اتساعُ هُوَّةِ الخلاف بين رواندا والكونغو الديمقراطية بداية حرب شاملة
فرع القاهرة

 

تشهد شرق الكونغو، مدينة جوما بإقليم كيفو على وجْه التحديد، حالةً من الصراع، ازدادت حِدَّتُه بعد تقدُّم حركة 23 مارس، المدعومة من رواندا؛ ما أعقبه من تظاهرات واحتجاجات اندلعت 28 يناير 2025؛ حيث قام المتظاهرون بإحراق العلم الأمريكي وإضرام النيران في السفارات الأجنبية، وسط إدانات دولية وإقليمية بخطورة هذه التحرُّكات التي يمكن أن تُدخل البلاد في دوَّامة الفوضى وتعريضها لخطر الحرب، وقد تمخَّضَ عن حالة الشغب هذه وقوع جرحى وقتلى، كان من بينها مقتل 4 من جنوب أفريقيا ضمن قوات حفظ السلام

أسباب الصراع في شرق الكونغو

تعيش منطقة شرق الكونغو الديمقراطية على صفيحٍ ساخنٍ؛ حيث تشهد حالةً من الصراع المستمر منذ عقود، تحوَّلت خلاله لساحة حرب انخرطت فيها مجموعات كبيرة من الفصائل المسلحة؛ ليندرج كأخطر النزاعات دموية منذ الحرب العالمية الثانية، وتُعدُّ منطقة كيفو الشمالية والجنوبية شرق البلاد بُؤْرة هذا الصراع؛ نظرًا لتعدُّد الأهداف السياسية والاقتصادية والعِرْقِيَّة العابرة للحدود، وتنافس بعض القوى المجاورة لجمهورية الكونغو، والسعي لاستغلال الموارد الطبيعية والثروات الهائلة التي تذْخَرُ بها المنطقة؛ ما أدَّى إلى تعقيد المشهد، أيضًا شكل التقارب الجغرافي بين كل من الكونغو ورواندا وبوروندي وأوغندا، مع التداخل الإثْني والعِرْقِيّ مع دول الجوار إلى جعل المنطقة ملجأً لموجات لجوء ونزوح ناتجة عن الاضطرابات السياسية والأمنية المستمرة؛ ذلك الأمر جلب معه ميليشيات مسلحة استفادت من الهشاشة الأمنية لكينشاسا كما أن حالة التنافس الجيوسياسي بين أوغندا ورواندا؛ جعل شرق الكونغو ساحةً لحروب الوكالة بين الطرفين؛ ليس ذلك فحسب، بل يعمل كُلُّ طرفٍ على استقطاب وتوظيف جماعات مسلحة معارضة للجانب الآخر.

وتصاعد القتال مجدَّدًا مرة أخرى خلال الفترة الأخيرة، وازدادت حِدَّتُه في أواخر يناير 2025، بعد هجومٍ شنَّتْهُ حركة 23 مارس المتمردة، والمدعومة من قِبَلِ رواندا على مدينة جوما شمال إقليم كيفو أكبر مدينة في شرق البلاد، وآخر معاقل الحكومة في تلك المنطقة المتاخمة للحدود مع رواندا، وبدأت الأوضاع تزداد من سيِّءٍ لأسوأ، مع استيلاء متمردي إم 23 على الأراضي بشكلٍ مُوسَّعٍ، وصولًا إلى السيطرة على جوما

حركة إم 23

تشير هذه الحركة إلى اتفاق 23 مارس 2009، الذي بموجبه أُنهي تمرُّدٌ حدث من قِبَلِ جماعة التوتسي الذين حملوا السلاح ضد القوات الكونغولية، وضد أقلية الهوتو، التي كانت سببًا في الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا؛ لهذا فالأخيرة تدعم متمردي مارس 23، التي تقاتل الهوتو شرق الكونغو؛ بحجة الدفاع عن مصالحها والتصدِّي لجماعة مسلحة تسمى القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، التي تتألف في المقام الأول من مسلحين من الهوتو، تشكَّلت أعقاب الإبادة الجماعية، ولكن في الواقع هي تتخذ ذلك ذريعةً للحصول على نفوذ سياسي واقتصادي شرق الكونغو، وكذا تمَّ إنشاء المجموعة فعليًّا عام 2012، بعدما فشل دمْج التوتسي الذين انفصلوا عن الجيش الكونغولي، كما أنها تُعدُّ واحدةً من بين 100 جماعة مسلحة تتنافس من أجل ترسيخ موطئ قدمٍ لها في هذه المنطقة الغنية بالثروات والمعادن، والتي تشمل الذهب والكولتان والنحاس والكوبالت، وغيرهم.

ملامح المشهد الحالي للصراع

- سيطرة حركة 23 مارس على مدينة جوما: في السابع والعشرين من شهر يناير 2025، قام متمردو إم 23 بالزحف نحو مدينة جوما، الواقعة على مسافة نحو 1500 كيلو مترًا شرق العاصمة كينشاسا، في أكبر تصعيد منذ عام 2012؛ ما أدَّى إلى فرار أكثر من ثلث سكان المدينة، البالغ عددهم مليوني نسمة وتشريدهم أيضًا وقع حريق في سجن مونزينزي بالمدينة؛ ما تسبَّب في هروب  آلاف السجناء، الذين قُدِّروا بما يزيد عن ألفي سجين، وقد كان تقدُّم المتمردين نحو جوما بعد مهلة 48 ساعة فرضوها على الجيش الكونغولي للاستسلام وتسليم أسلحته، في حين أعدَّه الأخير بمثابة إعلان حرب.

- قطْع العلاقات الدبلوماسية مع رواندا: أقدمت حكومة كينشاسا على قطْع العلاقات الدبلوماسية مع رواندا وبعثت وزارة خارجية الكونغو برسالة إلى السفارة الرواندية تفيد باستدعاء دبلوماسييها في كيجالي وطالبت سلطات البلاد، بإنهاء كافَّة الأنشطة الدبلوماسية والقنصلية في العاصمة الكونغولية، خلال 48 ساعة، وتشير هذه التطورات إلى وصول العلاقات بين البلدين إلى نفقٍ مظلمٍ قد تكون نهايته اندلاع حرب إقليمية.

- مقتل قوات من حفظ السلام: أعلن جيش جنوب أفريقيا، 28 يناير،عن مقتل أربعة من جنوده المشاركين في قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية؛ ليرتفع عدد قتلى القوة الإقليمية لجنوب أفريقيا (SAMIDRC) وبعثة الأمم المتحدة (مونوسكو) إلى 17 شخصًا، لقوا حتفهم جرَّاء الاشتباكات الأخيرة بين جيش الكونغو وحركة 23 مارس.

- استهداف السفارات : قام العديد من المتظاهرين بالهجوم على عدة سفارات أجنبية بالعاصمة كينشاسا من بينها سفارة رواندا وبلجيكا وأمريكا وفرنسا؛ حيث أدَّت هجمات المتظاهرين على السفارة الفرنسية إلى اندلاع حريق في المبنى كما أنهم هتفوا ضد رواندا وأحرقوا الإطارات؛ احتجاجاً على زحْف متمردي إم 23 نحو مدينة جوما، وقامت الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع لفض هذه الاشتباكات، التي نجم عنها مقتل 17 شخصًا على الأقل وأُصيب 367 آخرون.

مواقف القوى الدولية والإقليمية

عقد مجلس الأمن الدولي اجتماعًا طارئًا، بشأن الوضع في الكونغو الديمقراطية، مساء الأحد 26 يناير، ندّد فيه بالتعدِّي على سيادة الدولة ووحدة أراضيها؛ مطالبًا بانسحاب القوات الخارجية من دون تحديد هويتها لكن مع الإشارة إلى تقرير لخبراء أمميِّين كشف عن وجود قوّات رواندية.

ندَّد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بأعمال العنف في مدينة جوما، وذلك في اتصال هاتفي مع رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي، الاثنين 27 يناير، وقالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية تامي بروس: إن روبيو أكَّد على احترام الولايات المتحدة لسيادة جمهورية الكونغو؛ مضيفةً أن روبيو وتشيسكيدي اتفقا على أهمية تعزيز الجهود الرامية لاستئناف المحادثات بين الكونغو ورواندا في أقرب وقتٍ ممكنٍ.

دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كلا الطرفين عبْر مكالمات هاتفية إلى التوصُّل لحلٍّ، وسحب رواندا جنودها من شرق الكونغو، وكذلك التوقُّف عن دعم حركة 23 مارس، كما أوضح السفير الفرنسي نيكولا دي ريفيير، إلى أنه يعمل على إصدار إعلان للمجلس “يسمي الأشياء بمسمياتها”، في إشارة إلى رواندا

أعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه العميق إزاء التصعيد الدراماتيكي للصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، والذي تفاقم بسبب تجدُّد هجوم حركة 23 مارس، واعتبر التهديد الذي أطلقته هذه الحركة بالاستيلاء على جوما، غير مقبولٍ؛ مشيرًا إلى عواقب إنسانية وأمنية كبيرة، وحثّ إم 23 على وقف هجومها على الفور والانسحاب من المناطق المحتلة، كما طالب رواندا، بإنهاء دعمها للجماعة المتمردة وسحْب قواتها من جمهورية الكونغو الديمقراطية، مؤكدًا أن هذا الوجود العسكري يشكل انتهاكًا للقانون الدولي والسيادة الكونغولية.

ندَّد الاتحاد الأفريقي، 28 يناير، بالعنف في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، ودعا مجموعة إم 23 المسلحة إلى نزْع السلاح، في وقتٍ أعلنت المجموعة سيطرتها على مطار جوما شرق البلاد، كما أدان مفوض الاتحاد الإفريقي للشؤون السياسية والسلام والأمن بانكولي أديويي العنف الذي تمارسه حركة 23 ودعا إلى الاحترام الكامل لسيادة جمهورية الكونغو الديمقراطية ووحدتها وسلامة أراضيها.

أعربت مصر، في بيان صادر عن وزارة الخارجية 28 يناير الحالي عن أسفها لسقوط عدد من الضحايا والمصابين بين أعضاء بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتقدمت بخالص التعازي والمواساة إلى أُسُر الضحايا ولحكومتي جنوب أفريقيا وأوروجواي، وأكَّدت على ضرورة احترام سيادة الكونغو والالتزام باتفاقيات وقف إطلاق النار؛ مشددةً على أهمية احتواء التصعيد والوقف الفوري لجميع الأعمال العدائية، وجدَّدت دعمها الكامل لجهود الاتحاد الأفريقي والأطراف الإقليمية الهادفة إلى نزع فتيل الأزمة، أيضًا شدَّدت على أن سفارة جمهورية مصر العربية في العاصمة كينشاسا تتابع أوضاع المواطنين المصريين في مدينة جوما، وتستمر في التواصل مع أفراد الجالية للاطمئنان عليهم وتحثُّ المواطنين على تجنُّب الاقتراب من مناطق التوترات وتوخِّي أقصى درجات الحذر للحفاظ على أمنهم وسلامتهم.

التداعيات والسيناريوهات المحتملة للصراع

أدَّى الصراع المشتعل شرق الكونغو إلى تشريد وفرار مئات الآلاف من السكان، ناهيك عن الجرحى والقتلى والجثث التي تملأ الشوارع، كأفظع أزمة إنسانية تمُرُّ بها البلاد على مدار أزمنة بعيدة؛ حيث أفادت تقارير بأن المستشفيات مُكْتَظَّةٌ تمامًا بالمصابين، وفْق ما صرَّحت به منظمة الصحة العالمية، التي تمكَّنت من نقل إمدادات طبية جوًّا قبْل قيام المتمردين بإغلاق مطار جوما، على الجانب الآخر، هناك حالات اغتصاب وانقطاع لخدمات الإنترنت، مع تعثُّر الوصول للمياه وإمدادات الطاقة، كما تمَّ الاستيلاء على مستودعات برنامج الأغذية العالمي.

أيضًا من بين التداعيات الكارثية التي يمكن أن تحدث جرَّاء حالة العنف هذه، هو انتشار بعض الفيروسات من بينها فيروس الإيبولا من مختبر جوما؛ نتيجة القتال، وقد حذَّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من خطر تسرُّب العيِّنات، التي يمكن أن تتضرر على خلفية الاشتباكات؛ لكونها قد تتسبب في عواقب وخيمة حال انتشار السلالات البكتريولوجية التي تؤويها، بما فيها إيبولا.

إن ما آلت إليه العلاقات “الكونغولية – الرواندية” وطبيعة الصراع الذي يشهده شمال الكونغو، يُوحي بتعقُّد المشهد، ومن ثمَّ طرْح بعض السيناريوهات المحتمل حدوثها خلال الفترة المقبلة:

- السيناريو الأول: تصعيدٌ عسكريٌّ ومناوشات من حين لآخر: قد يرى بعض المراقبون، أن الأوضاع الحالية في الكونغو تُنذر بحرب إقليمية شاملة، لا سيما في ظلِّ التصعيد وحالة الهيجان التي يعيشها الوسط السياسي والأمني في البلاد، ولكن خيار الحرب ليس باليسير لا على كينشاسا ولا كيجالي، ومحيطهما الإقليمي الذي يعاني تَبِعَات حروب وصراعات أخرى أيضًا، ومن ثمَّ قد يبقى الوضع كما هو عليه توترات ومناوشات من حين لآخر وحروب بالوكالة يتمُّ فيها استخدام جماعات متمردة، خاصَّةً إذا لم يتم كبْح جماح حركة 23، ووضْع قيود عليها ومنْع رواندا من دعمها، فضلاً عن احتمالية تعثر المبادرات السلمية الهادفة للحلِّ ووقْف الإجراءات التصعيدية بين الطرفين، وهذا السيناريو مرجحٌ بشكلٍ كبيرٍ، ولكن حال تطوَّرَ الأمر أكثر من ذلك، ربما تصل إلى حدِّ الحرب.

- السيناريو الثاني: حرب شاملة: قد تتطور الأوضاع الميدانية وتتصاعد حِدَّة الصراع، خاصَّةً إذا تورطت أطرافٌ أُخرى في المشهد، مثل أوغندا وبوروندي، وفي حال فشل الجهود الدولية والإقليمية الرامية لحلحة هذه الأزمة، مع استمرار رواندا في استفزازاتها المتكررة للحكومة الكونغولية؛ قد تنفجر شرارة حرب إقليمية شاملة، ويُغذِّي هذه الرُّؤْية قضية  النزاعات التاريخية التي لم يهدأ لهيبها منذ القِدَم، ناهيك عن الاختلافات السياسية والانقسامات العِرْقِيَّة، مع التنافس على الموارد الطبيعية الهائلة التي تحويها تلك المنطقة.

- السيناريو الثالث تصفية الخلافات: من المتعارف عليه أن تكلفة أيّ صراع تُرهق الدولة ليس اقتصاديًّا فحسب، بل هو سياسيٌّ أيضًا، وبالتالي خيار الحرب أو إطالة أَمَدِ الصراع لن يكون مُجْدِيًا، وهذا السيناريو يستمدُّ رؤيته من الدعوات الدولية وجهود الوسطاء؛ لوقْف هذه الأزمة والعودة لمربع الاستقرار، ووضْع حقوق المدنيِّين في العيش بأمان وسلامٍ في الحُسْبَان، مع مراعاة دول الجوار ومنْع تصدير صراع جديد إليهم، في ظلِّ منطقة مشحونة ومضطربة بطبيعة الحال، ذلك المسار احتمال تحقُّقه ضعيف نسبيًّا، إلا إذا تمَّ التوصل لحلٍّ وسطٍ بين الطرفين لإنهاء هذه المعاناة.

ختامًا: تعكس حالة الصراع الدائر في شرق الكونغو مدى المأساة التي يعيشها سكان هذه المنطقة منذ عقود، ومع استمرار الاشتباكات وتصاعُد وتيرة العنف، مع غياب الأطر الدبلوماسية الفعَّالة، سيبقى المدنيون الأكثر تضرُّرًا في ضوء أزمة إنسانية تتفاقم يومًا تِلْوَ الآخر، يُغذِّيها تقاطع المصالح السياسية والاقتصادية والعِرْقِيَّة، وسط جهود دولية عاجزة عن وقْف هذه الكارثة، وتُثَارُ التخوُّفات من احتمالية اندلاع حربٍ شاملةٍ، وتحوُّل الكونغو إلى حروب بالوكالة بين الأطراف المختلفة، يتخللها تنامي أذرع التنظيمات المسلحة ومن ثمَّ تصدير حالة الانفلات الأمني هذه إلى باقي دول المنطقة؛ لذا فلا بُدَّ من إيجاد حلٍّ شاملٍّ وعاجلٍ يضع حدًّا لهذه المُعْضِلة.

 

 

المصدر: مركز شاف للدراسات المستقبلية وتحليل الأزمات والصراعات (الشرق الأوسط وأفريقيا)

الكاتب : دينا لملوم

التاريخ : 31/1/2025

-------------------------------------------------

المصدر: العين الإخبارية

التاريخ : 26/1/2025

المقالات الأخيرة