مر "أحمد الشرع" (الملقب أبو محمد الجولاني)
(قائد إدارة العمليات العسكرية في سوريا) بتجارب مختلفة وتحولات متعددة، بدءًا من انتمائه
المبكر إلى تنظيمات الإرهاب المعولم وصولًا إلى قيادته "هيئة تحرير الشام"
التي تعد الحاكم الفعلي في الوقت الراهن للساحة السورية، متأرجحًا خلال مسيرته بين
التمسك بالأيديولوجيا الراديكالية من جهة، والبراجماتية السياسية التي تفرضها الوقائع
الميدانية من جهة أخرى ما جعله شخصية ذات هوية غامضة لتعدد ولاءاته وانتقالها من جانب
إلى آخر وعليه، تحاول هذه الورقة استخدام عدسة المدرسة السلوكية المعرفية القائمة على
دراسة الروابط بين الأفكار والمشاعر والسلوكيات لفهم السمات النفسية والفكرية لشخصية
"الشرع".
النشأة والتحولات
ينتمي أحمد الشرع إلى عائلة سورية نزحت من الجولان إلى دمشق
بعد حرب 1967، لكنه ولد في الرياض بالمملكة السعودية 1982، نتيجة عمل والده هناك كباحث
اقتصادي في وزارة النفط، والذي استمر فيه لمدة 10 سنوات قبل أن يعود ليستقر في دمشق
مع عائلته في 1989 وفي دمشق تلقى الأول تعليمه الأساسي والثانوي، لكن تضاربت المصادر
حول طبيعة دراسته الجامعية، بين دراسة الطب أو الأعلام، إلا أن ما هو مؤكد أنه لم يكمل
دراسته الجامعية.
ومع هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، بدأت الإرهاصات الأولى
لارتباطه بالتنظيمات الإرهابية فبعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، توجه للمشاركة
في قتال ضد القوات الأمريكية، حيث انضم إلى تنظيم القاعدة بقيادة أبي مصعب الزرقاوي،
وبعد ذلك اعتقلته القوات الأمريكية عام 2006، وتم إيداعه في سجن أبو غريب، وانتقل إلى
سجن بوكا، ثم إلى سجن كروبر في مطار بغداد، إلى أن سلمته القوات الأمريكية إلى العراقيين
الذين وضعوه في سجن التاجي، وأخيرًا أطلق سراحه بعد أن أمضى نحو خمس سنوات في السجون
في أعقاب اندلاع الثورات العربية.
خلال الفترة التي قضاها الشرع في السجون العراقية، طرأت
تطورات على أفكاره حيث تبنى مفهوم الإرهاب المحلي بدلًا من الإرهاب المعولم، إذ اقتنع
بأنه لا بد أن يركز جهوده على الساحة السورية، وهو ما دعاه إلى إرسال ورقة من 50 صفحة
إلى أبي بكر البغدادي (زعيم تنظيم دولة العراق الإسلامية آنذاك) استعرض فيها تاريخ
سوريا، والتنوع الطائفي بها، وقدم من خلالها أفكاره وخططه المتعلقة بها.
بعد خروجه من السجن التقى الشرع بالبغدادي، إذ أوكل الأخير
إليه مهمة تأسيس تنظيم في سوريا وقدم له الدعم المالي لذلك، وعليه تشكلت “جبهة النصرة”
في أواخر عام 2011 على يد الشرع وسرعان ما برزت بفضل نجاحاتها المبكرة في المعارك ضد
قوات النظام السوري.
نشأت التوترات بين الشرع والبغدادي عام 2013 حين أفاد الأخير
باندماج التنظيمين (دولة العراق الإسلامية) و(جبهة النصرة)، معلنًا إنشاء الدولة الإسلامية
في العراق والشام (داعش) في إبريل 2013 على أن يخضع هذا الكيان الجديد لقيادته، لكن
رفض الشرع ذلك وتعهد بالبيعة لــ أيمن الظواهري (زعيم تنظيم القاعدة آنذاك)
ووضح الشرع في لقائه مع مارتن سميث الذي جاء تحت عنوان الجهادي
ونشر 2021، أن أحد الأسباب الأساسية للانفصال عن داعش كان انحراف البغدادي عن القواعد
والمعايير التي ناقشها في الوثيقة التي أرسلها إليه.
البراجماتية مقابل الأيديولوجية
يمثل الشرع نموذجًا لكيف يمكن للشخصية أن تتحرك بين البراجماتية
والأيديولوجية بناءً على المتغيرات التي تحيط بها، فعندما أسس جبهة النصرة كان ولاؤه
معلنًا لتنظيم القاعدة، وهو ما يعكس تمسكًا قويًا بأيديولوجيا السلفية الجهادية، التي
تتبنى مفاهيم صارمة، مثل إقامة الحكم الشرعي وعدم الاعتراف بالحدود الوطنية أو الأنظمة
السياسية القائمة، وقد ظهرت أيديولوجيته في البداية من خلال خطاباته وتوجهاته العسكرية،
لكن مع تطور الصراع السوري من ناحية والهزائم التي منيت بها تنظيمات الإرهاب المعولم
من ناحية أخرى، تحول الشرع للبراجماتية السياسية، وفي هذا الصدد أعلن الشرع في
2016 عن قطع العلاقة بين جبهة النصرة وتنظيم القاعدة، مُغيرًا اسمها إلى جبهة فتح الشام،
سعيًا إلى تحسين صورة المجموعة أمام القوى الدولية والإقليمية وتجنب الضغوط الأمنية
التي كانت تلاحق النصرة بسبب ارتباطها بـــ القاعدة وفي 28 يناير 2017، أعلن الشرع
عن تشكيل هيئة تحرير الشام، وهي تحالف يضم جبهة فتح الشام وفصائل أخرى مثل أحرار الشام
ونور الدين الزنكي ولواء الحق وجبهة أنصار الدين وغيرها من الفصائل وذلك في محاولة
لتقديم نفسه وهيئة تحرير الشام كقوة محلية تسعى لتحقيق أهداف ثورة الشعب السوري
وعليه، بدأ الشرع في التوفيق بين الأيديولوجيا والبراجماتية،
لضمان بقاء حركته وتحقيق مكاسب سياسية وبالرغم من أن تغيير الشرع لم يقم على مراجعات
حقيقية لأفكاره، إلا أنه يمكن القول إنه حيد تطبيق أفكاره الأيديولوجية.
المرونة والتكيف
يتسم الشرع بقدرته على التفاعل والتكيف مع محيطه المباشر
ويتخذ قرارات تتناسب مع ما يواجهه، وهو ما يتماشى مع منظور المدرسة السلوكية التي ترى
أن سلوك الأفراد ليس ثابتًا بل متغيرًا حسب المواقف المحيطة، إذ يتم تشكيل سلوك الأفراد
بناءً على المحفزات البيئية.
وتشكل بيئة الحرب، والانقسامات السياسية، والضغوط الإقليمية
والدولية، عاملًا محوريًا في تحديد سلوك الشرع ويمكن أن نُرجع تكيّفه مع التغيرات المستمرة
التي شهدتها المنطقة، وقدرته على تطوير استراتيجيات جديدة، إلى آليات التعلم المرتبطة
بالنجاح والفشل، حيث وفر العقد الماضي لـــ”الشرع” عدة أمثلة ليتعلم منها، على رأسها
الهزيمة المكانية لتنظيم داعش، إذ مَثّل إعلان الأخير تأسيس خلافته المزعومة في العراق
وسوريا دافعًا رئيسيًا لتشكيل التحالف الدولي لهزيمه “داعش” ما انصرف إلى تقويض نفوذه.
وعلى صعيدٍ موازٍ، يمكن تفسير تطور شخصيته من خلال مبادئ
التعزيز، وهو ما يعني أنه إذا كانت قراراته في السابق تؤدي إلى تحقيق أهدافه، فهذا
يعني أنه سيكرر نفس السلوكيات في المستقبل. في المقابل، إذا كانت قراراته تتسبب في
عجزه عن تحقيق أهدافه، فقد يتجنب تكرار تلك الأنماط السلوكية، ويلجأ لطرق جديدة.
ولا شك أنه قد تعلم من أخطاء التنظيمات التي سبقته، ما أجبره
على تعديل سلوكه للتكيف والتوافق مع المتغيرات الخارجية، حيث يبدو أنه أدرك أن التمسك
بالفكر المتشدد من شأنه أن يحد من قدرته على بناء قاعدة شعبية وبالتالي، أظهر مرونة
في تفاعله مع تغيرات البيئة السياسية والعسكرية من حوله.
وفي ضوء سمات المرونة والتكيف التي يتميز بها اتبع استراتيجية
قائمة على تلميع صورته الذهنية، حيث أحدث تحولًا في لهجة خطاباته من خلال تكيفها لتحظى
بقبول مجتمعي ودولي، كما تخلى عن هيئته التقليدية وحولها إلى هيئة أكثر اتساقًا مع
المتطلبات السياسية والإعلامية الحالية، هذا بجانب انفتاحه على التفاوض مع أطراف أخرى
من ناحية، فضلًا عن تأكيده على مفاهيم قبول الآخر وعدم اضطهاده من ناحية أخرى.
وفي محاولة لتأكيده على تلك الخطوات، عقد الشرع عدة لقاءات
إعلاميه من أبرزها لقاؤه مع قناة PBS الأمريكية في 2021، عبر برنامج
فرونت لاين الذي أوضح فيه ابتعاد هيئة تحرير الشام عن التنظيمات الإرهابية العالمية
بعد انشقاقها عن القاعدة، وأكد من خلاله أن الهيئة قد أصبحت أكثر تركيزًا على قضايا
الشأن المحلي في سوريا فضلًا عن لقائه الأخير مع CNN الذي نشر في ديسمبر 2024، قبل أيام من الإطاحة بنظام
بشار الأسد والذي استعرض خلاله خططه لسوريا في مرحلة ما بعد الأسد وعلى رأسها تشكيل
حكومة قائمة على المؤسسات ومجلس يختاره الشعب.
التنافر المعرفي لدى "الشرع"
إن التحولات التي شهدها تفكير الشرع يمكن أن نرجعها إلى
البعد المعرفي الذي يلعب دورًا في التأثير على النسق العقدي للأفراد الذي يشكل الإطار
الفكري الذي يوجه سلوك الأفراد، وعليه يميل الأفراد للظهور بشكل متناسق معرفيًا، لكن
في حالة تناقض الأهداف مع النسق العقدي يحدث تنافر معرفي (Cognitive Dissonance) مما يدفع الفرد إلى اتباع استراتيجيات
للتعامل مع هذا التنافر، مثل إجراء تعديلات محدودة على النسق العقدي ليتسق مع الأهداف
الجديدة ومن ثم يمكن القول إن الشرع واجه حالة من التنافر المعرفي بين قناعته، التي
كانت قائمة على مفاهيم تفرض عليه القتال، وبين حاجته للتكيف مع التغيرات السياسية في
المنطقة، وفي محاولة للجمع بين معتقداته، والحاجة للتكيف مع المتغيرات الجديدة، تحوّل
الشرع من جهادي متشدد إلى شخصية تتودد للأقليات وتدعو إلى إنشاء حكومة مؤسساتية ومجلس
منتخب من الشعب سعيًا لإظهار نوع من الاتساق المعرفي مع الواقع الجديد.
إن التنافر المعرفي الذي ظهر لدى الشرع والتحول في توجهاته،
وانفصاله عن التنظيمات الجهادية، عكس حاجته للموازنة بين الأيديولوجيا والواقعية التي
تتطلب الحفاظ على السلطة وإدارة العلاقات مع جهات فاعلة أخرى.
تحديات واقعية محتملة
وبالرغم من أن المرونة التي أظهرها الشرع مؤخرًا قد تكون
مجرد تكتيك يسعى من خلاله إلى تقديم نفسه وتنظيمه كحزب مقبول لدى المجتمع الدولي والقوى
الإقليمية، وكسب ود المجتمع السوري المتنوع، لكن لا يمكن إغفال قدرته على تحقيق بعض
أهدافه المتمثلة في تحوله إلى شخصية محورية في الساحة السورية ومن المرجح أن يستمر
الشرع في موازنة معتقداته مع تحركاته البراجماتية ليضمن استمرار وجوده كفاعل مؤثر في
الساحة السورية.
لكن يظل هناك تحدٍ متمثل في أن جماعته لم تشهد نفس التحول،
فبينما أدرك الشرع أهمية التكيف مع الظروف الراهنة، وحيّد بعض أفكاره المتشددة لتحقيق
أهداف استراتيجية إلا أن جماعته بقيت على حالها دون إجراء أي مراجعات حقيقية للأفكار
التي تأسست عليها، ما يمثل تهديدًا محتملًا، حيث يمكن أن يؤدي الخلاف بين الشرع والفصائل
التي يقودها إلى استمرار زيادة الانقسامات وتعميق الخلافات، وقد يعزز تلك الخلافات
رغبة الشرع في تفكيك هيئة تحرير الشام، وهو ما أشار إليه في لقائه مع CNN الذي نُشر في الخامس من ديسمبر
2024، حيث صرح إنها ممكن أن تحل في أي وقت، لأنها ليست هدفًا، إنما وسيلة لتحقيق الهدف،
وهو ما سيزيد من تعقيد المشهد في الساحة السورية، وقد يفجر موجة جديدة من العنف في
ضوء احتماليه انتهاك الفصائل التي كانت تحت لواء الهيئة العمل المسلح من ناحية، أو
احتمالية عقدها تحالفات مع تنظيمات إرهابية من ناحية أخرى.
ختامًا، إن شخصية أحمد الشرع تمثل نموذجًا مثيرًا لفهم كيف
يمكن للأفراد أن يتأثروا بالبيئة المحيطة ويُعدلوا سلوكهم وأيديولوجياتهم استجابة للضغوط
والمواقف المتغيرة، لا سيما وأنه أظهر قدرة لافتة على التكيف مع الظروف المحيطة، من
خلال تعديل مواقفه لتلبية متطلبات المرحلة القادمة، مما سمح له بالحفاظ على مكانته
كفاعل مؤثر في المشهد السوري ومع ذلك يبقى التساؤل قائمًا حول مدى قدرته على الاستمرار
في تحقيق مكاسب من خلال آليات التكيف التي يتبعها الآن، خاصة مع التحديات التي قد يواجهها
نتاج صدامه المحتمل مع جماعته التي من المرجح أنها لم تغير أيديولوجيتها بعد.
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
الكاتب : ياسمين محمود
التاريخ : 28/12/2024
-----------------------------------------------------
المصدر: مجلة العربي الجديد
الكاتب : أسامة عثمان
التاريخ : 27/12/2024