الإستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط
فرع بنغازي


تمتاز منطقة الشرق الأوسط بمكانة كبيرة الأهمية في حسابات الكثير من دول العالم وتأتي في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، كون هذه المنطقة من أكثر المناطق التي تتركز فيها المصالح الأمريكية الحيوية التي لا يمكن الاستغناء عنها بل أن الولايات المتحدة الأمريكية على أتم الاستعداد لاستخدام قوتها العسكرية في حال تعرض أي من مصالحها في الشرق الأوسط للتهديد.

ولا شك أن الإستراتيجية تجاه الشرق الأوسط لم تكن وليدة أحداث 11 سبتمبر 2001 م بل إن الولايات المتحدة الأمريكية لها إستراتيجية محكمة اتجاه المنطقة تبلورت بصورة واضحة منذ بدأ مرحلة الحرب الباردة والى يومنا هذا ولكن شكلت أحداث 11 سبتمبر علامة، على الساحة العالمية وفي حقل العلاقات الدولية بالذات، دفعت بالولايات المتحدة الأمريكية إلى الإعلان عن إستراتيجية جديدة قوامها ما يسمى (بالحرب على الإرهاب).

وبالرغم من ارتكاز الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط على مجموعة من الثوابت تتمثل بالتحكم بالنفط والسيطرة عليه والحفاظ على أمن الكيان الصهيوني وحماية المصالح الأمريكية الأخرى، إلا أن عالم ما بعد 11 سبتمبر قد أفرز أهداف أمريكية جديدة في المنطقة، مثل ما أدى إلى تغيير وسائل تحقيق أهداف الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط نحو الاستخدام المباشر للقوة العسكرية لحماية هذه الأهداف والحفاظ عليها أو لتحقيق أهداف جديدة أصبحت من صميم هذه الإستراتيجية في المنطقة.

تأكيد أهمية منطقة الشرق الأوسط:

حين نشأت القيادة المركزية الأمريكية التي جاءت بغرض حماية مصالح واشنطن في الشرق الوسط، وآسيا الوسطى، في ظل المنافسة الطاحنة حينذاك مع الاتحاد السوفييتي، مؤكداً أنه بعد مرور أربعة عقود على نشأتها وحدوث تغيرات جيوسياسية واسعة النطاق فإنها أضحت تمثل ركناً أساسياً من أركان حماية مصالح واشنطن في مختلف مناطق العالم. وأن منطقة الشرق الأوسط تضم أهم ممرات التجارة العالمية مثل قناة السويس التي يمر منها ثلث التجارة العالمية، ومضيق هرمز الذي يمر به أكثر من ربع إجمالي النفط العالمي، علاوة على أنها تنتج أكثر من 37% من النفط العالمي، و18% من الغاز. كما تضم إيران القادرة على ضرب منطقة الشرق الأوسط بأكملها بما تمتلك من صواريخ باليستية وقدرات جوية بالنظر إلى امتلاكها أكبر قوة جوية من الطائرات بدون طيار في المنطقة، ودأبها على تطوير برنامجها النووي، وتنفيذ هجمات إلكترونية، بما قد يسبب اختناقاً في ممرات التجارة العالمية في المنطقة، ويضر بمصالح واشنطن وحلفائها.

الخطير والخطأ في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط أن واشنطن تحاول دائما أن تمسك بكافة خيوط اللعبة مع كل الأطراف المتناقضة، وتعمل في الخفاء أكثر مما تعمل في العلن (أي السياسية الباطنية) ففي الوقت الذي تتعامل فيه مع الحكومات والأنظمة الشرعية الصديقة، تتعامل سرا مع جماعات الإسلام السياسي التي يمارس بعضها الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك الجماعات الطامحة للوصول إلى السلطة عبر القوة ولا ترى واشنطن غضاضة في ذلك، بل تعتبره إحدى أدوات السياسة الأميركية التقليدية التي تجيد إدارة المتناقضات وتتعامل مع الشيء وضده، وهذا هو واقع وحقيقة السياسة الأميركية التي قد يعتقد البعض أنها تتعامل وفقا لما هو ظاهر.

الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط تنطلق من مرتكزين اثنين، الأول، يتمثل في اتخاذ القرار السليم بعد تجربة جميع الخيارات والبدائل، أو كما قال الزعيم البريطاني ونستون تشرشل إن «الأميركيين يفعلون الشيء الصحيح بعد تجريب كل البدائل الأخرى، والمرتكز الثاني، يعتمد على دور المؤسسات الأمنية، والاستخباراتية، ومراكز الفكر وليس الدور العسكري المباشر، وهذه المؤسسات تعمل انطلاقا من ثوابت هدفها الرئيس هو خدمة المصالح الأميركية بغض النظر عن مصالح دول المنطقة، وأيضا بغض النظر عمن يحكم ومدى علاقته بواشنطن، فمن المعروف أن الولايات المتحدة ليس لديها وفاء للأصدقاء من الحكام في أي دولة، وهي تتخلى بسهولة عن أي حاكم عندما يتعرض لظروف صعبة داخلية في بلده سواء بترتيبات أميركية أو نتيجة لمتغيرات داخلية، والأمثلة على ذلك كثيرة منذ تخليها عن شاه إيران، مرورا بالرئيس السادات، ومؤخرا بعد أحداث الربيع العربي تخلت عن مبارك وزين العابدين بن علي وغيرهما، والثابت أيضا أن لدى واشنطن نهجا لا يتغير كثيرا في المحافظة على مصالحها والمصالح الصهيونية بالتعامل مع من يستطيع المحافظة عليها بغض النظر عن الأيديولوجيات، أو نمط الحكم، أو المثاليات السياسية، أي اتباع الميكيافلية البراغماتية دون أي اعتبارات أخلاقية، كما أنه من المعروف أن مصالح الكيان الصهيوني مهمة جدا بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وهي مقدمة على مصالح كل أصدقاء واشنطن، ويتضح ذلك من أن الكثير من المستشارين الأميركيين يعتنقون الديانة اليهودية أو على علاقة وثيقة بالكيان الصهيوني ويعتقدون أن مصلحة الكيان الصهيوني  الكبرى حجر الزاوية في الشرق الأوسط.

لم تعد الولايات المتحدة راغبة في وجود قيادات عربية محسوبة على واشنطن مثل مبارك أو زين العابدين بن علي أو غيرهما كنتيجة ودرس لما حدث في الربيع العربي، وتريد أن تبقي على شعرة معاوية مع الشعوب وجماعات الإسلام السياسي أومن سيصل إلى السلطة مستقلا بغض النظر عن اتجاهاته أو قناعاته، وهي تعتبر أن من سيأتي إلى السلطة في الشرق الأوسط سوف يحتاج إلى واشنطن ويعمل معها على غرار جماعة الإخوان المسلمين التي أثبتت أنها قريبة من واشنطن بدرجة تفوق بعض الزعامات التي كانت محسوبة من قبل على الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.

لذلك فالولايات المتحدة حريصة على الحوار مع جماعات الإسلام السياسي وهي تستقبلها بشكل منتظم ودائم وستظل هكذا، وتعتقد أنها قادرة على إقامة أقوى الروابط معها وتوظيفها لخدمة مشروعها نظرا لحاجتها إليها، وضعف تكوينها السياسي، وعدم خبراتها في الحكم، إضافة إلى احتياجها للتمويل الأميركي، وللحقيقة أن علاقة واشنطن مع هذه الجماعات قديمة قدم نشأتها وفي كثير من الأحيان كانت تحصل الكثير من الجماعات المتطرفة على شهادة ميلادها من واشنطن، ثم تحصل بعد ذلك على الدعم المالي واللوجيستي والاستخباراتي الأميركي.

وأميركا لا تمانع من وجود جماعات مسلحة داخل الدول العربية تمثل تهديدا للسلطة المركزية في بلادها، بل تشجع على وجود هذه الجماعات لاستخدامها في الوقت المناسب وضمن تكتيكات السياسة الأميركية، وخير مثال على ذلك «حزب الله» في لبنان، والحوثيون في اليمن، و«داعش» و«النصرة» والجماعات المتطرفة الإرهابية الأخرى في العراق، وسوريا، وليبيا، ومصر وغير ذلك.

كما أن الولايات المتحدة تعمل على زيادة حدة الصراع المسلح بين الجماعات الإسلامية المختلفة، بل تسلحها سرا حتى تصفي هذه الجماعات بعضها بعضا، وتظل في حالة حرب دائمة بما يوفر على أميركا تكلفة وتبعات الحرب المباشرة على هذه الجماعات، وبما يشوه صورة الإسلام.

وفي المقابل تهدف أميركا إلى إضعاف القدرات العسكرية للدول العربية وتحول دون امتلاك هذه الدول قدرات عسكرية وقتالية عالية أو أسلحة متطورة، فيما تعتمد واشنطن على القدرات الاستخباراتية بدلا من القوة العسكرية المباشرة لها في الدول العربية، وأيضا تخطط إلى تقليل تصدير الأسلحة إلى دول المنطقة وسوف يتضح ذلك بشكل أكثر تأثيرا في المستقبل المنظور، فهي غير مهتمة بتسليح الجيوش النظامية في الدول العربية بقدر خططها لاستنزاف قدراتها في حروب داخلية.

وتهدف السياسة الأميركية أيضا إلى تقليل، ثم إيقاف الاستثمار في مجال النفط في أعماق البحار أي الاستثمار في مجال النفط مرتفع التكاليف، وأيضا عدم التوسع في استخراج النفط الصخري، وسوف تعتمد أكثر على النفط الخليجي والعربي منخفض القيمة بعد أن تدفع بانخفاض أسعاره إلى مستويات متدنية مع محاولة إغراق سوق النفط بالكثير من المعروض، ومن ثم انخفاض مداخيل الدول الخليجية خاصة والعربية النفطية عامة بما يترتب عليه تقليل الإنفاق في هذه الدول وتقليص حجم الموازنات الخليجية بصفة خاصة، وإيجاد حالة من الركود الاقتصادي وتعطيل المشاريع التنموية ومن ثم إضعاف هذه الدول. وفيما يتعلق بترتيب الأوضاع الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة سوف تتوصل قريبا إلى حالات من الوفاق السري غير المعلن مع بعض الأطراف التي تجاهر بالعداء معها بغرض ضمان وجود حالة مستمرة من الصراع وعدم الاستقرار في المنطقة، وبما يزيد الحاجة إلى الدور الأميركي بعد أن بدأت واشنطن تشعر بتناقص وضعف هذا الدور، وذلك على النحو التالي:

فيما يتعلق بإيران، سوف تنفذ واشنطن سياسة تجاه طهران مفادها رفع الحصار الاقتصادي عنها، لكن سوف تحافظ على استمرار سياسة «خنق» إيران «اقتصاديا»، وستظل أميركا تتحكم في إيران من الناحية الاقتصادية أو تكون في حكم الوصي الاقتصادي عليها، مقابل إعطاء طهران دورا أكبر في المنطقة.

وعليه فإن الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط لا تكترث، ولا تعطي أهمية لاحتياجات دول المنطقة، ولا تهتم بشعوبها وقضاياهم واحتياجاتهم، أو حتى النخب الحاكمة، التي تتعامل معها تكتيكيا وفقا لمتطلبات كل مرحلة وظرف سياسي أو تاريخي، وطبقا لما يحمي مصالح واشنطن وإسرائيل فقط، وبذلك فإن السياسة الأميركية متغيرة ومتلونة مع كل الدول، فيما تظل ثابتة تجاه ما يحقق مصالح واشنطن والكيان الصهيوني ، وعلى دول المنطقة أن تبني استراتيجياتها وتحالفاتها وفقا لظروفها، ومصالحها، واحتياجاتها، والمخاطر والتحديات القائمة والمحتملة، دون التعويل على الدور الأميركي.





المراجع:

ياسمين أيمن، 3 أبريل، 2023، ما تحديات الأمن القومي الأمريكي في الشرق الأوسط وأفريقيا؟، إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية.

عبد العزيز بن عثمان بن صقر، 24 فبراير 2015، الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.. ثوابت ومتغيرات، جريدة الشرق الأوسط

المقالات الأخيرة