في
حال حدوث حرب نووية، سندمر دول الناتو خلال نصف ساعة”، هكذا كانت تصريحات رئيس
وكالة الفضاء التابعة للكرملين الروسي، ديمتري روغوزين، لصحيفة “ديلي ميل” البريطانية،
في 24 فبراير العام الماضي، والتي أججت معها مخاوف العالم من اندلاع حرب نووية، في
ظل حالة الرفض الأوروبي لهجمات الدب الروسي، التي لم تجرؤ بعد أيًا من الدول
الغربية أو الأوروبية على ترجمة هذا الرفض عسكريًا، تحسبًا من فتح صندوق باندورة النووي.
إلا أن الأخير لم يعد التخوف الوحيد في العالم في ظل تنامي قوة روسيا السيبرانية،
التي أصبحت بمثابة سلاح نووي تكنولوجي، وصفه الدبلوماسي الأمريكي “هنري كيسنجر”
بالكارثة التي لم يكن للعالم تخليها في وقت سابق.
هل
بدأت روسيا عصر الديكتاتورية العالمية الآلية؟
تنبأ
الفيلسوف البريطاني برتراند راسل أواخر الثلاثينيات بظهور ما يسمى بـ
“الديكتاتورية الآلية”، التي تعني السيطرة على المادة من أجل الهيمنة، بدلًا من
الاعتماد على أدوات الإقناع من خلال الخطابات، وذلك بقوله: “من الميسور لأية فئة
حاكمة من القلة ومدربة تقنيًا عن طريق سيطرتها على الطائرات، والأساطيل، ومحطات
توليد القوى، أن تقيم نظامًا ديكتاتوريًا لا يتطلب الرضا من الرعايا، ولم يظهر حتى
الآن الحاكم المستبد الذي يعتمد على السلطان الآلي في أي مكان في العالم، ولكن هذا
النمو احتمال متوقع في وقت قريب، وستكون مقاومته بالطبع يائسة ولا جدوى منها، وأن
عهدًا كهذا ستغلب عليه صفة اللاإنسانية التي تفوق كل ما عرفه العالم في عصوره
السابقة”.
لم
يكن يتخيل العالم أن تنبؤات “راسل” وجدت طريقها بعد أقل من عقدين، وتحديدًا في 8
أغسطس 1949، باستخدام الولايات المتحدة الأول والأخير للسلطان الآلي النووي بإلقاء
قنبلتين ذريتين على اليابان لتنهي معها الحرب العالمية الثانية، وتتربع بعدها
أمريكا على عرش الهيمنة في النظام العالمي.
العِلموية،
هكذا أطلق الفيلسوف والعالم الألماني، يورجن هابرماس، مصطلحًا نظريًا يترجم
السيطرة على العالم بالعلم، والتقنية لممارسة الهيمنة على المجتمعات، وذلك بمجرد
توطيد العلاقة البيروقراطية بين صاحب المعرفة العلمية، والحاكم السياسي؛ ويعتبر
“هابرماس” هذا النوع من الهيمنة السبب في المشكلات التي دعت إلى الحروب، والعنف،
والقتل الذي رافق السيطرة العسكرية التقنية، من أجل تحقيق مصالح السياسيين الخاصة
على حساب تدمير البشرية.
ووصف
البعض استخدام التقدم العلمي، والتقنيات للسيطرة السياسية بـ “اللوفيثان الهوبزي”
الجديد للسيطرة على كل شيء، وهو ما جعلها منطلق النزعات الشمولية الحديثة، من حيث
تسبب العلوم في إنتاج تكنولوجيا عسكرية، وبوليسية قادرة على التحكم من بعد، ومراقبة
لحركات الأفراد، وهو ما يعكس التصور الوجودي في التقنية.
وإذا
كانت الهيمنة على النظام العالمي تذهب لصالح أمريكا، فيمكن اعتبار روسيا المهيمن
على الفضاء العالمي السيبرانى، بحسب وصف دراسة بحثية نشرت العام الماضي، فبمجرد
الضغط على أحد الأزرار يمكن تعطيل عمل حكومة دولة ما، وبث الفوضى في النظام
الاقتصادي العالمي خلال ساعات، وهو ما عكسته الهجمات الروسية على أوكرانيا عام
2017.
ورغم
أن قدرات “موسكو” الاقتصادية والعسكرية تتجاوزها القدرات الأمريكية بمراحل، إلا أن
الأخيرة لم تهتم بقضايا الأمن السيبرانى سوى خلال العقود الأخيرة، مقارنة بالدب السيبرانى،
الذي وصفه تقرير لمركز تحليل السياسات الأوروبية، بالمهدد الإلكتروني الرئيس
للعالم الديمقراطي في القرن الحالي، كما أن “بوتين” ينظر إلى المشاريع الديمقراطية
عبر آراضي الاتحاد السوفيتي السابقة باعتبارها تهديدًا لشرعيته السياسية، وتأثيره
الإقليمي.
وكشف
تقرير لوكالة أبحاث الدفاع السويدية امتلاك روسيا لخطة تهدف خلالها لإعادة تشكيل
المشهد الرقمي العالمي حسب رغباتها، الذي يعكس سياسة روسيا طويلة المدى لبناء
سيادتها الإلكترونية، والتي بدأتها منذ عقدين على الأقل ببناء قدراتها على تنفيذ
العمليات السيبرانية بالاعتماد على متسللين “مرتزقة” منذ التسعينيات، واتبعت سياسة
توظيف للشباب الفائزين في مسابقات القرصنة.
ووصف
تقرير شركة مايكروسوفت العالمية للدفاع الرقمي الصادر في أكتوبر الماضي، التهديدات
السيبرانية التي تتعرض لها دول العالم بـ “الحرب الإلكترونية”، التي استهدفت
الحكومات، أو المنظمات غير الحكومية، أو مراكز الفكر، بنسبة 80%؛ بغرض الحصول على
الأفكار، والخطط، ونوايا السياسات الوطنية للدول التي تتعرض للهجوم، باستغلال
الربط بين مراكز الفكر والرأي، والمؤسسات الحكومية للتعرف على الأهداف المستقبلية
للحكومات. وسرعان ما انعكست التوترات الجيوسياسية على الدول التي تصدرت قائمة
المستهدفين من هذه الحرب، فكانت الولايات المتحدة (49%)، وأوكرانيا (19%) لهما
النصيب الأكبر من هذه الهجمات، التي كان مصدرها روسيا في أغلب الحالات.
ولم
يكن مستغربًا إعلان الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، بعد أكثر من شهرين على
اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، مسؤولية روسيا عن الهجوم السيبرانى الذي أسقط
الاتصالات عبر الأقمار الصناعية التي سبقت الغزو، بحسب ما نشرته صحيفة النيويورك
تايمز الأمريكية، وأدى لانقطاع الاتصال بالإنترنت لآلاف المدنيين في أوكرانيا وعبر
أوروبا. وكشف هذا الهجوم عن نقاط ضعف جديدة في أنظمة الاتصالات العالمية، وصعود
مهيمن لروسيا في النظام العالمي السيبرانى، يمكن أن يكون انطلاقة لإعادة تشكيل
النظام العالمي الواقعي.
المراجع
_ نادية الدكروري، 1/ أغسطس/ 2022، هل تلجأ
روسيا للسلاح النووي السيبرانى لفرض نموذج “الديكتاتورية الآلية”، موقع ملتقى
الباحثين السياسيين العرب .
_ ستيف رونبرغ، 21/ يونيو/ 2023، روسيا
وأوكرانيا: هل يمكن أن تخاطر موسكو باستخدام أسلحة نووية، bbc
عربي .