تُشكل
التحولات الديموغرافية واحدة من التحديات الرئيسة للعديد من الدول في السنوات
الأخيرة. ففيما تشهد بعض الدول طفرة كبيرة في تعداد سكانها، تواجه دول أخرى تحديات
رئيسة متعلقة بتراجع السكان، وهو الأمر الذي ينعكس بالسلب على سياسات بعض الدول؛
إذ إنّ تراجع السكان يؤدي إلى فقدان العديد من الدول لمصادر قوتها على المستويين
العسكري وكذلك الاقتصادي، ولا سيما إذا كان لدى الدولة موارد ولكن لا تجد العنصر
البشري القادر على استغلال هذه الموارد الاستغلال الأمثل.
وفي
هذا السياق، نشر موقع "فورين أفيرز" مقالاً بعنوان "الانهيار
السكاني القادم في شرق آسيا.. كيف سيعيد تشكيل السياسة العالمية" لنيكولاس
إيبرستادت. ويشير المقال إلى أن الأعداد البشرية والإمكانيات التي يجسدونها ضرورية
لسلطة الدولة. فمع تساوي كل العوامل الأخرى، فإن البلدان التي بها عدد أكبر من
السكان لديها عدد أكبر من العمال، واقتصادات أكبر، ومجموعة أكبر من الجنود
المحتملين. وهو ما يمكن ملاحظته في تجربة دول شرق آسيا، وعلى رأسها الصين واليابان
وكوريا الجنوبية. لكن خلال السنوات والعقود القادمة، من المتوقع أن تشهد دول هذه
المنطقة انخفاضاً كبيراً في أعداد سكانها خاصة من فئة الشباب. ومن ثم من المرجح أن
تجد صعوبة أكبر في زيادة النمو الاقتصادي، وتراكم الاستثمارات، وبناء الثروة،
وأيضاً في تمويل شبكات الأمان الاجتماعي، وتعبئة قواتها المسلحة. كما سوف يواجهون
ضغوطاً متزايدة للتعامل مع التحديات الداخلية أو الداخلية. فعلى وجه الخصوص، سوف
تواجه الصين فجوة متنامية، وربما لا يمكن سدّها، بين طموحاتها وقدراتها؛ وهو ما
سيكون مكسباً استراتيجياً لواشنطن يجب أن تتعامل معه بذكاء.
نقطة
الانحراف
أفاد
المقال بأنه في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، ازدهر عدد سكان شرق آسيا.
ففي الفترة بين عامي 1950 1980، زاد العدد بنسبة 80%. وبحلول عام 2020، بلغ عدد سكان المنطقة ما يقرب من 5.2 ضعف ما كان عليه في عام 1950، حيث ارتفع عددهم من أقل من 700 مليون إلى ما يقرب من 7.1 مليار. لقد تجاوزت هذه القفزة السكانية
النمو الإجمالي الذي حققته الولايات المتحدة على مدى تلك الأجيال الثلاثة، وحدثت
بشكل أسرع. وقد كان ذلك جزءاً لا يتجزأ من الانطلاقة الاقتصادية الاستثنائية في
شرق آسيا. لكن يجادل المقال بأنه حتى مع ارتفاع عدد سكان شرق آسيا، فإن المؤشرات
القائمة تنذر بانحدار قادم، وذلك على النحو التالي:
1- انخفاض معدلات الخصوبة في دول المنطقة: يجادل
المقال بأنه حتى مع ارتفاع عدد سكان شرق آسيا، فإن المؤشرات كانت تنذر بانحدار
قادم. ففي اليابان في أوائل سبعينيات القرن العشرين، انخفضت الخصوبة إلى ما دون
مستوى الإحلال، والذي يُعرف عموماً بأنه 2.1 مولود لكل امرأة. وفي الثمانينيات، حدث الشيء نفسه في كوريا
الجنوبية وتايوان. وحذت الصين حذوها في أوائل التسعينيات.
ومنذ
ذلك الحين، انخفضت معدلات الخصوبة في المنطقة إلى ما دون مستوى الإحلال. فاعتباراً
من عام 2023، أصبحت اليابان الدولة الأكثر خصوبة في شرق
آسيا، على الرغم من أن مستويات الإنجاب لديها أقل بنسبة 40% من معدل الإحلال. كما أن مستويات الإنجاب في الصين أقل بنحو 50% من معدل الإحلال. ويشير المقال إلى أنه إذا استمر هذا الاتجاه،
فإن كل جيل صيني صاعد لن يتجاوز حجمه نصف الجيل الذي سبقه. وينطبق الشيء نفسه إلى
حد كبير على تايوان. أما في كوريا الجنوبية فقد كان مستوى المواليد في عام 2023 أقل بنسبة 65% من معدل الإحلال، وهو أدنى معدل على
الإطلاق بالنسبة لسكان البلاد في وقت السلم. وإذا لم يتغير هذا الوضع، ففي غضون
جيلين سيكون لدى كوريا الجنوبية 12 امرأة فقط في سن الإنجاب مقابل كل 100 امرأة في البلاد اليوم.
2- صعوبة التعافي من الانكماش السكاني بسبب
سياسات دول المنطقة: أفاد إيبرستادت بأن هذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها
منطقة شرق آسيا تراجعاً في سكانها. فوفقاً للسجلات التاريخية، شهدت الصين ما لا
يقل عن أربع عمليات نزوح طويلة الأمد للسكان على مدى الألفي سنة الماضية. وبعد عام
1200 بعد الميلاد، على سبيل المثال، تقلص عدد
سكان الصين بأكثر من النصف. وقد استغرقت البلاد ما يقرب من 350 عاماً للتعافي. كما عانت اليابان وكوريا أيضاً من انخفاض عدد
السكان على المدى الطويل قبل أن تبدأ في التحديث.
لكن
يرى المقال أن الانخفاض الوشيك للسكان يختلف عن كل ما سبقه. ففي الماضي، كانت
الانكماشات المطولة في شرق آسيا (وفي كل منطقة) نتيجة لكارثة مروعة، مثل: الحرب،
أو المجاعة، أو الأوبئة. أما اليوم، فيحدث التراجع في ظل ظروف التقدم المنظم،
وتحسن الأوضاع الصحية، وانتشار الرخاء. وبعبارة أخرى، فإن الانكماش القادم للسكان
هو أمر طوعي. ولا يحدث ذلك لأن الناس يموتون بشكل جماعي، بل لأنهم اختاروا إنجاب
عدد أقل من الأطفال. ولعل الصين تقدم المثال الأبرز على هذه الحقيقة. فقد علقت
البلاد سياسة الطفل الواحد القسرية في عام 2015، ولكن في السنوات التي تلت ذلك، انخفضت الولادات السنوية بأكثر من
النصف.
3- تأثير ضعف الهجرة لدول المنطقة على معدلات
النمو السكاني: بحسب المقال، تتناقض الأنماط الديموغرافية في شرق آسيا بشكل حاد مع
تلك الموجودة في الولايات المتحدة. فعلى عكس سكان شرق آسيا، لا يزال سكان الولايات
المتحدة يتمتعون بالنمو في كل من الأعداد الإجمالية والفئة من 15-64. ولا يزال عدد المواليد يفوق عدد الوفيات،
على الرغم من ارتفاع معدلات المرض مقارنة بالمجتمعات الغربية الغنية الأخرى. ورغم
أن معدلات المواليد في البلاد أقل من مستويات الإحلال، فإن الخصوبة في الولايات
المتحدة أعلى بنسبة 40% من معدلاتها في شرق آسيا. وتجتذب الولايات
المتحدة أيضاً أعداداً كبيرة من المهاجرين، مما يزيد من عدد سكانها، في حين أن
الهجرة لا تكاد تذكر في شرق آسيا.
4- انخفاض معدل الشباب وارتفاع الشيخوخة بحلول
2050: يشير المقال إلى أنه بحلول عام 2050، سيكون عدد السكان في كل دولة من دول شرق آسيا أصغر وأكبر مما هو
عليه الآن. فالصين في عام 2050، على سبيل المثال، سوف يكون عدد سكانها تحت
سن الستين أقل بكثير من عدد سكان الصين اليوم. ولكنها سوف تضم ضعفين ونصف ضعف عدد
الأشخاص الذين بلغوا السبعين من العمر، والثمانين.
ففي
عام 2050، من المرجح أن يكون عدد السكان في اليابان
أقل مما هو عليه اليوم في كل فئة عمرية أقل من 70 عاماً. وسيكون عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 75 عاماً في تايوان أكبر من عدد الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً. وفي كوريا الجنوبية، سيكون عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم
عن 80 عاماً أكبر من عدد الأشخاص الذين تقل
أعمارهم عن 20 عاماً.
5- انخفاض فئة العمالة في المنطقة: رغم نمو
فئة العمالة في شرق آسيا حتى عام 2050، فإن قوة العمالة في المنطقة تتقلص الآن.
فإذا صحت التوقعات، فإن عدد السكان في سن العمل في الصين سوف يكون أقل بنسبة تزيد
على 20% في عام 2050 عما كان عليه في عام 2020. وسوف يكون عدد السكان في سن العمل في
اليابان وتايوان أقل بنحو 30%، وفي كوريا الجنوبية سيكون أقل بنسبة أكثر
من 35%.
تداعيات
قائمة
يُشير
المقال إلى أن أزمة الانخفاض السكاني في دول شرق آسيا سيكون لها العديد من
التأثيرات من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية، وذلك على النحو التالي:
1- تراجع عدد المجندين المحتملين في الصين: بحسب
المقال، فقد ساعد الانفجار السكاني في شرق آسيا على إنتاج اقتصادات كبيرة وجيوش
قوية. أما اليوم فمن المتوقع أن يؤثر انخفاض عدد السكان على القوة البشرية للجيوش.
ففي الفترة بين عامي 1950 1990، ارتفع عدد الرجال في سن الخدمة العسكرية في
الصين (الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 23 عاماً) من 30 مليوناً إلى 80 مليوناً. ومنذ ذلك الحين، انخفض العدد إلى نحو 50 مليوناً، ومن المتوقع أن يعود إلى ما يقرب من 30 مليوناً بحلول عام 2050. وعندما تحتفل الصين بالذكرى المئوية
لانتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية في عام 2049، فلن يكون لديها سوى عدد أقل من المجندين المحتملين. وعلى النقيض
من ذلك، من المتوقع أن يكون لدى الولايات المتحدة عدد أكبر من الرجال في سن الخدمة
العسكرية في عام 2050 مقارنة بما كان عليه الحال في نهاية الحرب
الباردة. وبالعودة إلى عام 1990، كان عدد المجندين في الصين يعادل سبعة
أضعاف نظيره في الولايات المتحدة. وبحلول عام 2050، من المتوقع أن يكون حجمه ضعفين ونصف فقط.
2- إضعاف النفوذ العسكري الصيني: يعتقد
إيبرستادت أن هذه التحولات الديموغرافية من شأنها أن تحد من الخيارات المتاحة
للصين، التي سوف تضطر إلى إجراء مقايضات استراتيجية صعبة فيما يتعلق بقوتها
البشرية المهمة التي تتراوح أعمارها بين 18 إلى 23 عاماً، إذ سيتعين عليها الإجابة عن أسئلة
مثل: هل ينبغي عليهم الالتحاق بالجيش؟ وإذا ظلوا مدنيين، فهل يجب عليهم أن يحاولوا
الذهاب فوراً إلى العمل على حساب التدريب طويل الأمد؟ و"هذه ليست الحسابات
التي تريد القوة الصاعدة مواجهتها".
علاوةً
على ذلك، فإن الميزة العددية المتبقية للصين على الولايات المتحدة في القوى
العاملة في السن العسكري قد تكون أقل جدوى بسبب الضغوطات الديموغرافية الأخرى. إذ
سيكون لدى بكين أموال أقل لإنفاقها على القوات المسلحة إذا أنفقت المزيد على رعاية
المسنين. وعلى نحو مماثل، إذا كان لدى الصين عدد قليل من الشباب مقارنة بعدد
سكانها من كبار السن، فقد يصبح المجتمع والدولة أكثر حساسية تجاه الضحايا،
وبالتالي أكثر نفوراً من المخاطرة عسكرياً.
ومع
ذلك، يؤكد المقال أن الصين سوف تظل دولة ضخمة تتمتع باقتصاد ضخم وقوة عسكرية ضخمة،
ولا يسعها إلا أن تظل قوة هائلة. والواقع أنه سيكون من الصعب على الصين أن تخرج من
المركز الثاني. وقد تكون الحكومة الصينية أيضاً قادرة على التعويض عن بعض التركيبة
السكانية العسكرية غير المواتية بالتكنولوجيا، مثل الذكاء الاصطناعي. ولكن في
الأزمات العسكرية الحقيقية، لا يوجد عادة بديل حقيقي للقوى البشرية. وبالتالي، فإن
نشر وتمويل قوة عسكرية تنافسية على وشك أن يصبح أكثر صعوبة بالنسبة لبكين مقارنة
بواشنطن، بغض النظر تقريباً عما تقرره الحكومة الصينية.
3- تناقص الإسهامات الأمنية لحلفاء واشنطن في
شرق آسيا: لن يعتبر الانهيار السكاني في شرق آسيا بمثابة فوز شامل لواشنطن، بحسب
المقال. فالبلدان الأخرى في المنطقة، على كل حال، تتقلص هي الأخرى، بما في ذلك
الدول التي تقدم مساعدة كبيرة لواشنطن. ومع تزايد الأزمة الديموغرافية في اليابان
وكوريا الجنوبية، فقد لا تعود هذه الدول قادرة (أو راغبة) في تقديم نفس المساهمات
للأمن الإقليمي.
فبحلول
عام 2020، كان عدد الرجال في سن الخدمة العسكرية في
اليابان أقل من ثلث عدد الرجال في سن الخدمة العسكرية في الولايات المتحدة. وبحلول
عام 2050، قد لا يكون لديها سوى الخمس. وبالنسبة
لسيول، فلم يكن عدد السكان في سن التجنيد فيها كبيراً مثل نظيره في طوكيو، لكن
مجموع التجنيد لديها، الذي كان يعادل في السابق 25% من عدد الولايات المتحدة، كان كبيراً بما يكفي لمساعدة الولايات
المتحدة في شبه الجزيرة الكورية وفي التخطيط الأوسع لدفاع شمال شرق آسيا. ولكن بحلول
عام 2050، سيكون حجم التجنيد في كوريا الجنوبية أقل
من 10% من نظيره في الولايات المتحدة.
وبالتالي،
بفضل الانخفاض السكاني، سيكون من الصعب على اليابان وكوريا الجنوبية المساهمة في
شراكاتهما الأمنية الرسمية مع واشنطن، مما ينقل المزيد من العبء إلى الولايات المتحدة.
ولذلك، يشدد المقال على أنه يجب على المسؤولين الأمريكيين أن ينتبهوا إلى
الاتجاهات الديموغرافية التي تواجه شرق آسيا على مدى العقود العديدة المقبلة، وأن
يعملوا بشكل استباقي مع الشركاء الإقليميين لمعالجة الأعباء الدفاعية التي
تنتظرهم.
4- تأثر النمو الاقتصادي سلباً بالتحول
الديموغرافي في دول المنطقة: يتوقع المقال أن هذا التحول الديموغرافي في شرق آسيا
سيكلف هذه البلدان أكثر من مجرد شبابها. إذ إنه يهدد بتجريدهم من الحيوية
الاقتصادية. حيث إنه كقاعدة عامة، تميل المجتمعات التي لديها عدد أقل من السكان
إلى أن تكون اقتصاداتها أصغر، وكذلك المجتمعات حيث يشكل كبار السن نسبة غير
متناسبة من السكان. إذ يعمل كبار السن أقل من الشباب ومن هم في منتصف العمر.
5-
انخفاض الإنتاجية الفردية والمدخرات والاستثمارات: من الناحية النظرية، تستطيع
منطقة شرق آسيا أن تتغلب على المعضلة الديموغرافية من خلال تحفيز إنتاجية العمل.
ولكن لا توجد آلية سياسية سهلة تستطيع هذه الدول من خلالها تسريع كفاءة العمال،
كما أن انخفاض عدد السكان في شرق آسيا من شأنه أن يزيد من صعوبة قيام العمال
بزيادة نصيب الفرد في الناتج القومي. ومن المرجح أيضاً أن يؤدي هذا التحول في
السكان إلى انخفاض الإنتاجية الفردية والمدخرات والاستثمارات، حيث يخصص العمال
وأولياء أمورهم المزيد من الوقت والمال لرعاية المسنين.
6- زيادة الإنفاق الحكومي على الرعاية
الاجتماعية: يتوقع المقال أن انخفاض فئة الشباب سيكلف الحكومات أيضاً، إذ سيتعين
عليها أن تتوصل إلى كيفية زيادة الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، وخاصة على معاشات
التقاعد والرعاية الصحية، حتى مع توقف النمو الاقتصادي.
وختاماً،
يُشير المقال إلى أن التحولات الديموغرافية التي تشهدها منطقة شرق آسيا تحمل بعض
التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية على مستوى التفاعلات العالمية، إذ أن تراجع عدد
السكان في هذه الدول سيكون له تداعيات اقتصادية في ظل إعادة هذه الدول تخطيط
سياسات الانفاق الخاصة بها، واحتمالية التأثير على الاستثمارات بها. وعلى المستوى
السياسي سيكون للتحولات الديموغرافية أيضاً تأثير على مكانة بعض القوى الدولية،
وخاصة الصين التي تخوض صراع كبير مع الولايات المتحدة، وهو الصراع الذي يستدعي
العامل الديموغرافي كمحدد جوهري في المكانة والنفوذ الدولي.
المراجع
:
نيكولاس
إيبرستادت،13.5.2024. كيف سيعيد
التراجع السكاني في شرق آسيا تشكيل السياسة العالمية؟،انترريجونال للتحلايلات
الاستراتيجية
زينب
مكي ،8.5.2024 ، "الانهيار السكاني" في شرق آسيا
يعيد تشكيل السياسة العالمية،جسور بوست