياسية من قِبل الدولة أو الحكومة ضد الجماعات أو الأفراد أو الشخصيات الاعتبارية فيها.

- أن يكون المجرم السياسي ذو قوة وشوكة لا بنفسه بل من معه من أشخاص يحملون نفس الرأي والفِكر الموجه.

دوافع الجريمة السياسية

كل سلوك يقف خلفه مجموعة من الدوافع والعوامل التي تفسر أسبابه والتي تعلل الهدف وراء انتهاج السلوك الإجرامي، فالجريمة السياسية بكافة أشكالها بدايةً من الكلام والانتقاد اللاذع وصولاً إلى الآراء المنحرفة حتى القتل والتدمير تعد سلوكاً يكمن خلفه دوافع، وعليه نستطيع القول بأن الدوافع المؤدية للجريمة السياسية تقوم على أساس الدوافع السياسية لدى الأفراد والجماعات، وهذه الدوافع تلحق بها مجموعة من الدوافع الأخرى التي تؤازرها وتساندها وهي على النحو التالي:

1.     دوافع ثقافية: وتتمثل في توجيه الفكر والرأي.

2.    دوافع دينية: وتتمثل في الانتماء للدين أو التعصب له فكرياً أو عقائدياً.

3.     دوافع اجتماعية: وتتمثل في التعصب القبلي والنزعات الجاهلية.

4.    دوافع اقتصادية: وتتمثل في الفقر والبطالة وقلة موارد الرزق والفساد الإداري والمالي أو بهدف الإضرار باقتصاد دولة ما.

5.     دوافع قانونية: وتتمثل في تعديل قانون ما أو الاستفتاء الدستوري.

لذا فإن كل هذه الدوافع تؤدي إلى الجريمة السياسية ومن أبسط أفعالها جرائم الرأي والأفكار المنحرفة وصولاً إلى أقسى أفعالها وهي جرائم القتل والاغتيال والتدمير والتعذيب على خلفية الرأي السياسي المُعارض.






المراجع :  

عبد الجبار الحنيص ، ( ب ، ت) ، الجرائم السياسية ، الموسوعة القانونية المتخصصة  .

بيـرم جمـال عبد اللطيف غزال ، 3.8.2021  ، الجريمة السياسية ، الموسوعة السياسية .

المقالات الأخيرة