دور بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا؛ النجاحات والإخفاقات
فرع القاهرة

 

الجزء الثالث :

فاعلية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا

تثير طول الفترة الانتقالية وتعثر بناء الدولة في ليبيا الجدل حول کفاءة دور البعثة حيث تعرضت البعثة إلي عدد من العوامل التي ساهمت في تقييد فاعليتها في تنفيذ أهدافها ودورها المنوط في ليبيا.

أولاً : العوامل الفنية المتعلقة بالبعثة وآلياتها

1 - الشخصنة وعدم المؤسسية: اختلفت مشاريع المبعوثين الأممين في الدفع بالعملية السياسية وتباينت إستراتيجياتهم، حيث أن کل مبعوث جديد کان يأتي بخطة عمل مستقلة يطرح فيها حلولاً تعبِّر عنه دون الاستفادة من المبادرات الأممية السابقة، فعلى سبيل المثال شدد (طارق متري) على ضرورة بناء الدولة الليبية أولاً، بينما (ليون) فضَّل خيارات سهلة مؤقتة واعتبرها حلولاً، متجاهلاً الأسباب الحقيقية للأزمة کما شَّخصها سلفه متري، وحاول التکيف البراغماتي مع ما آلت إليه الأوضاع السياسية والميدانية عند تعيينه في سبتمبر 2014 من انقسام للسلطة ومؤسساتها تشريعياً وتنفيذياً بين معسکرين في الشرق والغرب واتبع منطق التوازن من خلال إبقاء الجسمين التشريعيين المتصارعين عبر قوالب سلطوية جديدة، باعتبار أنه قد يکون مخرجاً وحلًّ مؤقتا

2 - إغفال البعثة لوضع استراتيجيات لبناء قطاع الأمن بعدما إنهار هذا القطاع وتفکک عقب سقوط القذافي فضلاً عن انتشار الأسلحة الرهيب، فلو سيطرت البعثة علي هذا القطاع في بداية الأمر کان سيسهل عليها دورها في المجالات الأخري.

3 - اعتماد البعثة لنهج بناء السلام فقط کنهج لبناء الدولة أحد العوامل الرئيسية التي تؤدي إلي مزيد من الهشاشة والصراع والعنف في ليبيا، حيث يرکز هذا النهج علي الدفع بعملية بناء السلام المرتکزة علي أقطاب الصراع السياسي، دون وضع خوف الليبين من إمکانية تهميشهم وعدم قدرتهم علي التأثير في صنع القرار على المستوى الوطني في محل الأعتبار، مما يفشل أي تسوية سياسية منذ بداية الأزمة، لابد أن يهدف الدعم الأممي لبناء دولة ليبية تعددية تمثل وتخدم مجموعة واسعة من الفئات في البلاد.

4 - انحصار البعثة في طرابلس وبعض المناطق المحدودة أحد عوامل عدم تواصلها مع جميع الأطراف فکان لابد من تواجد مکتبي وميداني في جميع أنحاء البلاد مع الترکيز على آليات تنفيذية فورية لدعم أهداف المرحلة الانتقالية وليس مجرد آليات استشارية.

5 - تطبيق الاتفاق السياسي الليبي الذي تم برعاية البعثة والأمم المتحدة لا يعالج الانقسامات السياسية والاجتماعية في ليبيا، بل يرکز على الاتفاق السياسي لحکومة موحدة، دون التطرق إلي مناقشة حول ما يجب أن يستتبعه الانتقال وکيف ينبغي أن يتم الحکم.

6 - مرور دبلوماسية البعثة بفترة خمول وإرهاق کبيرة دون نشاط مرة أخري مع استنفاذ طاقتها في البحث عن صيغ فعالة لتحويل الصراع إلي مسارات أهدأ، وليس الإصرار على حل کامل للنزاع کما کانت قدرة المبعوثين للتوسط والتأثير على الجهات الفاعلة المحلية في بداية الأزمة ضعيفة للغاية، وذلک بسبب الشک المتزايد من قبل الليبيين تجاه جميع الجهات الخارجية الفاعلة في الأزمة.

7 - يمکن النظر إلي جنسية المبعوثيين الأممين الأجانب بأنها عامل أعاق عمل البعثة حيث إنهم بعيدون کل البعد عن البيئة العربية، بما قد يفسر سبب الفشل نظراً لقلة إلمامهم بظروف الأزمات وطبيعة المناطق التي يزورونها والعقليات التي يتعاملون معها.

8 - عدم مهنية بعض المبعوثيين حيث کشفت صحيفة الجارديان البريطانية في 4 نوفمبر 2015 أن المبعوث الأممي برناردينو ليون کان يفاوض أحد الأطراف الإقليمية المشتبکة مع الصراع الليبي على وظيفة بإحدى مؤسساتها الدبلوماسية اثناء وساطته في ليبيا

ثانياً: التفاعلات والعوامل الداخلية

1 - تنامي ظاهرة الإرهاب وظهور التيارات المتشددة الرافضة للدولة المدنية التي رفعت شعارات تطبيق الشريعة، التي أعاقت عملية بناء الدولة وبالتالي تعيق استراتيجية البعثة الرامية لدعم ليبيا، مثل جماعات أنصار الشريعة وتنظيم الدولة الإسلامية، حيث يعملون على تکفير المجتمع والحکومات والأحزاب والعملية السياسية الديمقراطية.

 

2 - ترکيبة المجتمع الليبي والبنية التقليدية العصبية والتي تتضح في التعصب القبلي حيث سيطرت بعض القبائل على المراکز الحيوية کالموانئ والحقول النفطية والمطارات ومصانع الدولة، مما يشکل أزمة للتحول نحو الديمقراطية بسبب استمرارية الهياکل العصبية المعيقة لبناء الدولة الحديثة، کما يلعب تأييد القبائل لطرف أو آخر دورا هام في الأزمة، فهناک قبائل مؤيدة للبرلمان وأخري للمؤتمر وقبائل مع عملية الکرامة وأخرى مع فجر ليبيا، مما يجعل هذا التخبط عائقا أمام أي استراتيجيات للبعثة الأممية.

3 - استرجاع الذاکرة الدامية وانتشار روح الانتقام التي نماها القذافي قبل وبعد 17 فبراير مما أدي لاستعادة ماضي الصراع بين (مصراتة وورفلة، الزنتان والمشاشية، مصراتة وتاورغاء، الزنتان وجادو، زوارة والجميل، وغيرهم) مما أدي إلي دخول هذه القبائل في صراعات مسلحة استهدفت تدمير فرص العيش المشترک وأعاقت إلى حد کبير التحول السياسي، والديمقراطي في ليبيا، کما أن غياب الثقة بين أطراف الصراع الليبي يهدد فرص إحلال السلام وينسف کل مجهودات البعثة الرامية لدعم النظام السياسي الجديد.

4 - مشکلة انعدام الأمن في ليبيا التي قوضت کل الجهود الدولية المبذولة لبناء المؤسسات السياسية والإدارية الفاعلة للدولة مما ساهم في بروز الجماعات المتطرفة في کل ليبيا، وجعلت القيادات الأممية والموظفين الدبلوماسيين بالبعثة تحت التهديد المستمر لهذه الجماعات، الأمر الذي أدي إلي استقالات متتالية للمبعوثين وتخبط استراتيجيات البعثة.

5 - القلاقل المجتمعية التي يفعلها داعموا النظام السابق تحديدا اللجان الثورية، والکتائب الأمنية، والمسؤولين السابقين، مما يزيد المعضلة الليبية والصراعات المحلية غموضأ لتعمدهم نشر الفوضى وعدم الاستقرار في البلاد، الأمر الذي يزيد صعوبة الحلول وعدم تقبل مساعي البعثة الرامية للمصالحة الوطنية وخاصة أن هناک رأيين للمجتمع الليبي الأول يري ضرورة إدماج داعموا النظام السابق في المجتمع وفي العملية السياسية، بينما يري فريق آخر ضرورة إقصائهم ومحاکمتهم وعزلهم عن العمل السياسي.

ثالثاً: التفاعلات والعوامل الخارجية

 لا يمکن إغفال العامل الخارجي في زيادة حدة الأزمات والعنف في ليبيا بسبب التدخل في الشأن الليبي الداخلي من خلال دعم أطراف ضد أخرى بالمال والسلاح وبالتالي زيادة حدة الانقسامات الداخلية القبلية والمناطقية، مما يجعل التفاعلات والتدخلات الخارجية في ليبيا من أکثر العوامل تأثيراً في مجريات الأزمة في ليبيا وتأثيراَ في استراتيجيات بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، جاء ذلک صريحاً في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة في سبتمبر 2013 حيث خلص إلي أن تضارب المصالح بين القوي السياسية الخارجية والاقليمية يشکل عقبة أمام عمل المؤسسات الانتقالية وعمل بعثة الأمم المتحدة وتعطيل خطط عملها للانتقال الديمقراطي وحل الأزمة الداخلية.

أدت التدخلات الخارجية إلي تصاعد أعمال العنف وتفاقم الأزمة السياسية في ليبيا بسبب قيام قوى خارجية بتقديم الدعم في الصراع القائم بين قوى سياسية ليبية لصالح تيارات معينة ضد أخري کدعم التيار الليبرالي ضد الإسلامي والعکس، وما يؤکد حالة الانقسام الثنائية هذه علي سبيل المثال هو الدور القطري الترکي مقابل الدور المصري الإماراتي، ويمکن الإشارة إلي التدخل القطري السافر في الشئون الداخلية في ليبيا، والدعم القطري المقدم إلي فئات من الإسلاميين على نحو آثار حفيظة کثير من السياسين في ليبيا.

بالنظر إلي دور الولايات المتحدة الأمريکية فإن أهتمامها بالأزمة الليبية يأتي في إطار جني مکاسب اقتصادية واستراتيجية لها ولشرکائها الأوروبيين دون إبداء أدنى اهتمام لدعم السلطات الجديدة في ليبيا، وإعادة بناء وتأهيل المؤسسات الأمنية والعسکرية، بل إن الولايات المتحدة الأمريکية تقدم مساعدات فنية لبعثة الأمم المتحدة علي استحياء، ومترددة في تقديم المساعدة الأمنية للسلطة الانتقالية الليبية.

أما الدور الفرنسي فکان متذبذب منذ بداية الأزمة لم يجد توافق إلي حد کبير مع باقي الأوروبين والولايات المتحدة، والدليل علي ذلک إشراف فرنسا في مايو 2019 على مؤتمر للحوار الليبي، وحينها اتفقت أطراف الأزمة المجتمعة في باريس على تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية في أقرب وقت ممکن، مع الالتزام بتهيئة الأجواء لتکون نزيهة، والموافقة على نتائجه، غير أن الخطة المدعومة من فرنسا لإجراء انتخابات في 10 ديسمبر2019 تأجلت بعد رفض الولايات المتحدة وروسيا وقوى أوروبية أخرى لجدولها الزمني في مجلس الأمن، وذلک لإختلاف الرؤي الفرنسية مع الرؤية الأمريکية والأوروبية للأزمة.

کما ساهم الدور الترکي في تعقيد الأزمة الليبية بشکل کبير منذ أن وقعت حکومة الوفاق مع ترکيا علي اتفاقية للتنقيب عن البترول مقابل الدعم اللوجستي والعسکري لحکومة الوفاق، حيث قلبت هذه الاتفاقية موازين المعادلة السياسية والعسکرية في ليبيا والتي أصابتها بتعقيدات علي جميع المستويات، وقوض فرص الحل واستراتيجيات بعثة الامم المتحدة للخروج من الأزمة.

تضارب مصالح القوي الخارجية والإقليمية بشأن کيفية حل الأزمة في ليبيا قوض من فاعلية دور البعثة ومساعيها في فرض الاستقرار والدفع بعملية بناء الدولة والنظام السياسي، لوجود هذه التدخلات الخارجية المحضة علي التخريب والصراع وإثارة القلاقل والاضطرابات في المجتمع، ما يجعل الأمر في حلله الأزمة علي قدر من الصعوبة وتحفه المخاطر بالغه التعقيد على المستويين المحلي والاقليمي والدولي الذي يعاني في الأساس من مشکلات الفوضي والاضطرابات السياسية

خاتمة

قد أُعطيت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عدد من الصلاحيات الواسعة وعلي الرغم من ذلک لم يتضح وجود استراتيجية للبعثة محددة تجاه المتطلبات الفعلية لبناء الدولة في ليبيا وتضميد الصراع والعمل علي توحيد وتعاون الهيئات والتنظيمات الليبية_الليبية، وحتي استراتيجيات البعثة المُعلنة هي فقط لطرح رؤي للحل السياسي في ظل تناقضات الرؤي حول شکل النظام السياسي وکيفية الانتقال نحو الديمقراطية، فضلاً عن عدم وضوح أفق للاستقرار الدستوري، يمکننا القول أن البعثة ساهمت في التقليل من حجم تفاقم الأزمة، وساعدت في جمع فرقاء الصراع علي طاولة واحدة لحل الأزمة الليبية التي مازالت تبحث عن مخرجاً لها وذلک بسبب سياق الأزمة الليبية وما بها من تعقيدات بين أطرافها التي أدت إلي الحيلولة دون حلها.

النتائج

1-  لا يزال التحول نحو الديمقراطية في ليبيا وتعزيز حقوق الإنسان يعاني من البطء الشديد في جميع المسارات وذلک يرجع لعدة عوامل داخلية وخارجية متعلقة بالأزمة الليبية، يجب أن تضعها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في حسبانها.

2-  لم تجدي سياسة البعثة التوسطية بين الأطراف الليبية المتصارعة نفعاً لان بعض الأطراف السياسية الليبية غلبت العناد السياسي فيما بينهم والمصالح الشخصية والثانوية علي المصالح القومية والوطنية العليا.

3 - لعبت التدخلات الخارجية دوراً معيقاً لعملية التحول الديمقراطي في ليبيا وذلک من خلال تأجيج الصراعات المحلية وزيادة حدة الصراعات القبلية والمناطقية وإنماء الظواهر العسکرية المتصارعة حتي أصبحت المليشيات العسکرية في ليبيا ذات طبيعة إقليمية ودولية وليست محلية.

4 - يجب علي المجتمع الدولي الناشد للديمقراطية في ليبيا مساندة وبناء مؤسسات تجعل ليبيا قابلة أکثر للانتقال الديمقراطي، حتي لا تنزلق البلاد في صراع داخلي ممتد وحرب اهلية، وهذا ما لم تقم به الأمم المتحدة من خلال بعثتها.

5 - يجب علي البعثة السعي بشکل سريع في توحيد المجموعات المسلحة غير الإرهابية وضمها للجيش الوطني لفرض الأمن والاستقرار في أرجاء ليبيا، ليتمکن مستقبلاً من نزع السلاح والقضاء علي بقايا الجماعات المتطرفة والإرهابية.

 

 

 

6 - جب أن تضع البعثة في اعتبارها التعدد والتنوع القبلي في ليبيا ووضع الخخط والآليات التي يتفادي بها المجتمع الوقوع في الصراعات والتوترات الداخلية بين القبائل الليبية، وتدعيم الحوار المجتمعي بدلا من الحوار السياسي لبحث أسس وطرق تحقيق الوفاق الوطني والخروج من الأزمة، ومساعدة البعثة في تکريس مبادئ المشارکة السياسية وإخراج مشاريع للتنشئة السياسية للأفراد والجماعات الليبية.

7 - وضع إستراتيجية جديدة للبعثة هادفة لتخطيط وتنفيذ مصالحة وطنية حقيقية شاملة متوافقة مع خصوصية المجتمع الليبي تنصهر فيها الأبعاد الجهوية، واقناع کل الأطراف بتقديم تنازلات وتسهيلات في النقاط الخلافية للتوصل إلي وضع سياسي وأمني مستقر والخروج بالبلاد من مأزقها الراهن.

8 - أظهرت الصراعات الليبية أن قوة ونفوذ الأمم المتحدة آخذان في الانخفاض في الآونة الأخيرة بسبب تصرفات وتقاعس القوى الکبرى التي تعلي مصالحها الشخصية.

 

 

 

 

المصدر : مجلة السياسة و الأقتصاد

الكاتب : أحمد مصطفي فتحي عرابي

تاريخ : يوليو 2022

المقالات الأخيرة