شهد
منطقة الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا تحولات مستمرة في علاقة دولها مع فرنسا؛ حيث
أعلنت السنغال، على لسان رئيسها الجديد باسيرو ديوماي فاي، في 28 نوفمبر 2024، أن فرنسا ستضطر إلى إغلاق قواعدها العسكرية
في السنغال، وأكد فاي أن وجودها يتعارض مع سيادة بلاده، ثم ما لبثت تشاد أن أعلنت،
بعد ساعات قليلة، أنها أنهت اتفاقياتها الأمنية والدفاعية مع باريس، وأعلن وزير
الخارجية التشادي عبد الرحمن كلام الله أن "حكومة جمهورية تشاد تُبلِّغ الرأي
العام الوطني والدولي بقرارها إنهاء اتفاقية التعاون الدفاعي المُوقَّعة مع
الجمهورية الفرنسية"، وقال إن "فرنسا شريك أساسي، ولكن يجب عليها الآن
أن تأخذ بعين الاعتبار أن تشاد قد نمت ونضجت، وأن تشاد دولة ذات سيادة وتشعر
بالغيرة الشديدة على سيادتها".
دوافع
عديدة
يمكن
تفسير هذه الخطوة التي أقدمت عليها السنغال وتشاد في ضوء العديد من الدوافع التي
يتمثل أبرزها في:
1–
إخفاق باريس في ترميم علاقاتها مع دول الساحل وغرب أفريقيا: رغم إعلان فرنسا عن
انسحابها من العديد من دول الساحل، مثل مالي وبوركينافاسو والنيجر، وتبنِّيها
استراتيجية جديدة لتقليص وجودها العسكري وتغيير نهجها في أفريقيا، يبدو أنها قد
أخفقت في ترميم علاقاتها مع دول الساحل وغرب أفريقيا؛ فقد تدهورت علاقات تشاد مع
فرنسا بسرعة بعد أن أصبح محمد ديبي رئيساً انتقالياً للبلاد في أبريل 2021، على رأس مجلس عسكري مكون من 15 جنرالاً. وبينما سعت فرنسا إلى إجراء انتخابات سريعة، أصر محمد
ديبي على فترة انتقالية مدتها 18 شهراً امتدت في النهاية إلى ثلاث سنوات.
ووصل التوتر إلى مرحلة غير مسبوقة بعد اتهام الجنرال التشادي أحمد كوجري المقرب من
فرنسا (المعروف أيضاً باسم سيرج بينولت)، مديرَ وكالة الأمن الداخلي في تشاد بلعب
دور قيادي في قمع تظاهرات عام 2022. وكانت الإطاحة بكوجري هي الخطوة التي تم
تفسيرها على أنها جزء من الانفصال عن النفوذ الفرنسي.
2–
توجه القادة الجدد لتعزيز العلاقات مع موسكو: ساعد صعود جيل من القادة الجدد في
منطقة الساحل وتشاد والسنغال على توجه دول المنطقة لتعزيز التقارب مع روسيا. وإذا
كانت اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا قد اقتربت من نهايتها، فإن الوضع ليس هو
نفسه بين تشاد وروسيا. وفي الأشهر الأخيرة، ارتفع مستوى العلاقات بين البلدين؛ فقد
ذهب محمد إدريس ديبي إلى موسكو في يناير 2024؛ حيث التقى فلاديمير بوتين، وصرح ديبي: "هذه زيارة تاريخية.
تحافظ تشاد وروسيا على علاقات طويلة الأمد. نأمل أن تسمح لنا هذه الزيارة بتعزيز
علاقاتنا الثنائية". أما السنغال، التي تربطها علاقات قوية بالدول الغربية،
فقد فاجأت المجتمع الدولي في 2 مارس 2024 بامتناعها عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قرار
"يطالب روسيا بوقف استخدام القوة ضد أوكرانيا على الفور"، فيما عدَّه
كثير من المراقبين بمنزلة اصطفاف مع موسكو.
3–
توجيه رسائل لإدارة دونالد ترامب: يُشير مراقبون إلى أن إعلان تشاد والسنغال إنهاء
الوجود العسكري الفرنسي في هذا التوقيت يتزامن مع فوز الرئيس الأمريكي السابق
دونالد ترامب بولاية جديدة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أجريت في 5
نوفمبر 2024، وهو ما قد يُشير إلى رغبة البلدَين في
توجيه رسالة تحذير إلى إدارة ترامب التي تستعد لتولي السلطة في يناير 2025، وخاصةً في ظل غموض موقف وتوجهات هذه الإدارة تجاه مكافحة الإرهاب
في المنطقة، بينما تواجه تشاد تهديدات مستمرة من جانب تنظيمَي "داعش"
و"القاعدة". ويبدو أن القادة الجدد لا يعولون على موقف أمريكي داعم
لجهود مكافحة الإرهاب خلال إدارة ترامب أو أي تغيير في السياسة الأمريكية خلال
إدارة "جو بايدن"؛ حيث طالبت تشاد بانسحاب القوات الأمريكية من أراضيها.
4–
تعزيز الشرعية السياسية في الداخل: أكد العديد من القادة الأفارقة أهمية الحفاظ
على استقلال وسيادة بلدانهم، وكان ذلك تفاعلاً مع تزايد حالة السخط الشعبي تجاه
الوجود الفرنسي، ومحاولة في الوقت نفسه لتعزيز الشرعية السياسية في الداخل. وقد
شهدت تشاد تظاهرات واحتجاجات متكررة تطالب بخروج القوات الفرنسية، وأكد الرئيس
السنغالي "باسيرو فاي" أن الوجود العسكري الفرنسي يتعارض مع سيادة
السنغال.
وانتُخب
"فاي" في مارس 2024 على أساس برنامج يقوم على تعزيز السيادة
الوطنية، وقال إن السنغال قادرة على الحفاظ على الشراكات دون وجود قوات عسكرية
أجنبية على أراضيها، مستشهداً بالصين مثالاً على شريك تجاري رئيسي دون وجود عسكري
في البلاد. وأضاف "فاي" خلال لقاء صحفي في القصر الرئاسي: "السنغال
بلد مستقل، وهي دولة ذات سيادة، والسيادة لا تقبل وجود قواعد عسكرية في دولة ذات
سيادة".
تداعيات
محتملة
من
المتوقع أن يكون لإعلان تشاد والسنغال عن إنهاء الوجود العسكري الفرنسي على
أراضيهما تداعياته على سياسات القوى الدولية والإقليمية تجاه المنطقة؛ وذلك على
النحو التالي:
1–
تسريع وتيرة الانسحاب الفرنسي من غرب أفريقيا: يشير مراقبون إلى أن باريس تنوي
بالفعل تقليص وجودها العسكري في تشاد، وقد سلَّم المبعوث الفرنسي للرئيس
"إيمانويل ماكرون" خلال الأسبوع الأخير من نوفمبر 2024 تقريراً يتضمن مقترحات حول كيفية تقليص فرنسا وجودها العسكري في
تشاد والجابون وساحل العاج، ولكنها سوف تكون مضطرة الآن إلى التفاوض على جدول زمني
لسحب قواتها على مدار فترة زمنية محددة.
2–
إعادة صياغة السياسة الأمريكية بالمنطقة: لا يستبعِد مراقبون أن تطالب الحكومة
التشادية إدارة ترامب الجديدة بسحب القوات الأمريكية، وقبل ذلك سحبت واشنطن قواتها
من النيجر بعدما طلب المجلس العسكري في النيجر منها المغادرة. وخلال الحملة
الانتخابية، طالب الرئيس ديبي قوات العمليات الخاصة الأمريكية في البلاد بمغادرة
قاعدة عسكرية في العاصمة، وهو الأمر الذي سوف يدفع واشنطن نحو إعادة صياغة
علاقاتها؛ ليس فقط مع تشاد، بل مع دول المنطقة، وخاصةً مع انضمام العديد من
الشخصيات المعارِضة لسياسة روسيا والصين إلى إدارة ترامب، ومنهم وزير الخارجية
ماركو روبيو، ولكن الطريقة الدقيقة التي ستتعامل بها إدارة ترامب مع المجالس
العسكرية لا تزال غير واضحة، وربما تكون عبر تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية، لكن
علاقة هذه الدول مع روسيا قد تفرض على الولايات المتحدة الأمريكية فرض شروط لتقديم
هذه المساعدات، وهو ما قد يدفع هذه الدول أكثر نحو الاصطفاف مع روسيا.
3–
التنافس بين الشركات العسكرية الروسية والأمريكية: لا يمكن استبعاد اتجاه الولايات
المتحدة إلى الاعتماد على دور الشركات العسكرية مثل "بلاك ووتر" لمنافسة
مجموعة "فاجنر" العسكرية الروسية، كما قد تتجه إدارة ترامب إلى منح هذه
الشركات الحق القانوني في القيام بأدوار أمنية في الخارج، خاصةً أن ترامب لديه
علاقات وثيقة مع الرئيس التنفيذي السابق لشركة "بلاك ووتر" إريك برنس.
ويمكن لهذه الاستراتيجية أن تحقق أهدافاً سياسية لواشنطن، منها مكافحة الإرهاب
والمنافسة مع القوى الدولية.
4–
ظهور اتجاهات معارضة داخل الجيوش في منطقة الساحل: لا تزال فرنسا تتمتع بنفوذ
سياسي وتأييد من جانب بعض الجنرالات داخل الجيوش في دول المنطقة، ومنها الجيش
التشادي، وهو ما يمكن أن يجعل مستقبل النظام الحاكم للرئيس محمد ديبي مهدداً بظهور
انشقاقات أو محاولات للانقلاب على حكمه، وخاصة مع توجه ديبي لتعزيز التقارب مع
موسكو؛ فعلى النقيض من نظرائهم في بلدان أخرى في منطقة الساحل، لم يُظهِر القادة
العسكريون التشاديون تأييداً علنياً لدعم العلاقات مع روسيا.
تحالف
جديد
إجمالاً،
يمكن القول إن إعلان تشاد والسنغال إنهاء الوجود العسكري الفرنسي على أراضيهما
ربما يعزز علاقاتهما مع دول الساحل (النيجر وبوركينافاسو ومالي) التي قطعت
علاقاتها مع فرنسا؛ حيث أجرت القوات التشادية تدريبات مشتركة مع قوات هذه الدول في
مايو 2024. ومن ثم، فإن من المتوقع أن يظهر تحالف
إقليمي جديد يضم النيجر وبوركينافاسو ومالي وتشاد والسنغال وربما يضم دولاً أخرى.
وسوف يعزز هذا من قدرة روسيا على توسيع نطاق حضورها في المنطقة، ولكن سيظل التنافس
بين روسيا وفرنسا من أهم تحديات الاستقرار في هذه الدول، وسوف تكون له تداعياته
على التعاون الإقليمي من خلال الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)
وترتيبات الأمن الجماعي في المنطقة، وربما يؤدي هذا التنافس الدولي إلى زيادة
الاستقطابات والانقسامات، بما يدفع دولاً جديدة للانسحاب من إيكواس، وقد يؤدي إلى
تهديد استقرار المؤسسات العسكرية والجيوش في المنطقة، ومن ثم استقرار بعض نظم
الحكم مثل النظام التشادي.
المراجع:
حمدي
بشير ،4.12.2024، ما مآلات إعلان تشاد والسنغال إنهاء الوجود
الفرنسي على أراضيهما؟،انترريجونال.
محمد
ولد شينا ،3.1.2025، ماذا وراء
إعلان تشاد والسنغال إنهاء الوجود الفرنسي، عربي.