ما ارتدادات سقوط النظام السوري على الداخل التركي؟
فرع بنغازي

فرضت التطورات الميدانية والسياسية التي تشهدها سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد ضغوطاً قوية على المعارضة التركية، والتي ظلت حتى وقت قريب تضغط على حكومة العدالة والتنمية لجهة الانفتاح على دمشق. وتتصاعد أزمة المعارضة، ولا سيما مع ارتباك رؤيتها بشأن انهيار النظام السوري، بالإضافة إلى تقدم الفصائل الموالية لتركيا على الأرض وتمددها في الشمال السوري على حساب قوات سوريا الديمقراطية في ريف حلب، وخاصة مدينتي تل رفعت ومنبج. كما أنّ النجاحات التي أحرزها العدالة والتنمية في التوقيت الحالي من خلال تعزيز دور أنقرة في أية مفاوضات مستقبلية بشأن رسم مسارات الدولة السورية شكّل بدوره تحدياً إضافياً على المعارضة التركية.

رؤية مرتبكة

أربك سقوط الأسد المفاجئ، والانهيار السريع للجيش السوري، مواقف الداخل التركي لا سيما المعارضة، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:

1- احتفاء التحالف الحاكم باستراتيجية أنقرة تجاه سوريا: عبر التحالف الحاكم في تركيا عن دعمه للفصائل السورية المسلحة التي أطلقت عملية "ردع العدوان" في 27 نوفمبر 2024، باعتبار سقوط الأسد يمثل نجاحاً لاستراتيجية الحكومة التركية في سوريا. وبينما سعى أردوغان إلى توظيف سقوط الأسد داخلياً من خلال إظهار حكمة حزبه في إدارة تطورات الأزمة السورية، والتأكيد على أن بشار الأسد لم يُحسن استغلال اليد التركية التي مُدت له لإنقاذه من السقوط، أعلن حزب الحركة القومية "دوللت بهشتلي" عن دعمه لنجاحات المعارضة السورية في استعادة السيطرة على المدن السورية من نظام بشار، وبخاصة مدينة حلب، حيث أبدى بهشتلي فرحته الشديدة بتحرير مدينة حلب، معتبراً ذلك شعور كل تركي، ومعللاً إياه بأن حلب "تركية ومسلمة حتى النخاع"، ومطالباً الجميع بالعودة إلى حقائق التاريخ والجغرافيا.

ويشار إلى أن تصريحات بهشتلي لا تنفصل عن رؤية حليفه أردوغان الذي قال خلال خطابه أمام المؤتمر الإقليمي الثامن لحزب العدالة والتنمية بولاية سكاريا، في 13 ديسمبر 2024: "لو كانت نتائج الحرب العالمية الأولى مختلفة، لكانت مدن مثل الرقة وحلب وإدلب ودمشق جزءاً من وطننا تماماً كمدن عنتاب وأورفة وهاتاي".

2- تضارب مواقف "الشعب الجمهوري" تجاه سوريا: كان الارتباك والتضارب هو العنوان الأبرز في مواقف النخب الرئيسية داخل حزب الشعب الجمهوري، فبينما عبّر "أوزغور أوزال" عن قلقه من مخاطر سقوط الأسد، فضلاً عن مسارعته إلى قطع الطريق على توظيف أردوغان قيام وزير خارجيته ورئيس الاستخبارات إبراهيم قالن بأداء صلاة الجمعة في المسجد الأموي عشية زيارتهما لدمشق في 12 ديسمبر 2024، من خلال التقليل من أهمية الحدث، وأشار إلى أن الوفاء بالوعد تم بعد 13 سنة، وجاء بعد خسارة اقتصادية كبيرة للخزينة التركية. لكن في المقابل، أكد رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو أنه "يجب تسريع عودة المهاجرين السوريين في تركيا". وتابع: "إن بلدية إسطنبول التي يديرها يمكنها المساهمة في تطوير المدن السورية، وهي جاهزة للمشاركة في إعادة الإعمار".

3- إدانة كردية لدعم أنقرة للجماعات المتطرفة في سوريا: أظهر التيار الكردي، وبخاصة "حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب"، موقفاً مناهضاً ليس فقط لعملية "ردع العدوان"، ولكن تجاه سيطرة ما أسماهم التنظيمات الإرهابية على الدولة السورية. كما وجهت القوى السياسية الكردية انتقادات حادة لحكومة العدالة والتنمية، ووصف حزب "الديمقراطية ومساواة الشعوب" في بيان له بعد سقوط الأسد، "هيئة تحرير الشام" بــ"التنظيم الإرهابي"، متهماً إياها بـ"ارتكاب جرائم حرب في المناطق التي سيطرت عليها، خصوصاً منبج وتل رفعت بريف حلب". وتابع البيان أن "الخطوات التي قام بها حزب العدالة والتنمية أخيراً في سوريا من شأنها تعميق الفوضى والاضطرابات، كما أدت هذه الأحداث في سوريا إلى تدمير أرضية الحل السياسي التي كانت موجودة في سوريا". وزعم البيان أن "القوات المسلحة التركية نفذت عمليات جوية لدعم هذه العصابات".

4- إظهار المخاوف من تنامي التنظيمات الإرهابية: اعتبرت بعض الأحزاب اليمينية التركية، وبخاصة حزب "النصر" بقيادة أوميت أوزداغ المعروف بعدائه الشديد للاجئين السوريين، بالإضافة إلى حزب "الوطن"، أن صعود هيئة تحرير الشام على حساب سقوط النظام السوري، يُنذر بتنامي مساحات التنظيمات الإرهابية في الجوار التركي.

وفي رؤية حزب النصر التركي فإن حالة الفوضى في سوريا توفر بيئة خصبة لحزب العمال الكردستاني والإدارة الذاتية الكردية في الشمال السوري للتمدد وملء فراغ القوات السورية التي انسحبت من الحسكة والقامشلي. ويشار إلى أن أوميت أوزدغ كتب على منصة إكس قائلاً: "إنه بسبب الإطاحة ببشار الأسد أصبحت سوريا تخضع لمنظمات إرهابية مثل هيئة تحرير الشام وحزب العمال الكردستاني، وإن كامل الأراضي السورية باستثناء المناطق التي يتواجد بها العلويون تقع تحت هيمنة التنظيمات الإرهابية".

5- ترحيب مشروط من بعض القوى بسقوط الأسد: رحبت بعض قوى المعارضة التركية، من بينها أحزاب المستقبل والديمقراطية والتقدم، بسقوط النظام السوري، باعتباره شكّل عبئاً على الإقليم وعلى الأمن القومي التركي. بيد أن هذه الأحزاب، وفي الصدارة منها حزب المستقبل بقيادة أحمد داود أوغلو، أكد على أهمية مضي الإدارة السورية الجديدة قدماً في العمل على دمج جميع مكونات المعارضة السورية والتنسيق معها، وإجراء مصالحة وطنية شاملة تتشارك فيها كافة الأعراق والطوائف. وأضاف في بيان له أنه "يجب كتابة دستور جديد لسوريا ينص على وحدة الأراضي السورية، ويحفظ الحقوق والحريات، والبدء في إعادة تأهيل البلاد اقتصادياً".

 

 

تحديات محتملة

من المرجّح أن يزيد سقوط الأسد في سوريا من تصاعد حدة الضغوط التي ستتعرض لها المعارضة التركية خلال المرحلة المقبلة، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:

1- تثبيت الشرعية السياسية لنظام أردوغان: وفقاً للعديد من الاتجاهات، فإن سقوط نظام الأسد يرجح أن يعمل على تعويض التراجع الحادث في شعبية أردوغان في الداخل التركي بسبب تأزم الاقتصاد، وتراجع مستويات المعيشة، خصوصاً أن قطاعات شعبية معتبرة باتت ترى سقوط الأسد "انتصاراً" لسياسة أردوغان في سوريا، ومن جانب آخر تأكيداً لفشل استراتيجية المعارضة تجاه المشهد السوري، وهي التي طالما ظلت تدعو لكسر حدة التوتر مع الأسد، وسعت لترتيب لقاءات مباشرة معه. وفي ضوء ذلك، فإن انتصار رؤية أردوغان في سوريا يعني تعزيز شعبيته، وتثبيت حضوره في مستقبل المشهد التركي لما بعد عام 2028.

2- دعم توجهات السياسة الخارجية للحزب الحاكم: من المتوقع أن يتضاعف الإنجاز الخارجي لحزب العدالة والتنمية في الداخل التركي خلال المرحلة المقبلة، في حال تمكنت أنقرة عبر مفاوضاتها المستمرة مع القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في المشهد السوري من تعزيز حالة الاستقرار في سوريا، وتثبيت نفوذ الفصائل الموالية لها في الترتيبات السياسية المستقبلية للدولة السورية. ويبدو أن النظام التركي سعى سريعاً إلى توظيف الحدث السوري، عندما تحدث الرئيس أردوغان بعد سقوط الأسد عن الوفاء بوعده، والصلاة في المسجد الأموي، وهو ما يشير إلى نجاح رهانه على الثورة السورية.

ويمكن إبراز إعلان الرئيس التركي، في 12 ديسمبر 2024، عن أن الصومال وإثيوبيا توصلتا في ختام مفاوضات جرت بوساطته في أنقرة إلى اتفاق "تاريخي" ينهي التوترات بين البلدين الجارين في القرن الأفريقي، كمثال على مساعي أنقرة لتوظيف النجاح في سوريا، ومحاولة استنساخ ذلك في مناطق نفوذ مختلفة لإثبات وجاهة السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية، وبما يحمل العديد من الإيجابيات على شعبية الحزب في الداخل التركي.

3- تجميد ورقة اللاجئين السوريين في المشهد الانتخابي: نجحت المعارضة التركية طوال السنوات التي خلت في توظيف ورقة اللاجئين السوريين في كل استحقاق انتخابي شهدته البلاد، وذلك لتعزيز الضغوط على النظام الحاكم، وهو ما وفر لها فرصة لكسب استحقاق الانتخابات البلدية في مارس 2024، فضلاً عن حرمان الرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية مايو 2023 من الفوز بالجولة الأولى. وزاد استثمار هذه الورقة بعد تبني الرئيس أردوغان سياسة الباب المفتوح في التعامل مع السوريين الفارين من ويلات الحرب. بيد أن بدء قطاعات معتبرة من اللاجئين للعودة إلى سوريا بعد سقوط الأسد، قد يحرم المعارضة من الاستثمار في ملف اللاجئين، وبالتالي إغلاق الباب أمام استخدام اللاجئين كورقة ابتزاز سياسي في المستقبل.

4- تعرض التيار العلماني للتراجع داخل تركيا: سعى أردوغان إلى توظيف فشل مقاربة المعارضة تجاه قراءة المشهد السوري، وبدا ذلك في التصريحات التي أطلقها خلال المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية في 13 ديسمبر 2024 عندما قال: "روج رئيس حزب الشعب الجمهوري لإعلان العفو، الذي لم يؤمن به الأسد نفسه، وأعلن عنه حتى اللحظة الأخيرة. كان سيذهب إلى هناك، كان سيزور الأسد". وتابع: "سيد أوزجور ماذا حدث لماذا لم تذهب؟.. أتمنى لو قمت بهذه الزيارة". وفي ضوء ذلك، فإن إثبات صحة مقاربة أردوغان تجاه سوريا قد يقيد دور التيار العلماني في محاولات تحريك الشارع التركي ضد سياسات الحكومة بشكل عام، وضد كوادره بشكل خاص. وبالتالي، يظل التيار العلماني غير قادر إلى حد كبير على تغيير مجريات المشهد السياسي التركي خلال المرحلة المقبلة.

5- تعزيز الضغوط على التيار الكردي في الداخل: من المرجح أن تواجه الأحزاب الكردية في الداخل التركي ضغوطاً كبيرة خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً بعد نجاحات الفصائل الموالية لتركيا في تحييد مخاطر الإدارة الذاتية الكردية شمال سوريا، واستعادة السيطرة على عدد من الجيوب الاستراتيجية الكردية من قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بعد سقوط الأسد، ومنها تل رفعت ومنبج. كما أن مواصلة أنقرة دعم العمليات العسكرية الحالية في الشمال السوري ضد "قسد"، قد يترك ارتدادات على الساحة التركية فيما يتعلق بتراجع ارتباطات أكراد تركيا مع مشروع حزب العمال الكردستاني العابر للحدود.

بالتوازي، فإن مستجدات الساحة السورية بعد الأسد، وتأزم الأوضاع في شرق الفرات بعد الضربات التي وجهتها أنقرة والفصائل الداعمة لها للإدارة الذاتية الكردية، قد توفر بيئة داعمة لمبادرة حزب الحركة القومية بشأن تخفيف الضغط عن عبدالله أوجلان مقابل دعوته الأكراد للتخلي عن استخدام السلاح.

ختاماً، يمكن القول إن المعارضة التركية ستواجه تحديات لا تبدو هينة سوف تؤثر بدرجة كبيرة ليس فقط على تماسكها الداخلي، وإنما أيضاً على مساحات تأثيرها المجتمعي والسياسي، وربما يكون ذلك هو الأهم، خصوصاً مع مساعي حزب العدالة والتنمية لتأمين وجود أردوغان على الساحة التركية لما بعد 2028.

 

 

 

 

المراجع:

كرم سعيد ، 16.12.2024،ما ارتدادات سقوط النظام السوري على الداخل التركي؟،إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية.

(ب،ن ) ، 17.12.2024، ما ارتدادات سقوط النظام السوري على الداخل التركي، سما سورية الاخبارية.

 

المقالات الأخيرة