لماذا تزايدت التحديات أمام الدور الفرنسي داخل الاتحاد الأوروبي؟
فرع بنغازي

تثير احتجاجات المزارعين الفرنسيين في الأيام الماضية اعتراضاً على اتفاقية التجارة الحرة المحتملة بين أوروبا ودول ميركوسور – وهي الاحتجاجات التي تتسق مع الموقف الفرنسي الرسمي – تساؤلات مركزية حول حدود الـتأثير الفرنسي في السياسة الأوروبية؛ فبعد أن لعبت فرنسا دوراً محورياً في قيادة الاتحاد الأوروبي خلال أزمات مثل كوفيد–19 والحرب في أوكرانيا، تراجع التأثير الفرنسي أوروبياً بشكل ملحوظ منذ الهزائم الانتخابية التي مُني بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال عام 2024، التي دفعت نحو المزيد من الانشغال بالقضايا الداخلية.

عوامل محفزة

تواجه فرنسا في هذه المرحلة تحديات متزايدة أدت إلى تراجع تأثيرها في السياسات الأوروبية؛ ما أعاق دورها التقليدي كقائد في الاتحاد الأوروبي. ويمكن الإشارة إلى هذه التحديات بالتالي:

1– تآكل الشرعية السياسية لماكرون: أثَّرت الهزائم الانتخابية الأخيرة لمعسكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون – سواء في الانتخابات الأوروبية (تراجعت كتلته في البرلمان الأوروبي بعشرة مقاعد في انتخابات 2024) أو الوطنية (فقد الأغلبية المطلقة في الانتخابات المبكرة في يوليو 2024) – بشكل مباشر على قدرة فرنسا على لعب دور قيادي في الاتحاد الأوروبي. ومع فقدان الأغلبية البرلمانية، باتت الحكومة الفرنسية مضطرة إلى التركيز على الشؤون الداخلية؛ ما قلَّل تأثيرها على المستوى الأوروبي. إضافة إلى ذلك، أدى حل الجمعية الوطنية في يونيو 2024 إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار السياسي؛ ما أضعف ثقة الشركاء الأوروبيين بقدرة باريس على تقديم قيادة موثوقة في الاتحاد الأوروبي، وإلى تراجع ثقة العديد من المستثمرين الأجانب بالاستثمار في فرنسا، وهو ما جعلها أقل تأثيراً في صنع القرار الأوروبي.

2– الضعف الاقتصادي والمالي لفرنسا: تواجه فرنسا أزمة ديون متزايدة، وعجزاً مالياً يثير مخاوف الدول الأوروبية الأخرى، لا سيما تلك التي تنتمي إلى المعسكر الشمالي. إن إعلان باريس عن عدم قدرتها على الالتزام بقواعد العجز المالي الأوروبي حتى عام 2029، أدى إلى تآكل مصداقيتها كدولة قائدة. في الوقت نفسه، أثرت حالة عدم اليقين السياسي والقانوني على جذب الاستثمارات الأجنبية؛ حيث انخفضت الاستثمارات بنسبة 49% منذ 2024؛ ما يعكس صورة متراجعة عن الاقتصاد الفرنسي، ويضعف قدرتها على التأثير في السياسات الاقتصادية الأوروبية.

3– فقدان المناصب الاستراتيجية داخل المفوضية الأوروبية: حسب بعض القراءات، فإن استقالة تيري بريتون، الذي اعتبر أن إدارة أورسولا فون دير لاين أصبحت غير شفافة، من منصبه مفوضاً أوروبياً في سبتمبر 2024، قد تسببت في إضعاف النفوذ الفرنسي داخل المفوضية الأوروبية؛ حيث فقدت باريس تأثيرها في مجالات رئيسية مثل السوق الداخلية والطاقة. وتم إحلال ستيفان سيجورني في المفوضية الأوروبية نائباً تنفيذياً للرئيس لشؤون الرخاء والاستراتيجية الصناعية، الذي يملك مسؤوليات أقل تأثيراً مقارنة بسلفه؛ ما أثار مخاوف من تراجع قدرة فرنسا على توجيه السياسات الأوروبية.

وفي هذا السياق، برز تصريح لافت لمانون أوبري – وهي نائبة أوروبية عن حزب "فرنسا الأبية" – بأن سيجورني هو نسخة ماكرونية مصغرة أرسلها ماكرون إلى المفوضية دون مشاورة الشعب الفرنسي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن بعض التحليلات تعتبر أن العلاقات المتوترة بين ماكرون ورئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين ستزيد من تراجع النفوذ الفرنسي داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن ماكرون يعتبر أنها تتبع السياسة الأمريكية تجاه الصين.

4– تراجع العلاقات الفرنسية–الألمانية: شهدت العلاقات الفرنسية–الألمانية، التي تعتبر النواة الرئيسية المحركة للاتحاد الأوروبي، في ظل ثنائية ماكرون–شولتز، تدهوراً كبيراً نتيجة للاختلافات الجوهرية في القضايا الاقتصادية والاستراتيجية. وحالياً أدى دعم ألمانيا لاتفاقية التجارة الحرة مع دول "ميركوسور"، ورفض فرنسا لها، إلى تعميق الفجوة بين البلدين. هذا التباين في الرؤى انعكس بشكل سلبي على التناغم المطلوب لتوجيه سياسات الاتحاد؛ حيث أصبحت فرنسا أقل قدرة على التفاوض ضمن محور قوي مع ألمانيا؛ ما أضعف مكانتها بشكل كبير.

5– معارضة اتفاقية التجارة الحرة مع دول ميركوسور: أدى موقف فرنسا الرافض لاتفاقية التجارة الحرة مع دول ميركوسور – وهي البرازيل والأرجنتين وباراجواي وأوروجواي – إلى تعزيز صورتها كدولة معرقلة للتكامل الأوروبي، خصوصاً أن ماكرون بنفسه يقود حملة قوية ضد هذه الاتفاقية؛ حيث اعتبر خلال زيارته إلى بوينس أيرس في 17 نوفمبر 2024 أن فرنسا لن توقع على هذه الاتفاقية. وعززت هذه المعارضة الشعور بالعزلة الفرنسية داخل الاتحاد، لا سيما بين الدول الأعضاء التي ترى في مثل هذه الاتفاقيات فرصة لتعزيز النفوذ الأوروبي عالمياً.

وتُسوِّق فرنسا، من أجل تبرير معارضتها لهذه الاتفاقية، لحجج من قبيل أن هذه الاتفاقية ستؤدي إلى زيادة إزالة الغابات بنسبة 5%سنوياً في دول ميركوسور، وأنها تتعارض مع اتفاقية باريس للمناخ. وتتعرض فرنسا لانتقادات داخلية وخارجية نتيجة سياستها الحمائية، خاصةً في القطاعات الزراعية والتجارية؛ ما ساهم في تعزيز الانطباع بأنها غير قادرة على التأقلم مع التوجهات الحديثة للاتحاد الأوروبي.

6– تأثير المعارضة الداخلية على السياسة الخارجية: تواجه الحكومة الفرنسية ضغوطاً كبيرة من المعارضة الداخلية، ومنها الأحزاب اليمينية واليسارية، التي تستغل التحديات الأوروبية لتقويض شرعية الحكومة. هذه المعارضة ساهمت في تعزيز الخطاب المناهض للاتحاد الأوروبي داخل فرنسا؛ حيث إن حزب التجمع الوطني (أقصى اليمين) وحزب فرنسا الأبية (أقصى اليسار) يجاهران بمعارضة اتفاقية التجارة الحرة مع دول ميركوسور، ويعتبرانها تهديداً للزراعة الفرنسية والسيادة الغذائية؛ ما انعكس سلباً على قدرة باريس على تقديم رؤية موحدة أو قيادة فعالة داخل الاتحاد الأوروبي.

تحدٍّ أوروبي

سيؤدي تراجع التأثير الفرنسي في السياسات الأوروبية إلى تداعيات ملموسة، ربما تنال هيكلية الاتحاد الأوروبي وتوازن القوى داخله، ونشير إلى أهمها بالتالي:

1– ضعف القيادة الاستراتيجية داخل الاتحاد الأوروبي: قد يؤدي تراجع النفوذ الفرنسي إلى فراغ في القيادة الاستراتيجية داخل الاتحاد الأوروبي؛ ما سيعيق التقدم في تطبيق مشاريع كبرى، مثل مشروع "الاستقلال الاستراتيجي" الذي يدعمه الرئيس ماكرون. ووفقاً لبعض التحليلات، فإن غياب الحضور الفرنسي القوي سيُساهم في إبطاء خطط تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية والتوسع في الاستثمارات المشتركة، مثل مشاريع الطاقة والرقمنة.

وستتعثر المبادرات الفرنسية لدفع أجندة الدفاع الأوروبي المشترك بسبب عدم قدرة فرنسا على حشد الدعم اللازم من الدول الأعضاء، خاصةً في ظل تراجع علاقاتها مع ألمانيا. وفي هذا السياق، يمكن الاستدلال بتصريح فريدريش ميرتز المرشح المتوقع فوزه بمنصب المستشار الألماني في الانتخابات الألمانية المبكرة في فبراير 2025، بأن ألمانيا ستعتمد بشكل أكبر على حلف الناتو للدفاع الأوروبي، على مدى التعارض مع رؤية ماكرون حول الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي.

2– تزايد تأثير القوى المحافظة والمتطرفة: تزامن تراجع كتلة الرئيس الفرنسي ماكرون داخل البرلمان الأوروبي، مع صعود الكتل المحافظة والمتطرفة؛ ما أدى إلى تغيير في الأولويات التشريعية للاتحاد. ويمكن القول إن التحالف بين حزب الشعب الأوروبي (EPP) والأحزاب اليمينية المتطرفة، سيؤدي إلى إضعاف نفوذ الأحزاب الليبرالية الموالية لتوجه الرئيس الفرنسي داخل البرلمان الأوروبي. وعلى سبيل المثال، أفضت نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة إلى فقدان الكتلة الليبرالية Renew (الداعمة لماكرون) لرئاسة لجنة الحريات المدنية، وهي اللجنة التي أصدرت في ولايتها السابقة عشرة نصوص خاصة بميثاق اللجوء والهجرة. هذا التغيير سيؤثر بشكل مباشر على قدرة الرؤية الفرنسية المعتدلة في التأثير على التشريعات الأوروبية الرئيسية.

3– تراجع المبادرات الأوروبية الموحدة: إن المعارضة الفرنسية لاتفاقية التجارة الحرة ميركوسور سيُحفز دولاً أخرى على التفكير في سياسات أكثر انعزالاً؛ ما قد يهدد بتآكل السوق الأوروبية الموحدة، كما سيؤثر فشل فرنسا في الامتثال لقواعد العجز المالي سلباً على قدرتها على قيادة إصلاحات مالية واسعة النطاق داخل الاتحاد الأوروبي؛ ما سيزيد نفوذ الدول التي تدعم سياسات تقشفية مثل ألمانيا وهولندا. وفي هذا السياق كان لافتاً اعتبار وزيرة الزراعة الفرنسية آني جينيفار في 11نوفمبر 2024 أنه بات من الصعب بناء أقلية معرقلة داخل الاتحاد الأوروبي لمنع تبني اتفاقية ميركوسور التي يجب أن تتألف من أربع دول أعضاء على الأقل تمثل 35% من عدد سكان الاتحاد الأوروبي. وعلى العموم يمكن القول إن التردد الفرنسي في دعم مشروعات أوروبية كبرى سيؤدي إلى تباطؤ تنفيذ سياسات الاتحاد الأوروبي في مجالات رئيسية أخرى كالتعاون الدفاعي المشترك مثلاً.

4– إضعاف التوازن في العلاقات الأوروبية مع القوى العالمية: إن تراجع الدور الفرنسي سيؤدي إلى تغيير في التوازن في علاقات الاتحاد الأوروبي مع القوى العالمية؛ فبينما تسعى دول مثل ألمانيا إلى تعزيز شراكاتها مع الولايات المتحدة والصين، تميل فرنسا إلى تبني مواقف أكثر استقلاليةً وتنافسيةً، كما سترخي المواقفُ المتناقضة بين باريس وبرلين بشأن قضية التجارة مع الصين، بظلالها على قدرة الاتحاد الأوروبي على التفاوض ككتلة واحدة؛ ما سيؤدي إلى أضعاف تأثيره على الساحة الدولية.

5– تعزيز أدوار دول أخرى على حساب الدور الفرنسي: سيفتح تراجع النفوذ الفرنسي في الاتحاد الأوروبي المجال أمام دول أخرى لتعزيز دورها في تشكيل السياسات الأوروبية، كألمانيا التي ستعمل على تعزيز موقعها كقوة محورية في الاتحاد، كما أن لإسبانيا طموحات في التأثير على سياسات المفوضية الأوروبية في قضايا الطاقة الخضراء والبنية التحتية والزراعة.

وتتطلع دول أوروبية كهولندا إلى دعم سياسات التقشف المالي. وتسعى إيطاليا إلى ملء الفراغ في قيادة السياسات الزراعية والتجارية الأوروبية، كما أنها تطمح إلى أن تصبح المُحاوِر الأوروبي الأول لدول شمال أفريقيا. حتى إن بولندا ستحاول الظهور كقوة مؤثرة، خاصة في قضايا الدفاع والطاقة، مستفيدةً من تراجع العلاقات الفرنسية–الألمانية. وفي المحصلة، فإن إقرار الاتحاد الأوروبي لاتفاقية التجارة الحرة، رغم المعارضة الفرنسية، سيعكس تحولاً في الأولويات الأوروبية، التي كانت تنطلق في السابق من ضرورة الحصول على الإجماع الأوروبي لا على أغلبيات معينة.

حدود التراجع

في المرحلة المقبلة، سيكون النفوذ الفرنسي على الساحة الأوروبية مرتبطاً بمجموعة من العوامل الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– استمرار التأثير الفرنسي في مجالات استراتيجية أوروبية: رغم التحديات التي تواجهها فرنسا، فإنها لا تزال تحتفظ بنفوذ بارز في مجالات استراتيجية أوروبية. ويبرز ذلك من خلال أوجُه التشابه بين أجندة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي أطلقتها في يوليو 2024 وخطاب السوربون الثاني للرئيس ماكرون في أبريل 2024. ولقد دعم ماكرون إنشاء مجلس دفاع أوروبي يضم وزراء الدفاع للدول الأعضاء، وهو اقتراح تماشى مع رؤية المفوضية الأوروبية لتعزيز التعاون الدفاعي.

بالإضافة إلى ذلك، شدد خطاب السوربون الثاني على أهمية بناء قدرات الدفاع السيبراني وإنشاء القبة الحديدية الأوروبية، وهي مبادرات أصبحت جزءاً من رؤية المفوضية للأعوام 20242029، كما يتضح التأثير الفرنسي من خلال دعم العودة إلى الطاقة النووية ضمن السياسات الأوروبية لخفض أسعار الطاقة وتحقيق الاستقلالية، وهي رؤية عزَّزها ماكرون في هذا الخطاب.

2– إمكانية حدوث أزمة سياسية كبيرة في فرنسا: يمكن أن يؤدي حدوث أزمات سياسية كبرى في فرنسا، كعودة الدعوات لاستقالة ماكرون أو سقوط حكومة التعايش الحالية، إلى تعميق حالة عدم الاستقرار في فرنسا. وقد تُفضِي هذه الأزمات إلى التوجه نحو انتخابات مبكرة في صيف 2025. في حال حدوث هذا السيناريو، فإن فوز حزب التجمع الوطني RN بقيادة مارين لوبان قد يؤدي إلى تغير جذري في السياسات الفرنسية؛ ما سيؤثر بشكل كبير على دورها التقليدي داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بدعم التكامل الأوروبي والسياسات المشتركة.

3– مدى قدرة ماكرون على إطلاق مبادرات جديدة مؤثرة: قد يستخدم ماكرون مساحته المتبقية في السياسة الأوروبية؛ وذلك على غرار ما فعله رؤساء فرنسيون سابقون كميتران وشيراك خلال فترات التعايش السياسي؛ حيث قد يقوم بتعزيز حضوره في المجلس الأوروبي، ويواصل إطلاق المبادرات المؤثرة، كما فعل سابقاً في قضايا مثل أزمة أوكرانيا. وقد يمكنه من القيام بذلك الوجود الدبلوماسي والعسكري الذي ما زالت فرنسا تتمتع به بفضل عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي وقوتها العسكرية والنووية.

4– مواصلة الوجود الفرنسي في المناصب الأوروبية القيادية: يمكن القول إن وجود شخصيات فرنسية في مناصب قيادية مثل رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد، يعكس استمرار حضور فرنسا في آليات صنع القرار الأوروبي. ويمكن لفرنسا، عبر إبداء بعض المرونة السياسية والقدرة على تعديل الأولويات والمواقف، استعادة بعض نفوذها المفقود، خاصةً إذا تم إصلاح العلاقات مع ألمانيا وتوحيد الجهود مع بعض الدول مثل إيطاليا وبولندا حول قضايا استراتيجية مثل البيئة والزراعة.

خلاصة القول: رغم التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها، لا يزال تأثير فرنسا في الاتحاد الأوروبي حاضراً، ولكن هذا التأثير يعاني من الهشاشة ومُعرَّض للتراجع في المرحلة المقبلة إذا لم يتم التعامل مع الأزمات الداخلية واستعادة الزخم في الملفات الاستراتيجية الأوروبية.





المراجع:

نوار الصمد،26.11.2024، لماذا تزايدت التحديات أمام الدور الفرنسي داخل الاتحاد الأوروبي؟ ، إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية .

ب،ن، 14.11.2022، لماذا تزايدت التحديات أمام الدور الفرنسي داخل الاتحاد الأوروبي؟،مركز المستقبل للأبحاث والدراسات .

 

المقالات الأخيرة