المسارات المتوقعة للقوى العظمى حتى عام 2030
فرع بنغازي


مصطلح "القوة العظمى" في قاموس العلاقات الدولية، يشير عادةً إلى الولايات المتحدة وروسيا (الاتحاد السوفيتي سابقاً)، ولكن مع بداية العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، بدأت الصين تزاحم روسيا على الترتيب الثاني في هذا التصنيف، ويبدو للمتابع للأمور أن روسيا في الوقت الحاضر (بل وفي المستقبل القريب أيضاً) تتراجع أكثر فأكثر وخاصةً من الناحية الاقتصادية، رغم أنها لا تزال تتفوق على الصين في قدرتها على فرض إرادتها السياسية على الآخرين، وخاصةً على الصعيد العسكري.

والدول الثلاث كقوى عظمى ستؤدي دوراً بالغ الأهمية في السنوات المتبقية من هذا العقد؛ وتتفاعل وتتنافس لتحقيق مصالحها الوطنية.

تحولات القوى العظمى:

كان الأمريكي ويليام تي آر فوكس، أستاذ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية بجامعة كولومبيا، هو أول من صاغ مصطلح "القوة العظمى" في منتصف القرن الماضي، على أن هذا المصطلح يشير إلى "دولة شديدة القوة، قادرة على إبراز إرادتها وفرضها على الدول الأخرى"، ومن المتعارف عليه أيضاً أن السبب وراء تمتع القوة العظمى بنفوذ وتأثير عظيمين هو التفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي والثقافي، بالإضافة إلى قوة السياسات الحكومية لدى هذا الكيان.

تاريخياً، كانت الإمبراطورية الفارسية هي القوة العظمى الأولى في العالم. وعلى مر السنين، استطاعت هذه الإمبراطورية أن تُكون ثروة هائلة وتحكم أكثر من 44% من سكان العالم. وكذلك كانت روما ومصر وتركيا أيضاً، بفضل ثرواتهما وثقافاتهما، قوتين عظميين مبكرتين. أما في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، فتُعد الإمبراطورية البريطانية هي أول قوة عظمى حديثة؛ إذ كان يعيش 25% من سكان العالم في وقت ما تحت حكمها.

وفي وقتنا المعاصر، فيمكن للمرء أن يتوقع بثقة أن دولاً وكيانات أخرى سوف تنضم إلى هذا التصنيف.

استقراء المستقبل القريب:

بينما نحاول استقراء النظام العالمي القادم، ينخرط الباحثون والمحللون بلا شك في دراسة متعمقة للاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأسبابها في كلٍ من هذه الدول العظمى الثلاث. وانما سوف يركز هذا المقال على عرض تغير الاتجاهات وتوازن القوى في السنوات الست المتبقية من العقد الحالي، في كلٍ من الولايات المتحدة وروسيا والصين.

في الواقع هناك شيء واحد مشترك بين هذه القوى العظمى الثلاث، ألا وهو أن التغيير يلوح في الأفق.

حالة الصين:

كان المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني، الذي عقد عام 2022، مؤشراً لتراجعاً وتغييراً، فمع انتهاء فترة الولاية الرئاسية، وزيادة التركيز على المخاوف الأمنية وخاصة في المرحلة الآسيوية، وتقليص مناورات القطاع الخاص، تم التأكيد على صلابة نظام الحكم المركزي الأكثر عمقاً.

في عام 1976بدت الدولة وكأنها عملاق عديم الكفاءة، ويعكس حينذاك مجتمع يملك قدرات محدودة لتوفير الاحتياجات الاستهلاكية العتيقة وكان التلقين الثقافي -الذي كان يُرمز إليه عبر انتشار الملابس الرمادية النظامية والدراجات- منتشراً. ولكن حتى في ذلك الوقت، كان بإمكاننا أن نشعر بوجود رغبة مكبوتة لإجراء تغييرات وللتعبير بإبداع على الرغم من صعوبة التحديات.

وبحلول عام 1978، وبعد البدء في عملية الإصلاح، وصل متوسط معدل نمو                                                                                      إجمالي الناتج المحلي إلى حوالي 9%، وتم انتشال أكثر من 800 مليون شخص من الفقر. لقد زاد حجم الاقتصاد الصيني إلى ما يقرب من أربعين ضعفاً بمشاركة كبيرة من أطراف غير حكومية.

ويبدو أن الصين عازمة بشكل واضح على أن تصبح قوة عالمية في مجال صناعات التكنولوجيا الفائقة مع حلول عام 2025؛ فهي تعمل على الحد من الاعتماد على التكنولوجيات الأجنبية لتمكين الشركات الصينية من المنافسة على المستوى المحلي والعالمي، وهي في الوقت ذاته تتعامل مع الشيخوخة السكانية، وارتفاع الديون، واضطراب القطاع العقاري بشكل مستمر. وتتمتع بإمكانات كبيرة كرائدة في مجال الابتكار، وكقوة في مجال الطاقة المتجددة، مع قدرتها على تنمية أسواق رأس المال الخاصة بها. فضلا عن أنها الآن صاحبة أكبر عدد من براءات الاختراع، وقد استثمرت بشكل كبير في مجال تحويل الطاقة (خاصة في تقنيات السيارات الكهربائية)، وتُعد سوق الأسهم والسندات الداخلية في الصين الآن ثاني أكبر سوق في العالم، وكانت هي أكبر سوق لجمع رأس المال عام 2022.

على الجانب الآخر، يوجه الغرب اهتمامه نحو الصين لعام 2027؛ باعتباره مؤشراً رئيسياً قصير المدى على توجهات الصين نحو تايوان؛ إذ تنتشر تكهنات بأن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، قد أعطى أوامر للجيش بالاستعداد لغزو تايوان بحلول ذلك العام. غير أن الرئيس الصيني نفسه نفى هذه المزاعم، وإمكانية حدوث ذلك سواء في 2027 أو 2035، ولكن يظل من اللافت للنظر أن الميزانية العسكرية للصين قد ارتفعت بنسبة 7.2% عام 2024؛ مما أثار بعض المخاوف إقليمياً وعالمياً، وبررت الصين ذلك بزيادة أغراض الدفاع والتعاون المشترك. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الميزانية العسكرية للولايات المتحدة تُعد هي الأعلى في العالم؛ إذ إنها أكثر من الدول التسع التالية لها مجتمعة.

حالة روسيا:

عند اندلاع الحرب في أوكرانيا، ظنت روسيا في بادئ الأمر أن "عملياتها العسكرية الخاصة" سوف تنتهي بشكل حاسم وبسرعة، ومن ناحية أخرى، اعتقدت أوكرانيا ومعها الغرب أن باستطاعتهم هزيمة روسيا في وقت سريع، وأن اقتصاد الأخيرة لن يستطيع الصمود وتمويل العمليات العسكرية الخاصة بهذه الحرب، ولكن ثبت خطأ كل هذه التوقعات مع وصول العمليات العسكرية إلى طريق مسدود (وإن كانت لصالح روسيا بنسبة بسيطة)، وتوقع صندوق النقد الدولي ارتفاع معدل إجمالي الناتج المحلي لروسيا بنسبة 3.2% هذا العام، ونحو 2.8% في العامين التاليين.

قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، بعد إعادة انتخابه في مارس 2024، بتبديل كبار مستشاريه. فعلى سبيل المثال، قام بوتين بتعيين الخبير الاقتصادي أندريه بيلوسوف وزيراً للدفاع، ربما لمعالجة الشكاوى المتعلقة بالتدفق غير المنتظم للإمدادات العسكرية، وقام بوتين كذلك بنقل سيرغي شويغو، وزير دفاعه السابق وأحد المقربين منه، إلى دور جديد كأمين لمجلس الأمن الروسي، ليحل محل نيكولاي باتروشيف. ونقل الأخير، الذي كان مستشاراً للأمن القومي منذ فترة طويلة، إلى منصب آخر غير محدد. يمكن أن تكون كل هذه التغييرات بمثابة محاولة من قبل الرئيس الروسي (من دون إحداث هزة عنيفة) لإبراز شعوره بالمسؤولية عن هذه الحرب التي ما تزال ممتدة، ونتائجها غير حاسمة، ولتأكيد سلطته أيضاً، وبخاصة بعد حادثة فاغنر، التي تم فيها تحدي وزير الدفاع علانية.

إن كيفية تعامل روسيا مع أوروبا في المستقبل، ستكون على رأس جدول الأعمال، ولكن ما ستركز عليه روسيا في المستقبل القريب -لأنه أكثر أهمية بالنسبة لها- هو فهم سياسة الولايات المتحدة في ظل إعادة انتخاب بايدن أو صعود ترامب وتوليه مرة أخرى.

 وكرد فعلٍ على التعديات الغربية واستعداداً للسنوات القليلة المقبلة، شهدنا وجوداً روسياً متزايداً في مناطق مختلفة من العالم. ففي سياق الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب ووقف انتشار الفساد وجشع الشركات والحكومات الغربية الكبرى، توسع الوجود الروسي بإفريقيا وأصبح ممتداً في، السودان، وجمهورية إفريقيا الوسطى، ومدغشقر، ومالي، ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى، وعادت شعارات الحرب الباردة إلى الظهور من جديد تحت ستار منع الهيمنة الغربية إلى جانب الاهتمام المتجدد بالتعامل مع الصين، ومجموعة البريكس، وغيرهما.

حالة الولايات المتحدة الأمريكية:

تتجه كل الأنظار حالياً نحو الولايات المتحدة الأمريكية بعد فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية؛ لفترة أربع سنوات وما لديه من تصورات حول دور أمريكا وسياساتها ومسؤولياتها.

تعد الولايات المتحدة الأمريكية الدولة العظمى الأكثر تأثيرا في السياسة الدولية في عالمنا المعاصر، نتيجة لما تملكه من مدخلات القوة والتأثير والتي أهلتها لان تمارس دور الهيمنة والتأثير في العلاقات الدولية، وباتت بذلك ضابط الإيقاع العالمي، حيث امتلكت الولايات المتحدة مثلث القوة القائم على القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية ومارست التأثير من هذا المنطلق، مما اثر وبشكل كبير في التراتبية الدولية وألية توزيع القوة والأدوار للقوى الدولية الأخرى ، ومن ثم التأثير في طبيعة وتوجهات النظام السياسي الدولي لقد كان تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، إيذانا لبداية مرحلة جديدة من مراحل تطور النظام الدولي، وكان هذا الحدث بمثابة متغير أساسي لمتغيرات لاحقة أصبحت بمثابة مدخلات أساسية، أفضت بالنتيجة إلى تحولات في طبيعة العلاقات الدولية وهيكلية التقاطب العالمي، وكذلك طبيعة مقومات ومعايير القوة فضلا عن هيكل النظام بشكل عام ومع وصول الولايات المتحدة الأمريكية إلى ذروة المناعة والسيطرة، أصبح من الضروري الاهتمام بمتابعة التوجهات السياسية لهذه الدولة العظمى، فتبلور النظام الدولي في ظل التحولات التي شهدتها البيئة الدولية في إعقاب انتهاء الحرب الباردة، وتغيير معادلة التوازن الدولي مرتبطا بدرجة كبيرة بطبيعة الدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة والسياسات التي تتبناها في ظل نظام أحادي القطبية إن النظام السياسي الدولي يمر بمرحلة مهمة من مراحل صيرورته التاريخية المعاصرة، تختلف نسبيا عن المراحل التي مر بها سابقا، لتأتي بصورة ونمطية تتلائم مع طبيعة وتأثير التحولات الدولية، بمعنى أنها جاءت استجابة لتأثير المتغيرات الدولية. إذن النظام الدولي الحالي يتبع البناء الذي ظهر بعد الحرب الباردة، ويستند إلى هيمنة القطب الواحد والتفرد الامريكي بالقرار الدولي وممارسة التأثير واستخدام القوة. لكنه سيصبح غير معروف في المستقبل المتوسط على اقل تقدير، اعتمادا على بروز قوى سياسية واقتصادية دولية تمثل انتقالا تاريخيا للثروة والقوة من الغرب إلى الشرق، وتنامي عناصر وحدات فاعلة غير دولية. وربما يمكن القول إن النظام السياسي الدولي سيتحول من الأحادية إلى تعدد الأقطاب بنسبة عالية من المصداقية والقبول،وذلك نظرا للتحولات الجديدة التي أعقبت إحداث الحادي عشر من أيلول ،2001مما يعكس ظهور احتمالات بل وإشارات واضحة تقول بنهاية العصر الأمريكي (نهاية عصر الهيمنة) أو في الأقل بضعف قدرة السياسة الأمريكية على ممارسة دور الهيمنة المطلقة، فالأنظمة الدولية والسياسية التي تشكلت عبر مراحل تاريخية طويلة قد استنفدت طاقتها على التطور ومواكبة المستقبل. وعبر تحليل منطقي للنظام السياسي الدولي الحالي، وجدنا أن توصيف عناصر ضعف هذا النظام وتسارع انهياره يمكن أن تتمثل في الانتشار السريع غير محسوب العواقب وأحادية القطب والقرار. فهناك تيار يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها إلى التراجع، نظراً للتمدد المفرط   overstretch الذي تحدث عنه المؤرخ البريطاني (بول كينيدي) في كتابة (سقوط وانهيار الإمبراطوريات العظمى). والذي ينطلق فيه من أن الالتزام والتوسع الخارجي يكون بداية انهيار القوى الكبرى مقارنة بالإمبراطوريات السابقة (الرومانية والبريطانية)، وقد تنبأ كيندي في كتابه بتقهقر الهيمنة والقوة الأمريكية نظراً للتوسع ألأمريكي الخارجي، والذي أثقل كاهلها لاسيما بعد حربي أفغانستان (2001) والعراق (2003)، إلى جانب ممارستها لسياسة تدخليه وانغماسها في معظم القضايا الدولية، واستمرارها في ممارسة سياسة محاصرة وتقويض القوى الأخرى، ودخولها طرفا فاعلا في معادلات التوازن الدولي. في حين يرى التيار الأخر، أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تكون فاعلا في أي نظام دولي جديد رغم العديد من الأزمات التي تواجهها في العديد من المجالات، استناداً إلى أن المجال مازال أمامها للاستمرار والإصلاح من إخفاقاتها للحفاظ على تماسكها وهيمنتها وتفوقها على الصعيدين الداخلي والعالمي.

 ختاماً: من المتوقع أن تظل الولايات المتحدة والصين وروسيا، بهذا الترتيب، "قوى عظمى" حتى عام 2030، ما لم يحدث صراع عسكري؛ إذ إنه في هذه الحالة ستتقدم روسيا على الصين.

إن القوى الثلاث جميعها في حالة من التغيير وإعادة التنظيم؛ ومن ثم ستكون تكتيكية للغاية، وستحسب كل خطوة بعناية وعلى الأمد القصير طوال القرن الحالي، مع متابعة اية مؤشرات تحدد بشكل أفضل مستقبل القوتين الأخريين بعد تغيير قيادتهما الحالية خلال هذا العقد أو الذي يليه. وما يقلق حقاً هو أن الأخطاء التي ترتكب نتيجة للحكم السيئ أو سوء التقدير قد تظل نتائجها الضارة مستمرة ومؤثرة في العالم أجمع.

وفيما يتعلق بالعلاقات في الشرق الأوسط؛ فإن الصين ستستمر في النمو اقتصادياً وسياسياً كذلك، وإن كان ببطء. أما روسيا فهي تقف على منحنى رد الفعل؛ إذ تنتقي نقاط الضعف الغربية لتكسب ببطء بعض الأصول الاستراتيجية، خاصةً فيما يتعلق بالمرافق اللوجستية. وفيما يتعلق بالكيان الصهيوني وإيران، فإن القوى الثلاث لن تستخدم القوة أو تكون عدوانية، سواء فيما يتعلق بعملية السلام في الكيان الصهيوني، أم الحد من إمكانات إيران النووية. ومن المتوقع أن تكون اليمن وليبيا والسودان بمثابة ساحات لإعادة التموضع والاتزان بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا، ولكن تظل أهميتهم أقل بالنسبة للصين.

إن الاستنتاج الأهم الذي يمكن استخلاصه هو أن الأدوار التي ستؤديها الولايات المتحدة وروسيا لن تتماشى مع الماضي، وأن الصين أمامها طريق طويل لتقطعه قبل أن تتمكن من ادعاء الزعامة؛ إذا ما قررت حقاً أداء هذا الدور. ومن هذا المنطلق، فإن المزيد من الانفتاح على كافة الجبهات والتنويع في العلاقات هو الخيار الأفضل للدول العربية، مع زيادة الاعتماد على القدرات الوطنية والعلاقات الإقليمية.






المراجع :

نبيل فهمي ،19، 6، 2024، المسارات المتوقعة للقوى العظمى حتى عام 2030، مركز المستقبل.

جوزيف س. ناي الابن، 14.1 .2013، العالم في العام 2030، الجزيرة نت.

 

 

المقالات الأخيرة